كيف يمكننا بناء ثقافة الوسطية في ظل غياب نقطة لقاء وتقابل ووفاق بين ثقافة الأبيض والأسود، الاستتباع المطلق والرفض المطلق، الحوار والإقصاء “الشحّ” و”الإسراف” البناء والهدم، الهوية واللاهوية، العنف والتسامح، الظلم والعدل… ثقافة الغالب أو المغلوب، ثقافة الوسط المعاصرة والعولمة ، ثقافة المادة و الروح، وغيرها من الثقافات التي كان لها حضورها وقوة دفعها وتأثيرها على المجتمع البشري سلبًا وإيجابًا، مما يميزها بصفة الحياة والديمومة بين ثقافات كثيرة ماتت واندثرت عبر الزمن.

وبعيدًا عن برمجة وعينا الذاتي وتموقعنا داخل دائرة الإطار الدفاعي الضيق، الذي يحكمه رد الفعل الآني اللامفكَّر فيه، والذي بسببه تم استهداف موقع الوسطية في عالمنا العربي والإسلامي، علينا أن نعيد بناء موقع الوسطية بناء تاريخيًّا ملموسًا متينًا. واليوم ليس صدفة ولا اعتباطًا أن يغلب الفكر الدفاعي بآلياته الانكماشية والتبريرية الأيديولوجية داخل المجتمعات الإسلامية، وأن يضمر إنتاج المعرفة الحقيقية التي يمكن أن تفتح أبوابًا جديدة للعمل، وأن تحدث منعطفًا حقيقيًّا في واقع المسلمين وفي حاضر البشرية.
نعم، إن تدمير الموقع الروحي الذي يمكن أن يشرف منه المسلم على العالم وعلى الناس، ويتمكن من خلاله كسب مفاتيح تسريع التغيير وبناء الحضارة والوصول إلى أفئدة الأمم الأخرى، يبدأ بتغييب سؤال الهوية: من نحن؟ ويمكننا أن نجيب على هذا السؤال بكيفيتين: من جهة المعنى الإرادي للهوية، ومن هذه الزاوية لسنا ما نحن عليه، ولكننا ما نريد أن نكون عليه وأن نصير إليه، فالهوية هنا إمكانية وأفق للتطلع أمامنا. ويمكننا أن ننظر للهوية نظرة سوسيولوجية، أي من جهة ما نحته الزمن والآخرون فينا، فنحن لسنا مجرد فاعل تاريخي حر، ولكننا أيضًا مفعول به. ومن هذه الزاوية يمكن أن نطرح السؤال السوسيولوجي: ما هي القوى التي تخترقنا وتحددنا على ما نحن عليه؟ وحين نطرح هذا السؤال بجدية، سنكتشف أننا لسنا سادة أنفسنا في كثير مما نفعل، وأن ما تعرَّضت وتتعرض له الأمة وطلائعها من هجمات ضارية، قد أحدث تشويهات هامة في وعينا الذاتي، وحسنا التاريخي. ومن المعروف سوسيولوجيًّا أن العنف الشديد الطويل، له آثار تشويهية في الغالب، ولا يمكن أن نفلت من هذه الآثار إلا بالاعتصام المعرفي والعملي بالمقام الروحي للوسطية. فالوسطية هنا قيمة تحررية وملاذ من التشويهات العنيفة للهوية وللوعي الذاتي.
بهذا المعنى فإن الوسطية، هي الموقع الذي يمكن لمسلم هذا الزمان أن ينطلق منه وينشئ فعلاً تاريخيًّا متحررًا من التشويهات العنفية. الوسطية كموقع روحي، كقيمة تأسيسية لكينونة الإنسان، كمبدإ تأسيسي للأمة الإسلامية، هي الأفق الذي ينبغي أن تتحرك نحوه الأمة، لأن الأمة الآن لا ترى كثيرًا مما ينبغي أن تراه.
ولأن ثقافة وسطية الأمة -أيّة أمة- هي المظهر الأبرز الدال على قوة مبادئ ومعتقدات وحضارات الشعوب في بناء الحضارات، وهي عنصر هام في عملية التنمية الشاملة والبناء الحضاري، فبمقدار شمولية ثقافة الوسطية وتوازنها واستقرارها وصحة متبنياتها، يرتفع عمود الحضارة وتترسخ أركانها في المجتمع، وليس لقوة -مهما بلغت- أن تهزم أو تهدم حضارة قائمة على ثقافةِ ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾(البقرة:143). لأن الوسطية هي جهاز فعّال ينتقل بالإنسان إلى وضع أفضل، ووضع يواكب المشاكل والظروف الخاصة التي تواجه الإنسان في هذا المجتمع أو ذاك في بيئته وفي سياق تلبيته لحاجاته الأساسية. وعودتنا إلى بناء ثقافة الوسطية، والانطلاق منها إلى المشاركة والمنافسة الحضارية الفاعلة، يقتضي منا إعادة النظر في صياغة جديدة للأمور الآتية:

