أبجديات منهجية غائبة في الدراسات التراثية المعاصرة

في حياتنا الثقافية والفكرية الحاضرة، ثمة ظواهر عديدة تدلل على أن خللاً خطيرًا بدأ يدب في هذه الحياة، وعلى وجه التحديد فإن الخلل قد أصاب مادة هذه الحركة الثقافية والفكرية وقوامها؛ أعني الحقيقة ومكانتها ومفاهيمها وضوابط البحث عنها.
فلقد تحولت الأبحاث الثقافية والفكرية المعاصرة عن دورها الأساسي العلمي والأخلاقي، في الكشف عن الحقيقة وتجليتها للأذهان، وإضاءة جوانبها والتجرد لها إلى نوع من الاستثمار والتوظيف لهذه الأبحاث، من أجل طمس الحقيقة والتعتيم على معالمها، والاحتيال على مرتكزات البحث فيها وضوابطه البديهية.. ويحدث هذا الخلل تحت تأثير دوافع شتى ونوازع متباينة من الاستئجار السياسي، إلى الانتماء التنظيمي أو العقائدي إلى الولاء المادي والأدبي لبعض المؤسسات السخية، إلا أن الجريمة على كل حال واحدة وثابتة، ألا وهي قتل الحقيقة.
ولم ينأ البحث في تراثنا العربي والإسلامي عن انعكاسات هذه الحالة المرضية المؤسفة(1)، بل لا نتجاوز العدل إذا قلنا إن هذا التراث بفعل التحولات الاجتماعية الجديدة، قد ناله القسط الأكبر من هذا الطمس والتعتيم والاحتيال من كافة الاتجاهات الرافضة أو المعادية له.. وعلى الرغم من براعة هؤلاء المحترفين، إلا أننا لا نعدم الوقوف على إشارة هنا أو لمحة هناك من عثرات القلب وفلتات القلم، التي يشاء الله تعالى أن يكشف للناس من خلالها، الهوية الحقيقية لهذه الأبحاث ونوايا أصحابها تجاه التراث. وهكذا وجدنا من يقرر منهم في بحثه حول التراث، أن مثل هذا البحث لا يعنيه البحث عن قيمة ذاتية متجردة في التراث، وإنما هي طريقة لازمة لأصحاب الأيديولوجيات التقدمية، كي يستطيعوا النفاذ من خلالها إلى الجماهير المسلمة عن طريق لغة التراث وتحت رايته، بحيث يدمجوا قضايا التراث في قوالبهم الأيديولوجية(2).
إن مما لا ريب فيه، أن مثل هذه الظواهر وتلك المواقف، تعطينا المبرر الأخلاقي والموضوعي، لتعرية أصحابها وكشف زيف كتاباتهم، وإضاءة الجوانب الخفية والخطيرة التي يتحركون من خلالها، بهدف محاولة تدمير هذا التراث أو التعتيم على جوانب الحقيقة فيه.
وعلى هذا السبيل نرى من الضروري في هذا المقام، الكشف عن بعض القواعد العلمية والضوابط المنهجية المشروطة لأي بحث في التراث، ولا سيما تلك التي أهدرت عمدًا في العديد من دراسات المعاصرين. وبداية ينبغي التنبيه من أن المراد بالتراث بالضبط الاصطلاحي المتواضع عليه، هو النتاج العقلي والنفسي والحركي والوجداني بكل تشعباته، والتي أفرزها الوجود العربي الإسلامي في حقبه المختلفة، وأن الحديث عن القرآن المجيد والسنة المشرفة بوصفهما تراثًا، هو من قبيل التجوز غير المحمود -من وجهة نظرنا- في أحيان كثيرة؛ فالتراث هو النتاج الإنساني الذي يخلفه السابق للاحق، ومن ثم فلا يجوز بحال الخلط بين الوحي الرباني وبين هذا النتاج البشري، فلكلٍّ خصائصه ومعالمه ومقوماته الذاتية، وبالتالي فلكلٍّ منهجه في النظر والبحث الذي تقتضيه خصوصياته، وأن الخلط بين كلا المنهجين من شأنه أن يسقط كافة نتائج البحث حيث ترتبت على فساد منهجي، وفوق ذلك فإن من شأنه أن يسقط وصف النزاهة العلمية عن صاحبه.

