مفارقات الوعي النهضوي في الفكر الإسلامي المعاصر

يبدو أن العقل الإسلامي ما زال يكابد عناء همومه النهضوية من دون أن يهتدي إلى سبيل ناجع لانتشال الأمة مما يعتريها من وهن حضاري وتخلف تاريخي. فأغلب المجهود الفكري المشغول بالنهضة لم يستطع، بعد، بلورة مشروع مجتمعي يرقى بواقع المسلمين إلى مستوى يؤهلهم للاضطلاع بدورهم التاريخي ووظيفتهم الحضارية.

هذا، وقد تعمق وعي الأمة بتخلفها مع ما شهدته من سلسلة هزائم عسكرية واحتلالات أجنبية كانت عنوانا بارزا عن مقدار عجز النخب العربية/الإسلامية عن بلورة مشروع مجتمعي ينهض بالأمة، ويعيد إليها دورها الريادي باعتبارها أمة التوحيد المعهود إليها واجب حمل أمانة الدعوة والشهادة على الناس.

وعلى مدار قرون من الزمن؛ والمجتمعات العربية/الإسلامية تشهد محاولات نهضوية كان مآلها الإخفاق، فقد ابتليت الأمة بسلسلة من الإخفاقات النهضوية. وهي الإخفاقات التي تركت الباب مفتوحا لم يوصد في وجه المحاولات التاريخية الرامية إلى استدراك الخلل وتقويم الاعوجاج الذي اعترى خطابات النهضة ومشاريع الإصلاح المعاصرة.

وفي هذا السياق، برزت العديد من المحاولات الحديثة التي تنشد تأسيس وعي نهضوي جديد يراهن على تعبئة الأمة ارتيادا لتجربة نهضوية جديدة. وهي المشاريع التي يمكن أن نتوقف عندها مع العديد من المفكرين الذين حازت مشروعاتهم أصالة في الطرح، ورجاحة في الفكر. وانتدبوا أنفسهم لهذه المهمة الصعبة والحيوية في هذه المرحلة الدقيقة من حياة الأمة.

وحتى يتسنى لنا تسليط الضوء على القيمة المعرفية والمنهجية التي تحملها مثل هاته المشاريع التجديدية عند تناولها لإشكالية النهضة؛ سيعمد الكاتب إلى مقاربة الخطاب النهضوي المعاصر تشخيصا لبعض أعطابه البنيوية التي حالت دون استيفائها الغرض منها. وذلك تمهيدا للحديث عن محددات الوعي النهضوي الجديد ومضامينه التصورية المفارقة لمعهود الخطاب الإحيائي الإسلامي، والمتجاوزة لمنطلقاته المعرفية ومنطقه التحليلي ومحدداته الإشكالية.

أولا: مقاربة في العطب البنيوي للخطاب الإسلامي النهضوي

لا ريب أن مشاريع النهضة الإسلامية المعاصرة قد واجهت ظرفا من حياة الأمة كان من أكثر ظروفها تركيبا وتعقيدا. وقد اضطلعت العديد من هاته المشاريع بأدوار حيوية في مواجهة عوامل التخلف الموروثة من عهود الانحطاط؛ كما جابهت بثبات موجة الاحتلالات الأجنبية المتآمرة على الأمة تأبيداً لتخلفها ومصادرةً لاستقلالها وحيلولةً دون حقها في ممارسة تطورها التاريخي؛ هذا فضلا عن دورها في ممانعة مخلفات المرحلة الاستعمارية ومدافعة تيارات سياسية تعمد إلى تكريس بنى مجتمعية وتوجهات فكرية مناكفة لاختيارات الأمة وبنائيتها ومدركاتها المجتمعية)1(.

ويكتب التاريخ المعاصر لحركة الإحياء النهضوي الفضل في بعث يقظة بينة في الأمة، أعادت إحياء سؤال الهوية والذاتية الحضارية فيها، محررة قطاعاً وافراً من النخب والجماهير من شرنقة الانهزامية الحضارية واليأس التاريخي، ومقدمة لهم وعيا تجديديا وفهما شموليا بالإسلام كان قد طُمس(2(.

وليس هناك من شك في أن المضمون الذي جاء به مشروع الإحياء النهضوي كان بإمكانه أن يكفل بلورة تجربة نهضوية حقيقية، إن هو تمثل مفاهيما للعمران الحضاري منسجمة مع مقومات البناء الاجتماعي والتاريخي للأمة، بما يؤكد استقلالها وفرادة نموذجها وأصالة وعيها بذاتها وبدورها.

بيد أن استعجال قطف الثمار السياسية والإفادة من عوائد الحشد الجماهيري لحركات الإحياء الفتية سرعان ما زج بهذا المجهود الناشئ في متاهات التسييس ومعارك السيطرة على السلطة. وبدل أن يراكم العقل الإسلامي أجوبته على الأسئلة الكلية بتأصيل المنطلقات الفكرية الكفيلة بحمل الانسان العربي والمسلم على ارتياد الفعل النهضوي، استعاض عن هذه المهمة باختيار المنطق العملي/التقنوقراطي الإجرائي المشغول بالهاجس اليومي والراهن، غير معني بالمجهود التأصيلي والعمل التأسيسي.

ولتورية قصورها الفكرية سعت النخب الإسلامية الحديثة إلى استعارة المفاهيم والترتيبات الغربية/الحداثية، من خلال ما ادعته تطويعا للكسب الإنساني، مما كرس فيها حالة “التراخي” الفكري و”الاستسهال” المنهجي، مما أفقدها أصالة التصور النظري، وصلابة الطرح المنهجي، وجعل الأمة العربية/الإسلامية عالة على الأمم قانعة باقتياتها على ما ينتجه غيرها من رؤى ومفاهيم ونظم وتقنيات.