1- بناء ثقافة وسطية الفكر الإسلامي

لابد لنا أن نؤكد على أصول العقيدة الثابتة القطعية في كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وفصلها من فروعها، والتأكيد على الأصول وترك الفروع التي اختلف حولها العلماء، حتى لا نتمزق من جديد.
فثقافة الوسطية ينبغي أن تؤصِّل:
• لمنهج في التعامل مع تيارات الفكر الإسلامي القديم، واعتبارها تيارات اجتهادية جابهت الفلسفات والتيارات الفكرية في زمانها فأصابت وأخطأت، وليس من المصلحة إحياؤها اليوم وإدارة صراعات جديدة عليها.
• لتقبُّل مواجهة الأفكار الجديدة بأسلوب جديد ومادة معرفية جديدة، منطلقين من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

• تبني المنهج الشمولي في فهم الإسلام الذي يجمع بين العقيدة والشريعة والسلوك والحركة والبناء الحضاري من خلال منهج عقلي أصولي سليم.
• الإيمان بأن الفقه الإسلامي فقه متجدد، لا يقف عند زمن معين ولا مذهب معين، ومواجهة مشكلات العصر من خلال مقاصد الشريعة وقاعدة الأيسر وليس الأحوط.
• دراسة الأنظمة العامة والمبادئ الكلية في الشريعة الإسلامية، بمواجهة ما عند الغرب من مبادئ ونظريات قانونية كلية.
• دراسة السنن الكونية دراسة علمية موضوعية، والاستفادة منها في الدخول إلى العصر الحضاري الإسلامي الجديد.
• استقراء وتفكيك وتحليل مختبري للعوامل المؤدية لمظاهر الخرافة والبدع والتواكلية والانهزامية واللاإرادية الإنجاز والعنف والانحراف، لا لاقتصار على تدويل ثقافة الردع والاستنكار والمحاربة.
• تأسيس مراكز دراسات وأبحاث إستراتيجية، وتأهيل أطر وكوادر علميًّا ومعرفيًّا وإعلاميًّا وسياسيًّا وسوسيولوجيًّا وتكنولوجيًّا، للرد على الغزو الثقافي العولمي من خلال المنهج السابق في الفكر الإسلامي بجميع الوسائل التي يعتمد عليها، سواء من خلال الأنماط الفكرية، أم الفنية، أم الأدبية التي يعرضونها من خلال أفكارهم المناقضة للإسلام.

2- بناء وسطية الفكـر السياسـي

لابد من تأصيل منهج وسطي كفيل بنقد تاريخي شامل لنظام الحكم في المجتمعات الإسلامية من بعد معركة صفين وإلى اليوم، وإثبات أن بعض التطبيقات الاستبدادية التي سادت في بعض تاريخنا مخالف لنظام الحكم الشورِي في الإسلام، وأنه جلب على الأمة الإسلامية -عبر العصور- مآسي جمّة وخرابًا شاملاً، وأنه من أعظم أسباب سقوط المجتمع الإسلامي وأزماته قديمًا وحديثًا.
إن نظام الشورى في الإسلام كما طبّقه الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون، وكما يمكن أن يلجأ اليوم إلى الآليات والأساليب المعاصرة المنسجمة مع روح الإسلام لتحقيق مقاصد الشورى، هو الذي يحقق كرامة الإنسان المسلم، ويعيد إليه حقه في المعارضة والتعبير عن آرائه بحرية أخلاقية منضبطة. وما لم تساهم الحكومات العربية اليوم، مع النخب السياسية والفكرية، في إعادة بناء وسطية الفكر السياسي والإيمان بالديموقراطية والتعددية والحرية الفكرية والسياسية، فإن النتيجة ستؤدي إلى المزيد من العنف الداخلي والخارجي.