التراث هو النتاج الإنساني الذي يخلفه السابق للاحق، ولا يجوز بحال الخلط بين الوحي الرباني وبين هذا النتاج البشري، فلكلٍّ خصائصه ومعالمه ومقوماته الذاتية، وإن الخلط بين كلا المنهجين، من شأنه أن يسقط كافة نتائج البحث

وفي الإجمال، فإن النظر في الوحي وما ارتبط به من اجتهاد، سواء كان هذا النظر على وجه الإنشاء أو على وجه المفاضلة والترجيح، لا يجوز إلا لمن استكمل شرائط الاجتهاد الشرعي وقواعده العلمية المثبتة في كتب أهل العلم.
حيادية البحث وموضوعية التحليل
إن الموقف التاريخي بوصفه حالة إنسانية صاغتها عدة حوادث جزئية، ينبغي للباحث أن يقرأه من خلال هذه الجزئيات المفردة التي شكلته وصاغته، ولا يجوز لباحث أن يتقدم بإضافة أو حذف حسب رؤيته الشخصية عند محاولته استحضار الموقف التاريخي، إذ من المتقرر أن التاريخ -بوصفه علمًا- هو ما يُرى لا ما يتخيل، وأن الموقف التاريخي -بوصفه نتاجًا لحادثات وقعت- هو ما كان فعلاً لا ما يجب أن يكون.
وبالتالي فنحن مضطرون إلى إسقاط كافة النتائج والتحليلات التي خرج بها باحث قد قرر سلفًا أن النظرية الاشتراكية العلمية هي المنظار الذي يجب أن ننظر من خلاله إلى التراث، فما استقام منه لها قبلناه “وأما ما لا يستجيب منه لذلك فإنه يعزل تاريخيًّا”(3).
وأقول يجب إسقاط كافة نتائج هذا البحث وتحليلاته، لأنها -حسب منهجه- لن تخرج عن كونها حلمًا موهومًا انقدح في مخيلة الباحث تحت ضغط أهواء فاسدة مترسبة فيها، ولن تتحول أبدًا إلى تحقيق علمي تاريخي أو تراثي.
صرامة البحث وأخلاقياته
إن هذا التراث من حيث جذوره العميقة وروافده الجوهرية وروحه العامة، يمثل إفرازًا دينيًّا بكل أبعاده، هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن هذا التراث من حيث نتائجه العقلية والمعرفية، وحركاته السياسية، وإبداعاته الوجدانية والإنسانية في شتى مناحي النشاط الإنساني، هو بمثابة ضمير أمة بأسرها، تناقلته وأثرته عبر أجيالها المتعددة، ومن ثم كان البحث في هذا التراث يتعرض حتمًا للخوض في ضمير أمة أو قضية دين، مما يكون من شأنه فرض صرامة ودقة في البحث أشد ما تكون الصرامة والدقة، وأخلاقيات في التناول أسمى ما تكون الأخلاقيات لجلال الأمر وخطورته.
كما أننا حين ننسب حركة ما، أو موقفًا ما، أو مذهبًا ما إلى الإسلام، فإنه يلزمنا ضرورة أن نحاكم تلك الحركة أو ذلك الموقف أو هذا المذهب إلى الإسلام ذاته ووفق قواعده، وبالتالي يجب إخضاع ذلك كله لهيمنة القرآن والسنة، بوصفهما مادة الإسلام وقوامه، وأن أي تجاوز لتلك المبدئية المنهجية تحت أي دعوى كانت، لن يعدو كونه افتئاتًا على الإسلام وتعتيمًا على الحقيقة وتعمدًا للإضلال.