ولعل أحد أبرز ملامح هذا الاختلال يتجلى في ركوب مفكري الحراك الإسلامي لـ”منطق مقارباتي” سعيا منهم لتقليص نطاق الفجوة الحضارية بين واقع المسلمين ومظاهر الحضارة الغربية. وذلك بتبني مقاربة توفيقية تتغيا أسلمة الحداثة. غير أن الاحتواء الإسلامي للمنجز الحضاري الغربي جاء احتواءً شكليا من واقع العجز الحضاري، وغير منسجم مع الأصول المرجعية والمنظومات القيمية للمجتمع(3).

ولم تنتبه العديد من أدبيات رواد الإصلاح إلى أن تخلف المسلمين قد تحصل بسبب:

أ. انصراف المسلمين عن تحقيق مقاصد الاستخلاف وعمارة الأرض بمباشرة الكون بالاستثمار واستعطاء مقدراته بالعمل.

ب. استكناه المعرفة بتعميق الوعي وتسديد الفهم(4).

لذلك، جاءت جهود التأسيس لاستفاقة تاريخية، لما يقارب ثلاثة قرون، قاصرة عن الرقي بالأمة إلى مستوى القدرة على إحداث نهضة حضارية شاملة. فإلى حدود الزمن الراهن لازالت الأمة تراوح مكانها، ولا زالت شعوبها العربية والمسلمة تُسام سوء الذل والإهانة وتسلط الأمم القوية عليها لاستغلال مقدراتها واستنفاذ ثرواتها(5).

وعلى كثرة المآخذ التي يمكن التوقف عندها لرصد اخفاقات التجارب؛ تجارب اليقظة الإسلامية المعاصرة، دون تنكر لفضائلها، يمكننا أن نقف عند أحد أبرز الاختلالات التي شكلت، في نظر العديد من المتتبعين، عطبا بنيويا تقاسمته أغلب هذه المحاولات. وهو العطب المتعلق باعتقاد رواد الخطاب الإصلاحي الأوائل بأن لا خلاص للمسلمين إلا بالالتحاق بالغرب؛ عجزاً منهم عن إدراك مكامن أزمة نموذجه الحضاري، وكأن هذا الإعجاب قد نصب حجبا سميكة بينهم وبين مآزم هذه الحضارة ومآزقها، لدرجة شاع فيها بينهم بأن: “في أوروبا إسلام بلا مسلمين، وفي البلدان العربية مسلمون بلا إسلام”.

استبداد “الوعي المنبهر” بالنخب الإسلامية جعل العقل النهضوي مشغولا بالإجابة على سؤال محوري وهو: كيف يمكن أن نلحق بالغرب؟ وكيف يمكن أن ننقل منظومته العقلانية الرشيدة وتقنياته إلى حضارتنا مع الاحتفاظ بقيمنا وهويتنا؟ متصورا أنه بالإمكان تبني منظومة الحداثة الغربية ومزجها بالإسلام رغماً عن اختلاف منطلقاتها ومقاصدها. فتحول الغرب، بشكل خفي ومتدرج، إلى مرجعية شاملة ونهائية صامتة ترشد أطروحات شتى للتيارات الإصلاحية والتغييرية، بالوطن العربي/الإسلامي. لدرجة بات فيها الجميع متنافسا في تقديم صياغات وبلورة شروط تبيئة النموذج الحضاري الغربي في المجتمع العربي/الإسلامي(6).

وقد كان هوس توطين النموذج الغربي أحد أهم الأسباب التي أدت إلى تراجع المنظومة الإسلامية وتقلص نطاقها وشمولها، بما هي رؤية متفردة للكون والحياة. وبدلا من الاجتهاد في طرح تصورات إسلامية مستوعبة للواقع المعاصر بكل تعقيداته، اختزلت القضية هي منهجية “أسلمة” بعض جوانب ومظاهر التحديث السياسي والاقتصادي والاجتماعي. وفي الغالب، ما كانت الأسلمة تأخذ شكل “حذف” المحرمات بلا إضافة ولا إبداع، وتأكيد الجوانب “الحلال” في الحضارة الغربية أو مقايسته على بعض مقتضيات الشريعة الإسلامية، فـ”يضيفوا” من هذا لذاك بتوسطات تشريعية وفقهية جزئية وسطحية(7).

وعلى هذا المنوال نُسج الخطاب النهضوي العربي في صيغة خطابات توفيقية نابعة عن تقبل لكثير من جوانب الحداثة الغربية دون إعمال لقدرات العقل العربي/الإسلامي في النقد والتجاوز. حيث استغرق المفكرون المسلمون في الأخذ عن الحضارة الغربية دونما إدراك للعلاقة الواصلة بين منجزها الحضاري ورؤيتها للعالم، فجهدوا أنفسهم في التوفيق بين أجزاء جاهزة من الحضارة الوافدة وأسس الرؤية الإسلامية، من دون وعي بأن للإسلام رؤية شاملة ومتفردة للكون تقتضي تفعيلها في مختلف مناحي الحياة العامة والخاصة، الفردية والجماعية.

ثانيا: سياق ومحددات الوعي النهضوي الإسلامي الجديد 

على شدة الانتقادات الذي يمكن توجيهها إلى المنزع التوفيقي والمنهج المقارباتي عند رواد الإصلاح الأوائل، إلا أن الذي يمكن أن يشفع لهم هو أنهم تعاملوا مع الحضارة الغربية في مرحلة لم تكن فيها البنية الشاملة للعلمانية في المجتمعات الغربية قد وضحت بالصيغة التي نعاينها الآن. خاصة وأن تبلور النموذج الحضاري الغربي، في بداياته، كان يتضمن قدرا معتبرا من الإيمان بالقيم والاحتفاء بالإنسان واحترام العلاقات الأسرية.