3- بناء ثقافة الوسطية في الفكـر الاقتصـادي

استنباط المنهج الوسطي في الفكر الاقتصادي والنظام الاقتصادي الإسلامي المعاصر من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم واجتهادات الفقهاء المجتهدين عبر العصور، مع التعمق في استنباط فقه الواقع مع ما استجد من قضايا الاقتصاديات المعاصرة، والتي تتلاءم مع روح الإسلام. ولعل المنهج الوسطي في بناء الاقتصاد، كفيل بالقضاء على التفاوت في توزيع الثروات، ويعيد التوازن إلى المجتمع الإسلامي، ويحدد وظيفة الدولة الاقتصادية، وذلك من خلال:
• وضع مناهج دراسية في وسطية الاقتصاد الإسلامي، وبيان مرونته في منع الاستغلال وعدم التركيز على معالجة واحدة في كل حالة زمانية أو مكانية، وأنه يقرر الأصول ويفتح حرية الحركة أمام الاقتصاديين لحل المشكلات الاقتصادية حسب الظروف المختلفة.
• قراءة قيمية للمنهج الوسطي الاقتصادي في مشروعية التملك، مع إحاطته بسياج من القيود حتى لا يؤدي إلى التعسف في استعمال حق الملكية، ويشرع الإسلام مع الملكية الفردية الملكية العامة وملكية الدولة.
• توسيع مجال الدراسات في وسطية الاقتصاد الاسلامي، في احترام قيمة العمل المستخلصة من مفهوم الاستخلاف، وتكافؤ الفرص وتغليب التوازن في التكافل الاجتماعي، لتحقيق التنمية الشاملة من منطلق القاعدة الشرعية “حيثما كانت مصالح العباد فثمة شرع الله”.
هذه هي بعض الملامح العامة لبناء ثقافة وسطية للاقتصاد الإسلامي، المتميز عن باقي الأنظمة الاقتصادية بإعطاء الأولوية لمحورية الإنسان في الكون وليس المادة والربح والقوة والتمكين، لابد أن يؤدي عند تطبيقه، إلى طريق جديد للتنمية في المجتمع الإنساني، طريقٍ وسطٍ ليس آليًّا يبغي الربح وحده أو الكفاية الاقتصادية وحدها، إنما هو طريق إنتاج اقتصادي أخلاقي إنساني، يفي بحاجة الإنسان وضروراته وشيء من كمالياته، إن أمكن ذلك.
فإذا أعطينا الأولوية لإعادة قراءةِ وصياغة منهج وسطي في الاقتصاد الإسلامي، سنتمكن من الاستفادة من إمكانيات المسلمين الاقتصادية الضخمة المتنوعة في جانب التشييد والاستثمار والمعادن والزراعة، وسنواجه العولـمة المركزية بعالمية عربية وإسلامية وشرقية. إن المنهج الوسطي سيؤهل كوادرنا بخبرات التعامل مع الاقتصاد العالمي من خلال تبادل المنافع، والتخطيط للتنمية تخطيطًا ذاتيًّا جيدًا، مع الاستفادة من خبرات وتنظيمات الحضارة الغربية واقتحام المنافسة الحضارية بإقامة سوق إسلامية مشتركة، تنقل من خلالها الأرصدة العربية والإسلامية الضخمة إلى العالم، بعد إعادة الثقة في وحدة الأمة.