خصوصية حركة التاريخ الإسلامي
إن التراث الإسلامي بوصفه نتاجًا لخصوصيات حضارية متميزة قامت وارتبطت ببناء عقائدي وعبادي وتشريعي وقيمي متميز، لا يصح ولا يجوز ضبطه وفقًا لقوالب ومفاهيم ومصطلحات غريبة عنه، تمثل إفرازات لخصوصية حضارية أخرى قامت وارتبطت ببناء عقائدي وعبادي وقيمي وتشريعي مخالف أو مناقض للخصوصية الإسلامية، لأن مثل هذا الإخضاع والضبط لن يخلو من أحد أمرين:
أولاً: إما أن يؤدي بالباحث إلى تعديل هذا القالب أو المفهوم أو المصطلح الغريب في حدوده ودلالته وإيحاءاته، وبذلك يفقد مصداقيته العلمية الذاتية، مما يجعل اللجوء إليه على هذه الحال محض عبث غير مبرر.
ثانيًا: وإما أن يؤدي بالباحث إلى تعديل مفاهيم التراث ذاته وحقائقه ومعالمه، بحيث يمكن تفريغها في هذه القوالب المجلوبة أو ضبطها وفق هذه المفاهيم أو الاصطلاحات الوافدة، وفي ذلك ضلال أي ضلال، وحيف أي حيف، وإهدار للحقيقة بكل معاني الإهدار.
فمحاولة إقحام تعبير القرون الوسطى -على سبيل المثال- كقالب تاريخي تضبط من خلاله حركة التاريخ الإسلامي وتراثه، سيؤدي حتمًا إلى إهدار الحقيقة العلمية والتاريخية على النحو الذي بينّاه آنفًا.
إذ من المعروف أن تعبير القرون الوسطى، كان إفراز لخصوصية تاريخية في الحضارة الأوروبية، وهو موضوع هناك -على وجه التحديد- للتعبير عن العصور الأوروبية المظلمة التي توسطت بين إشراقات الحضارة الهيلينية، والبعث الحضاري الأوروبي الحديث؛ أي إنه يعني في حركة التاريخ الإنساني العام، تلك المرحلة التاريخية التي برزت فيها إشعاعات الحضارة الإسلامية المبدعة والخلاقة، حيث هيمنت على حركة الفكر في التاريخ الإنساني.. فإذا ما أراد باحث نقل هذا القالب التاريخي ليضبط من خلاله حركة التاريخ الإسلامي، فهو إن التزم حدوده ودلالته وإيحاءاته، سينتهي حتمًا إلى جعل عصور النهضة الحضارية الإسلامية الوضيئة، عصور ظلام وانحطاط، وبالتالي يتعامل مع إفرازاتها الفكرية والثقافية والمعرفية والإنسانية من هذا المنظور، وهذا هو الغالب الشائع في دراسات المعاصرين ممن لجأوا إلى هذا القالب.
ثالثًا: وإما أن يعمد الباحث إلى التبديل والتحوير والتغيير في حدود هذا القالب ومعطياته وإيحاءاته، وهنا يحق أن نسأل: فما هي إذن الضرورة العلمية الملحة التي تجعلني كباحث، ألجأ إلى هذا القالب التاريخي الغريب إذا كنت قد تثبت من عدم مصداقيته للتعامل مع حركة التاريخ الإسلامي؟ اللهم إلا أن يكون الأمر تعبيرًا عن روح الهزيمة النفسية أمام النموذج الأوروبي، أو قصدًا إلى التشويش على العقول والتعتيم على الحقيقة، أو عدم إدراك لهذا الواقع.

(*) كاتب وباحث مصري.
الهوامش
(1) في تعليقه على دراسات الدكتور محمد النويهي في التراث يقول الدكتور طيب تيزين: “إنها حلقة متقدمة من تكتيك فكري سياسي”، “من التراث إلى الثورة”، ص:367، طبعة بيروت الثالثة 1979م.
(2) في سبيل ثقافة عربية ذاتية، عبد الله النديم، ص:112-113، طبعة بيروت الأولى 1983م.
(3) من التراث إلى الثورة، الدكتور طيب تيزين، ص:1103.