كما أن الحياة الاجتماعية كانت تتطور بمعزل عن آثار عمليات العلمنة الشاملة. فضلا عن أن الخطاب النقدي الغربي للحداثة ومشروع الاستنارة لم يكن قد تبلور بعد. فلم تكن الحضارة الغربية على عهد رواد الإصلاح والنهضة حضارة علمانية/مادية تامة، ولم يحتك المصلحون الأوائل بحضارة العلمنة الكلية التي لم تكن حلقات متتاليتها الشاملة قد تحققت بعد(8).

أما بالنسبة لحملة الخطاب الإصلاحي الجديد فقد تشكل وعيهم الفكري بعد خمسينيات وستينات القرن الماضي، الأمر الذي يسر لهم إدراك العديد من أبعاد أزمة النموذج الحضاري الغربي ومآلاته المأزومة. كما عاصروا بعضا من الجوانب المظلمة للحضارة الغربية الحديثة، والتي زجت بالعالم في حروب “عالمية” طاحنة وحروب “باردة” بـ”الوكالة” سرَّعت من وتيرة صناعة الموت وإنتاج الدمار، للدرجة التي وصف فيها المفكر الفرنسي “رجاء غارودي” الحضارة الغربية بأنها حضارة: “قادرة على بناء قبر يكفي لدفن العالم كله(9)“. هذا، عدا الأزمات البنيوية العميقة  التي شملت العديد من المستويات المعرفية والسياسية والاجتماعية والبيئية والوجدانية، كان آخرها الأزمة الاقتصادية العالمية بسبب عطب بنيوي يعتري النموذج الاقتصادي الحديث.

وقد تعزز هذا الوعي النقدي بتبلور خطابات النقد الغربي في منتصف الستينات، حيث أصبحت أعمال مدرسة فرانكفورت متداولة بين المثقفين وعموم الرأي العام؛ كما ظهرت دراسات كثيرة في نقد فكر عصر التنوير الغربي وتنتقد الطابع التنميطي والأحادي للحضارة الغربية من قبيل كتابات “ماركيوز” و”بورديو” و”فوكو” و”لاتوش” وغيرهم.. وأعاد كثير من المؤرخين كتابة تاريخ الحضارة الغربية ليبينوا حجم جرائمها ضد شعوب باقي العالم وحجم النهب الإمبريالي الاستعماري.

إن تنامي الوعي النقدي الإنساني للحضارة الغربية لم يعد يُسوﹼغ لمنظري الإصلاح الجديد إبداء نفس الإعجاب الذي أبداه كثير من المفكرين العرب والمسلمين في القرنين الماضيين. فما لم تخبره أجيال الرواد من المصلحين العرب الأوائل قد خبره مؤسسو الخطاب الإصلاحي الجديد. فاشتهر عن كثير من المفكرين الجدد استشكالهم استيراد الإجابات الغربية الجاهزة وتأنيهم في ذلك، مع دعوتهم إلى العودة للذات مجددا باعتماد منطلقات الأمة وتحيزاتها المعرفية أرضية لكل اجتهاد فكري من واقع ممارسة حقنا في الاختلاف الفلسفي والإبداع الفكري.

ولعل أهم ما يميز هذا الخطاب الناشئ وعيه المنهجي بمحددين أساسين:

أ. إدراكه أن لكل مجتمع مساره الحضاري المتفرد(10)، والذي تتفاعل عبره أجيال الجماعة الواحدة فيما بينها منتجة إرثا ثقافيا، كما تتفاعل الجماعة مع أرضها المتميزة فتنتج إرثا ماديا، تفاعل الإرثين المادي والثقافي يخلص إلى صياغة حضارة أمة متميزة(11).

ب. وعيه بأن مستويات التفاوت بين النموذجين الحضاريين “الغربي/العلماني” و”العربي/الإسلامي” هي مستويات كلية تلامس عمق التأسيس المرجعي(12)، وتطال ترتيب المنظومة القيمية(13)، وتنعكس على مسلكيات المدرك الجماعي.

وهو الوعي الذي من شأنه الرقي بالشعار الذي رفعته قطاعات واسعة من الجماهير المتحمسة للإسلام باعتبار “الإسلام هو الحل”، إلى مستوى إدراك أن الإسلام، أساسا وقبل ذلك، هو “رؤية كلية متفردة وشاملة للكون والحياة والأحياء”. وهي الرؤية التي تقتضي إدراك أنه لا معنى لمباشرة تدبير الشأن اليومي والراهن والإجرائي بالمعنى الإسلامي من دون الاستناد إلى هذه الرؤية المكنونة في الإطار العقدي للإسلام والمقترح المعرفي للقرآن المجيد(14).