4- بناء ثقافة وسطية الفكر الاجتماعي الإسلامي

لابد من تأصيل منهج الوسطية في النظام الاجتماعي الإسلامي، وذلك من خلال الأمور الآتية:
• نشر ثقافة الوسطية في تدويل ونشر قيمة مبدإ تكافؤ الفرص في المجتمع الإسلامي الموزع بين جهود الرجال والنساء يكمل بعضهم بعضًا، بدون مفاضلة في أصول الخلقة، ولا مفاضلة لجنس على آخر في أصل الخلقة، بل كل جانب يفضل الآخر فيما كلف به من واجبات شرعية.
• إقرار المنهج الوسطي الإسلامي في تشريعاته الخاصة بإنسانية المرأة، واستقلال شخصيتها، وعدها أهلاً للتدين والعبادة، وإقرار حق المبايعة لها كالرجل، ودعوتها إلى المشاركة في النشاط الاجتماعي المنضبط بضوابط الأخلاق، وقد سمح لها بالأعمال التي تتفق مع طبيعتها، وشرع لها نصيبها في الميراث وإشراكها في إدارة شؤون الأسرة وتربية الأولاد، وأوجب معاملتها بالمعروف واحترام آدميتها، كما أنه ساوى بينها وبين الرجال في الولاية على المال والعقود، وأقر لها شخصيتها القضائية المستقلة.
ومن هذا المنطلق، لابد من إعادة النظر في مشكلاتها الاجتماعية في ضوء أحكام الشريعة الإسلامية العامة، ومقاصدها الحكيمة وغاياتها في الحياة، لتحديد مسؤوليتها الأسرية والاجتماعية.
• وسطية الإسلام في تحقيق العدل والسلم وحفظ حقوق أهل الأديان جميعًا، لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين، إلا فيما يخص القضايا التشريعية الخاصة بكل طرف في إطار المجتمع الإنساني.
• التركيز على وسطية الإسلام في بناء نواة الأسرة في المجتمع الإسلامي على القواعد الإسلامية؛ في الطهارة والعفاف والبر والإيثار والتكافل، والابتعاد عن الأمراض الاجتماعية والفوضى الجنسية والاجتماعية، وخرق نظم ومبادئ الأخلاق التي يقرها الإسلام.