ثالثا: أصول “رؤية العالم” في الوعي النهضوي الإسلامي الجديد

يرجع الأصل اللغوي لمفهوم “رؤية أو النظرة إلى العالم” إلى المفردة الألمانية (Wzltanschung)، ونجد للمفهوم ذاته استخدامات عدة في اللغة الإنجليزية بتعبيرات متعددة بشكل كبير؛ فإلى جانب استخدامه بنفس لغته الأصلية، تستخدم تعبيرات مثل: النظرة إلى العالم، النظرة الخارجية إلى العالم، التخطيط التصوري، النظرة الكلية، منظومات المعنى الثقافية، الفرضيات المسبقة، الخريطة الإدراكية، فضلا عن استخدامات أخرى تخرج عن الحصر. بيد أنها جميعها تعبيرات تدور حول مفهوم مشترك، ولكنها لا تستخدم مصطلحا واحدا للتعبير عنه. وهذا الاختلاف في التعبير يعكس عدم التحديد المشترك للمضمون الذي يُعبر عنه هذا المفهوم الواحد المشترك؛ فالتعبيرات متعددة، وفي الوقت نفسه المضمون المعطى له متعدد أيضا، وهذا يعكس أن هذا المفهوم لم يتأسس، بعد، بشكل كامل.

ومفهوم “رؤية العالم” مفهوم في غاية من الشمول والتكثيف. كما أنه مفهوم بنيوي يتكون من بينة مفاهيمية متكاملة، يقع في العمق منها مفهوم الاعتقاد بوصفه مفهوما مركزيا. وتتركب هذه البنية المفاهيمية بالشكل الذي يمكن الفرد والجماعات من إدراك ورؤية للعالم مع إيضاح المعنى والغرض من “العالم”، بغض النظر عما إذا تأسست هذه الرؤية على أسس طبيعية أو دينية أو فلسفية أو علمية..(15).

قيمة دلالات “رؤية العالم” ترتقى به إلى مصاف المفاهيم الحضارية الشاملة المعنية بمجمل الجوانب الفلسفية والفكرية والثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية في حياة الإنسان. ولذلك لا توجد رؤية واحدة للعالم، وإنما رؤى متعددة ومتدافعة تحاول كل منها كسب مساحات جديدة في عالم القناعات والتأثير في تشكيل المعرفة وصياغة الحياة(16).

وسنحاول فيما تبقى من هذه المقالة أن نرصد بعض مظاهر إدراك رواد الخطاب النهضوي الجديد للعناصر الأساس في الرؤية الإسلامية للعالم، ومدى وعيهم بحجم التفاوت بين الرؤيتين الغربية والإسلامية.

  1. أثر الغيب في حركة التاريخ: بين الحلول والتعالي

يبرز أحد آكد مستويات التفاوت بين الرؤيتين “الغربية/العلمانية” و”العربية/الإسلامية” للعالم في نظرتهما للغيب. ففي اللحظة التي تتبنى فيها الرؤية المعرفية الغربية للإجابة العلمانية المادية والدهرانية المستبعدة لأي أثر أو تدخل غيبي في حركة التاريخ والإنسان؛ لأنه في عرفها مجرد “خرافة و/أو أسطورة” أو لأنه لا شأنه له بعالم الحياة(17)؛ تتأسس فيها الرؤية العربية/الإسلامية على إطار مرجعي ينبني على مبدأ التوحيد وعقيدة التنزيه، لا باعتبار دلالاتهما الكلامية فقط، ولكن باعتبارهما موقفا معرفيا من الوجود ونسقا أنطولوجيا/وجوديا يحدد موقع الإنسان، فردا وجماعات، من العالم. وهي الرؤية التي تؤمن بأن الله حي قيوم على صلة مباشرة بالكون(18)، فهو أقرب إلينا من حبل الوريد(19)، وإن لم تدركه الأبصار(20).

وقد شكل التوحيد، بهذا المعنى، ركنا ركينا لرؤية الإنسان المسلم للعالم ومنطلقا أساسيا لنموذجه المعرفي. إذ يكاد يخالط مبدأ التوحيد كل كيان الإنسان المسلم وفهمه لذاته ومحيطه، لدرجة يمكننا التأكيد فيها بأن نسق المدركات الجماعية للأمة العربية/الإسلامية قد صيغ في بنيته الأصلية على مقتضى الإيمان بالله خالقا للكون متصفا بصفات الجلال والجمال والكمال، ومتعاليا عن حدود الزمن والمكان والتعقل(21).

ويستلهم المسلم مبدأه في التوحيد من رؤية معرفية قرآنية تسلم بوجود الحق المحيط بالوجود أساسا ومدارا ومآلا. فكل المخلوقات مردها في وجودها ومآلها الى الله الخالق وحده دون شريك أو مثيل. فكل ما يحدث في الكون من أحداث واستحالة الأحوال زيادة ونقصان يعود لله رب السماوات والأرض.

وقد انعكس هذا المبدأ إيجابا على بنية العقل المسلم الذي لا يذب إليه شك وظن، ولا تخترقه حيرة وتخبط في ماهية الوجود وغايته ومآله. وبفضل هذه الرؤية حقق العقل المسلم انسجاما وتماسكا، واهتدى باستقامة مبصرة وقاعدة قويمة للنظر في الكون ونواميسه والاجتماع وسننه بعيدا عن التناقض والصراع والاستعلاء والفساد(22). على عكس الرؤية العلمانية التي جاءت متخبطة بين موقف عقدي متطرف يلحد بوجود الغيب وموقف علمانية متطرف آخر يؤله الكون باعتبار “الإله”؛ القوة العاقلة المتحققة في الطبيعة.

فعلى عكس هذا الموقف، تتبنى الرؤية الإسلامية المرجعية التنزيهية المسبحة لله جلت قدرته والمنزهة إياه عن مفاهيم التقابل المتشيء بينه وبين الكون، من دون أن يُفضي إلى استبعاده عن الفعل في الزمان والمكان والإنسان(23). فالذات الإلهية المدبرة لعالمي الغيب والشهادة، في نظر المؤمنين، ليست قوة منطوية على نفسها منعزلة عن العالم، بل هي على اتصال مباشر وحقيقي بالكون وشؤونه، فهو قيوم السموات والأرض، يسمع لنجوى المتناجين ولشكوى المشتكين(24)؛ يرحم الناس والدواب والخلق أجمعين، باستجابة الدعاء(25)، وتغيير الأقدار، وتحوير مجريات الأمور(26)، عطاءً ومنعاً، ضراً ونفعاً(27).

لذلك، فإن الله، سبحانه وتعالى، في المرجعية التوحيدية، ليس حالا في الوجود الكوني بما يؤله الطبيعة، وهو ليس مفارقا له بذات الوقت بما يفضي إلى تعطيل قدرة الله. وحلا لهذه الإشكالية يقرر القرآن الكريم المبدأ العقدي القاضي بأن الله، عز وجل، هو ﴿فاطر السموات والاَرض جعل لكم من اَنفسكم أزواجا من الاَنعام يذرؤكم فيه، ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير﴾ (الشورى: 9). فالآية لم تقل: (ليس مثله شيء)، فهذا التعبير يقضي بأن الله، سبحانه، في ذاته شيء إلا أنه لا يُماثِل شيئا آخر. ولكن الآية قالت: (ليس-ك-مثله-شيء) لتنفي مبدأ الشييئية نفسها عن الذات العلية، فهو، سبحانه، ليس شيئا يُماثَل بأشياء كمثله. بل هو في علاقته بالوجود يعلو عن منطق الثنائيات التشييئية والتقابلات التجسيدية من دون تحييد أو تعطيل(28).

وهو على النقيض من الرؤية “العلمانية المادية” التي ترى في الكون الطبيعي عبارة عن عالم مكون من ذرات مادية مصمتة تتصادم باستمرار(29). على أساس أن المادة هي أصل الوجود وينبوع الحياة، وهي أقدم الموجودات، وكل الموجودات اللاحقة عليها داخلة في ماهيتها وثمرة لحركتها التلقائية(30).

وضمن هذا التصور الوجودي للكون لا مكان لإله أو غيب، ولا صلة له بالكون ونظامه السببي، فالطبيعة مكتفية بذاتها؛ لأن علتها في ذاتها، تدرك بذاتها، وهي واجبة الوجود في ذاتها. وهو ما يقتضي الإيمان بعدم وجود أي مبدأ غائي للحياة، كما لا تكترث بخصوصية الكينونة الإنسانية ولا بتفردها، فالإنسان شأنه شأن باقي الكائنات كائن طبيعي لا مكانة خاصة له في الكون(31). ولقد استطاعت الوضعية أن تحل الطبيعة/المادية محل الاله الخالق. فالوجود الكوني منحصر في الطبيعة التي وجدت هكذا بنفسها، وكذلك قوانينها، فهي مقدرة بنفسها من غير مقدر لها(32).

أما الكون فهو مكان بلا حدود، وزمان سرمدي بلا نهاية، وهو عالم مادي منبسط في كل الاتجاهات وممتد خلال سائر الأزمان، لأن المادة منذ فجر وجودها، الذي لا فجر له، متحركة ومتطورة، فهي قديمة أزلية(33). لذلك فإن الكون الطبيعي واحد في ذاته، شامل لا انقطاع فيه ولا فراغ، فهو كل متصل، وما عداه مجرد جزء ناقص ومفتقر(34).

  1. كينونة الإنسان: بين التركيب والأحادية

ثاني مستويات التفاوت بين الرؤيتين العلمانية والإسلامية تتعلق بمفهومهما لحقيقة الإنسان وماهيته(35)؛ حيث يعود سبب تفاوتهما إلى النموذج العقدي الذي يؤطر كلا من إجابتيهما. ذلك أن التصور الإسلامي يستخلص عناصره من التحديدات التي جاءت بها العقيدة الإسلامية في نصوص الوحي المبينة لحقيقة الإنسان ووظيفيته(36). حيث يتميز الوجود الإنساني في الرؤية الإسلامية للعالم بالتعدد المتكامل في إطار وحدة الكيان الموحد.

وقد كان لهذا المقتضى التصوري أبلغ الأثر على مجمل النظام المعرفي العربي ومنهجيته في فهم الإنسان عامة، والإنسان المتدين بصفة خاصة. وهي الرؤية التي تتجاوز قصور الرؤى “الحلولية المادية” أو “الحلولية الروحانية”، والتي تركز على بعد واحد دون باقي الأبعاد الإنسانية الأخرى. وبالرغم مما قد يبدو نجاحا لإحدى هاته التوجهات، إلا أن إنسانها يظل قلقا متوترا يعيش حلقات الصراع الداخلي والخارجي، الفردي والجماعي. فاقتصار المادية على الجوانب البرانية للإنسان بالتركيز على اللذات والحواس وتأليه الرغبات والشهوات انعكس فراغاً روحياً وعناءً نفسياً فكك القيم وزج بالإنسان في متاهات عوالم المادة(37).

وبالرغم من أن الرؤية العلمانية الكلية تقارب الإنسان بوصفه مركزا للكون ومرجعية في ذاته(38)، إلا أنه بعد غلبة التأسيس الوضعي التطبيعي بات الإنسان مجرد كائن مادي من بين كائنات وظواهر طبيعية تتمايز فيما بينها في الدرجة وليس في النوع(39). ولقد استحكمت هذه الرؤية أكثر مع سيطرة الداروينية على العلوم الاجتماعية، بحيث أخذ البحث العلمي يسحب منطق ومنهج العلوم الطبيعية على كل ما هو إنساني، وبالتالي التعامل مع الإنسان بوصفه ظاهرة بيولوجية لا تتميز عن غيرها من الظواهر والكائنات(40). فالإنسان مجرد مقولة طبيعية وموجود مادي متجسد يشارك بقية الكائنات في انضباطه لقوانين الطبيعة يشارك بقية الكائنات في انضباطه لقوانين الطبيعة ولمقتضيات طبيعته المادية وضرورات الحتمية من حوله(41).