5- بناء ثقافة الوسطية في الفكر التربوي والاعلامي

أمام هجمة الفضائيات العولمية، وتخطيطها العلمي والفني الذكي في عرض أفكارها بطرق متنوعة مؤثرة عبر الأنماط الفنية من المسلسلات والأفلام والتعليقات والتقارير التي تدخل يوميًّا مئات الملايين، من أجهزة التلفزيون والإذاعة والإنترنت على وجه الأرض، لا يمكن الحفاظ على الذات والأصالة والخصوصية الدينية والفكرية، إلا بتربية أبناء الأمة تربية مخططة، تُشعِرهم بأنهم أبناء أمة التوحيد والإيمان، وتنشئتهم نشأة إسلامية، وتحصّنهم فكريًّا وأخلاقيًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا، بحيث يعلمون بيقين كامل أنهم متميزون عما يشاهدون. ويكون ذلك:
• بالاهتمام بتربية الأسرة المسلمة وتثقيف أفرادها، وتوجيههم من خلال أجهزة الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، ومن خلال المناهج الرصينة في التربية الدينية، وكتب اللغة العربية، وكتب التاريخ والجغرافية والثقافة العربية والوطنية العامة، وإعادة الاعتبار للعلاقة بين الدين والعلم من خلال الكتب والمجلات والجرائد والدوريات الخاصة والعامة، والمخيمات والدورات التدريبية الشبابية في الأقطار العربية أو الإسلامية.
• وبإعادة بناء ثقافة وسطية إعلامية هادفة، تستثمر نصوص العُروض المسرحية والأفلام الدرامية ودُور العَرض السينمائية في إيصال الرسالة الأخلاقية والقيمية، التي تمكن من تأهيل وتكوين أجيال تشعر بانتمائها الإسلامي وانتسابها الحضاري للأمة العربية والإسلامية.
• ومن خلال وحدة المعرفة التي قامت عليها التربية الإسلامية التي تبغي صياغة الفرد صياغة إسلامية حضارية، وإعداد شخصيته إعدادًا كاملاً من حيث العقيدة والذوق والفكر والمادة، حتى تتكون الأمة الواحدة المتحضرة التي لا تبقى فيها ثغرة تتسلل منها الإغراءات العولمية اللادينية الجنسية الإباحية.
إننا نحتاج في بلاد الإسلام كلها، إلى أن نقوم بحملة إسلامية شاملة عبر مخطط حضاري معاصر، تشترك فيها الدول والمؤسسات الرسمية والشعبية والجمعيات والأحزاب جميعًا، لأن مواجهة العولـمة من الخطورة بحيث يجب أن نتعامل معها من مواقع قوية تشهد على وحدة الأمة وغاياتها النبيلة في هذه الحالة لخيرها ولخير البشرية جميعًا.
إن إستراتيجية إعادة بناء ثقافة الوسطية مرتبطة كل الارتباط بمفهومي الهوية والحوار. والسؤال: كيف يمكن أن نبني ثقافة وسطية إن لم تكن بيننا نقاط مشتركة نتحاور فيها؟ لأنه وفي ظل غياب منهج الوسط في تقييم القواسم المشتركة، يكون الحوار أكذوبة وخداعًا مجتمعيًّا، وتأتي الاتفاقات بين التشكيلات والانتماءات المختلفة هشَّة. فمن الضروري تأصيل منهج وسطية القواسم المشتركة. ولا يعني هذا تبشيرًا بنوع من العالمية اليوتوبية؛ فالمسألة ليست على هذه الصورة. القضية الجوهرية هي: كيف يمكننا أن نتبنى نهج الاعتدال والوسط للحوار والتفاهم مع الأطراف المخالفة في الفكر والرأي والدين والسياسة، من غير نقاط متشابهة ومشتركة تؤهلنا للخروج بنتائج عملية للمشاركة الحقيقية على تنوع الوسائل والآليات في صنع الحضارة العالمية.
هنا يبرز دور علم التربية الخاص بالوسطية قبل الحوار، لأن الحوار لن يتحقق من دون إيمان بمنهج وسطي يحضر العقل لقبول الحوار.
ولبناء ثقافة الوسطية، ينبغي تحديد ماهية الهوية، هل هي مبنية على أحادية؟ إذا كان المرء وحيدًا في الكون، هل يعقل أن تكون له هوية؟ حتمًا كلاّ، يجب أن يكون ثمة تفاعل مع الآخر لخلق هوية. ولكن هل التفاعل أو الحوار مع الآخر، يكفي لتشكيل هوية؟ الأكيد أنه لا يكفي. لماذا؟ لأنه منذ البدء كان الآخر موجودًا دومًا، والآخر هو “الغريب” بطريقة أو بأخرى. لذا كانت الحروب والتدمير على امتداد التاريخ وفي كل زمن. ما السبب؟ لعل أحد الأجوبة المفاتيح، أنه ينبغي وجود “ثالث مشمول”، هو منهج وسطي بين الإنساني والمقدس الذي يستحيل اختزاله في كل إنسان.
المطلوب إذن، تبني مشروع تربوي خاص بالتربية والتعليم يوفِّق -منذ البدء- بين المناهج العلمية والمناهج الأنَسِية والفن والشعر… أي لخلق أشخاص وسطيين معتدلين مرنين في عالم عدواني، أي عالم يقود سريعًا إلى البطالة، إلى الاستبعاد، إلى الاستهلاك، إلى الاتكالية، الانهزامية الانحراف، العنف، التهميش، الإقصاء… عالم يقول بالتكنولوجيا الحديثة لجيلنا: “أنت غير جدير بالتقدير” يسمعها الجيل ويدرك معناها جيدًا. وهنا المشكلة في لبِّها، بناء ثقافة الوسط ينبغي أن تبدأ بالبث أولاً عن إجابة شافية لهذا السؤال المحرج والمحيّر، لماذا يُهمَّش الإنسان في جيل التمكين المعرفي والعلمي والتكنولوجي؟ الإنسان إنسان، وله قدراته وموهبته. لكلٍّ منا موهبته، لكن بشرط تأمين الظروف الملائمة لطاقاته ومواهبه. أما عالمنا الحاضر فلا يسعى إلى خلق تلك الظروف الملائمة، لأنه عالم تكنولوجي. ما نودُّه عبر مشروع منهج الوسطية التربوي، هو أن نثبت عبر الوسائل التربوية أن الكون أكثر ثراء بكثير مما نعتقد. وهنا يمكن للعلم إذا أعدناه للدين، وفصلنا القطيعة التي أحدثناها معه -ولعقود- يمكن أن يلعب دورًا كبيرًا على المستوى التربوي تحديدًا، وأن يبيِّن أن في الطبيعة غنى هائلاً ومستويات مختلفة تتكامل وتتوحَّد في أصغر ذرة حتى أكبر ما فيها. أعتقد أن الطبيعة تنطوي على تلك الصورة التي هي مهمة لعالمنا، أعني عالمنا المبني على مستويات مختلفة، وثقافات مختلفة، ولغات مختلفة، وتقاليد وعادات مختلفة.