فالإنسان في العرف الوضعي المادي، وإن كان حيوانا كاملا، يبقى مجرد حيوان لا فرق بينه وبين باقي الحيوانات في أصل النوع، وإن تميز عنها في الدرجة والرتبة. فالإنسان، في أصله، نظام كغير من النظم المادية الخاضعة بدورها لقوانين الطبيعة الحتمية العامة، التي تفكك/تقوض الإنسان إلى أجزائه التي تكونه، بحيث تدرس الإنسان كما تدرس خلاياه(42).

لذلك، سعى كثير من علماء العلوم الاجتماعية والسياسية إلى سحب افتراضات العلوم البيولوجية إلى العلوم الاجتماعية، وأصبح ينظر إلى الإنسان في بُعده البيولوجي، حيث أصبحت المعرفة البيولوجية مصدرا لإثارة التساؤلات المعرفية المتعلقة بالإنسان والمجتمع(43). وليس من المبالغة في شيء القول بأن سمة حيوانية الإنسان وطبيعته المادية المخلدة للأرض كانت بمثابة الفلسفة التي انبنت عليها التصورات الإبستيمولوجية العلمانية للعلوم الاجتماعية والإنسانية(44).

وعلى عكس الرؤية العلمانية، وبحكم مصدرها الرباني، تكرس الرؤية للإسلام مقاربة تحترم الطابع المركب والمتعدد للإنسان بما له من فطرة روحانية رسالية متدينة لها أشواقها وتشوفاتها، وكيانية بيولوجية مادية لها حاجاتها ومتطلباتها. لذلك جاءت التشريعات الإسلامية حريصة على عدم الهبوط بالإنسان إلى درك المتاع المادي، أو أن تستلبه خدمة لأشواق وتطلعات روحية صرفة. فالإنسان في نظر الإسلام كيان ووجود، ومادة تنزع وترغب، تشتهي العيش وتحب البقاء؛ كما أنه روح وغاية وإرادة نازعة للسمو إلى مراقي الرسالية القاصدة المتشوفة لقيم الخير والصلاح(45).

ولا يتصور الإسلام تناقضا بين مختلف الجوانب المادية والمعنوية للإنسان، مادام أن الإنسان كيان واحد متكامل ببعديه الروحي/الوجداني والمادي/الترابي؛ إذ لا مجال لتحقيق سعادة الإنسان إلا بالموازنة بين مقتضيات كينونته الآدمية المادية واحتياجاتها الترابية وروحانيته الرسالية المتطلعة إلى أشواق السمو والانعتاق من أسر الشهوانيات البهيمية(46).

  1. الصيرورة الكونية: بين الغائية والعدمية

ما من ديانة أو إيديولوجية إلا وتقدم تركيبا ما وصياغة معينة لسؤال العلاقة بين الغيب والإنسان والطبيعة؛ ولا يكاد إنسان يباشر الكون من دون امتلاك رؤية عن معادلة التفاعل بين هذه العناصر الثلاثة، وعى ذلك أم لم يعه. فمن دون بلورة صياغة متوازنة لطبيعة العلاقة سيظل الإنسان مشلولا أو نصف مشلول عن أداء دوره(47).

وتتصور الرؤية الإسلامية الوجود الكوني على أنه ثنائية بين طرفين: أولهما؛ مرتبط بعالم الشهادة المتجسد في الوجود المادي، المدرك بالحس، والمعقول في ذاته، القابل للشهود الإنساني إن توافرت سبل إدراكه(48)، أما ثانيهما؛ فهو عالم الغيب غير الملموس، والذي يدركه الإنسان بآثاره، كوجود الملائكة والجن والجنة والنار وغيرها من الغيبيات. في حين يبقى الله سبحانه متعاليا عن كلا عالمي الغيب والشهادة(49).

وتؤصل الرؤية الإسلامية لدى الإنسان المسلم عقيدة كونه والكون الطبيعي ينتميان إلى عالم الشهادة المخلوق الناقص القاصر عن الخلق والإنشاء والذي يطرأ عليه ما يطرأ على باقي المخلوقات من عوارض النشوء والضمور والزوال(50)؛ في مقابل عالم الغيب المطلق الكلي والكامل المتصف بصفات الأزل والقدم(51).

كما يرسخ هذا الوعي في الإنسان المسلم قناعته بـ”وحدة الأصل والتركيب” التي تجمعه بالوجود الطبيعي، وإن تميز عنها في النوع لأن فيه شيء من روح الله تصله بالعالم الآخر وتحرره من أسر حتميات الوجود الطبيعي نفسه(52). القناعة بوحدة تركيب الوجودين الإنساني والكوني يُفضي إلى إقرار ثلاثة مبادئ مهمة:

أولها؛ توقف الوجود الإنساني وبقاؤه على الوجود الطبيعي والعكس بالعكس، ثانيها؛ وحدة حركة وتغير الإنسان والكون وفقا لثبات السنن والنواميس(53)، وانتظامهما وفقا لإرادة الله المتشيئة قوانين وسنن لا يعتريها اضطراب أو انخرام(54)، وثالثها؛ يظهر في أن الوحدتين الوجودية والتكوينية تنشئ عند الإنسان شعورا بالوحدة الوجدانية ويولد عنده نزوعا ارتفاقيا يشعره بقربه من الكون ووفاق معه، ويدفع عنه مشاعر الخوف منه ومساوئ العداء له(55). مما يهيئ الوسط الملائم والمناخ المناسب لانطلاق قدرات الإنسان وإقباله على الكون بالاستثمار والتعمير، بدل الوعي الصراعي المتوتر والعدائي المفضي إلى الاستغلال والتدمير(56).

وقد حاول بعض المفكرين العرب أن يقدموا صياغة نظرية تؤطر الرؤية التصورية لعلاقات التفاعل بين عوالم الغيب والإنسان والطبيعة تفاعلا غائيا يتأسس على المقترح المعرفي القرآني. وهو تصور يركز على جدلية التفاعل الغائي بين عالم الغيب وعالم الشهادة، تعبيراً عن لحظة اتجاه الصيرورة والتطور نحو غاية توحيد الله وتزكية الإنسان وإعمار الكون. واستنادا إلى هذه الرؤية التفاعلية والكونية والغائية استطاع الإنسان المسلم أن يقدم تجربة علمية وحضارية متفاعلة مع الكون بمنطق السنن الإلهية فيه(57).

وهو تفاعل ثلاثي من دون أن يستلب أي بعد من أبعاد الوجود فعالية الأبعاد الأخرى؛ فالغيب، بمعزل عن اللاهوتية، يتصل اتصالا حقيقيا بتفاعل الإنسان بالعالم الطبيعي، بعيدا عن الفكر الأسطوري الذي تلبس بالفكر الديني، وبمعزل عن الوجودية المتمركزة حول الإنسان فاعلا دون غيره، ومفارقة للوضعية بجبريتها المادية.

فكلها تفاعلات منسجمة ومتوازنة في اتجاه تحقيق غاية الحق من الخلق(58). فهي صيرورة غائية يتم فيها إنفاذ الحق عبر منطق التدافع والتفاعل بين قوى الحق وقوى الباطل وصولا إلى: )يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون. هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون( (الصف: 8-9).

وهو على خلاف التصور الجدلي التناقضي في الرؤية الجدلية/الإلغائية، مثالية كانت أو مادية، والذي يرقب محركات الصيرورة الكونية بعيدا عن أي غاية أو قصد، وهو ما أكده القرآن حين حذر )الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا وغرتهم الحياة الدنيا( (الأعراف: 50) من الغفلة عن الغاية الكبرى في حياتهم الدنيا )فاليوم ننساهم كما نُسوا لقاء يومهم هذا وما كانوا بئاياتنا يجحدون( (الأعراف: 50)(59).

فعالم الشهادة بعنصريه الطبيعي والإنساني لم يُخلق عبثا(60)، وإنما هو قائم على الحق الذي لا يضطرب ولا تتفرق به السبل، ولا تتخلف سيرورته ولا تسيره مصادفة عمياء، لأن خلق الكون لم يكن باطلا وما ينبغي له. وتأسيسا على هذا الوعي الغائي بتفاعلية عالمي الغيب والشهادة يستعيد الإنسان اكتشاف بعده الكوني، الذي طمسته الوضعية المادية العلمانية، فيحمل مجددا أمانة عمارة الكون والحفاظ عليه(61). وهو على العكس مما كرسته الجدليات المادية والفلسفات الوضعية المادية من استبعاد لأي معطى غائي للوجود جراء استغناء الإنسان عن الله فطغى وعاث في الأرض فسادا(62).

وعن هذا المعنى يقدم أبو القاسم حاج حمد خلاصة مكثفة لأطروحته حيث يعيد الاعتبار لصياغة أثر الغيب في حركة التاريخ صياغة منهجية بعيدة عن الاستيلابات اللاهوتية والوجودية والجبرية، وذلك من خلال تجربة فريدة في قراءة القرآن واستنباط مكنونات أطروحته المعرفية، فيقول:

“..كيف يحلل القرآن ظواهر الحياة المادية؟ وكيف يحدد علاقة الله بها في مقابل علاقة الإنسان؟ وكيف يستقيم مفهوم قدرة الله المطلقة مع مفاهيم العلم القياسية والاختبارية والتطبيقية؟ وهل الكون مستقل بحركته الطبيعية أم خاضع آنيا لله؟ (…) إن أهمية التجربة الموساوية أنها قد منحت موسى (بعدا غيبيا) في تفكيره لتأكيد وجود الله في الفعل الإنساني والحركة، من دون حلولية أو ماورائية (..) إن الله يطرح لنا أن النسيج الكوني.. والبناء الطبيعي كامل الخلق والتكوين، فقد أحسن الله كل شيء خلقه.

فالطبيعة في القرآن هي عالم (الشهادة)؛ أي وضوح وتعامل مع حقائق ملموسة. وبما أن جدلية الحياة في عالم الشهادة تقوم على خصائص الطبيعة في صراعاتها وتنابذها، ما يعني انسحاقا للإنسان على أرضية التناقضات، فإن الله يتخذ له في عالم (الشهادة) صفة (الرحمة) ناظرا إلى معاناة الإنسان، وحتى إلى خطاياه، في هذا الواقع المعقد، بعين الرحمة والعناية.. ويضع الله في مقابل عالم (الشهادة).. عالم الطبيعة.. عالماً آخر، هو عالم (الغيب) حيث لا جدلية ولا متصارعات..

هناك يتخذ الله لنفسه صفة (العزة).. والعزة قوة كلية جاذبة لا تعرف (الفرق)، ولكن كل شيء يرتد إلى الله بمطلق الوضوح كفاعل نهائي )ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم. الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الاِنسان من طين( (السجدة: 5-6). ليس ثمة نقص في الحركة، ولا يجعل الله من مبدأ (العنصر المفقود) في تكوين الطبيعة مجالا يحتفظ به لتجليات القدرة المطلقة.

فالله سبحانه لا يكمل نقصا في عمل الطبيعة حيث أحسن خلقها.. كما أن القرآن لا يفسر الخلق الطبيعي بمفهوم (الدفعة الأولى)، معتبرا أن الله قد أحسن الخلق منذ البدء، وضمنه مقومات الاستمرارية.. كذلك ينفي القرآن أيضا فكرة الحلول الإلهي في الطبيعة..

إن الله يضع الأمر بوصفه جدلا (تفاعلا) بين عالمي الغيب والشهادة: )يدبّر الاَمر من السماء إلى الاَرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون. ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم. الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الاِنسان من طين. ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين، ثم سوّاه ونفخ فيه من روحه، وجعل لكم السمع والاَبصار والاَفئدة ،قليلا ما تشكرون( (السجدة: 5-8)… بين العزة والرحمة.. بين المطلق والنسبي.. بين القراءة بالله غيبا.. والقراءة بالقلم شهادة. فالذي يطرحه القرآن هو الترابط بين العالمين على اختلاف خصائصهما ضمن تفاعلية مستمرة(63)“.

لقد استطاعت هذه الصيغة التفاعلية بين عالمي الغيب والشهادة أن تحمل الإنسان العربي والمسلم للتحول إلى مستوى الوجود الكوني بدل “الموضعية الوضعية” (Placement Positivisme) فتتكون لدن الإنسان العربي رؤية وجودية متعلقة بالله سبحانه وتعالى بوصفه خالقا ومصدرا للكتاب والحكمة، بما يتعالى بإنسان الأمة العربية/الإسلامية عن نزعته البهيمية الدنيوية العابرة لينتمي إلى منظومة إلهية من القيم. وهو ما يناقض المنطق العلماني المستغني عن أي معطى غيبي متجاوز، فيتعالى الإنسان في الأرض بمبررات “النفعية” و”البرغماتية” غير الأخلاقية المتمركزة حول فكرة الفردوس الأرضي والإباحية الليبرالية وعولمتها الامبريالية المهيمنة على إرث الشعوب والأمم، لتنتهي: بإنسانها إلى إحدى كائنين عدمي أو عبثي؛ وبمجتمعاتها مجرد آلة إنتاج لكي تستهلك وتستهلك لكي تنتج فقط(64).

خاتمة

يبدو أن الوعي النهضوي الجديد، مع رواد الفكر التجديدي الإسلامي، يحمل في ذاته إدراكا عميقا بمظان الأزمة الحضارية التي تعتري النموذج الغربي، بما يحرره من أسر غواية هذا النموذج الحضاري. كما يتضمن وعيا أصيلا باستحقاقات الانتماء لأمة شاءت الأقدار أن تصنع على عين من الإسلام لقوله تعالى: )وكذلك جعلناكم أمة وسطا(، وهو الاستحقاق الذي يفرض ضرورة استعادة الوعي بالذات كشرط أساس للنهوض، بحيث يكون وعيا قادرا على إعادة منهجة تراث الأمة واستدعاء مفاهيمها ومدركاتها استدعاءً معرفيا وفكريا، لا استدعاءً دعائياً لتأثيث الخطاب وتبرير الوجود فقط.

وأحسب أن العمل في هذا السياق ولتحقيق هذا المسعى شاق وطويل، ولكن حسب الباحث أن بعض رواد الفكر العربي/الإسلامي قد دشنوا هذا المسار وقعدوا له قواعدا في الفهم والتحليل، تفتح الباب مجددا أمام الباحثين الشباب لاستكمال المسار وتدقيق مقتضياته في مختلف مجالات الفكر والمعرفة. وهو ما سينعكس، عاجلا أو آجلا، على مستوى الوعي المجتمعي بالأمة ويرقى بأفرادها إلى مستوى فعل حضاري ناجز في التاريخ، إن هم تصالحوا مع مقومات الذات الاجتماعية والحضارية التي ينتمون إليها.

الهوامش

 

(1). عبد المجيد النجار، مشاريع الإشهاد الحضاري، بيروت: دار الغرب، 1999، ج3، ص242.

(2). المرجع نفسه، ص 244.

(3). محمد أبو القاسم حاج حمد، منهجية القرآن المعرفية: أسلمة العلوم الطبيعية والإنسانية، بيروت: دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، 2003، ص32. لقد أوقع هذا المسلك مشروع الحركة الإسلامية، فيما وقعت فيه سابقاتها من الحركات الإصلاحية العلمانية والقومية، من تكريس لانفصامية المجتمع وانقلابه على نفسه، ويذكرنا هذا الأمر بما سبق أن وصفه منير شفيق بوضعية مجتمعين يعيشان تحت سقف واحد.

(4). عبد المجيد النجار، مشاريع الإشهاد، م، س، ص171.

(5). المرجع نفسه، ص6.

(6). عبد الوهاب المسيري، معالم الخطاب الإسلامي الجديد: ورقة أولية، مجلة: المسلم المعاصر، العدد 86، سنة 1998،.

(7). المرجع نفسه، ص57. يضرب المسيري العديد من الأمثلة لمثل هذا الوعي المشغول بأسلمة المنجز الحضاري الغربي من خلال توهم أن التفاوت بين هذا المنجز والرؤية الإسلامية هو تفاوت جزئي لا يحتاج سوى لاستصدار فتوى بالحلية أو التحريم، من دون الكشف عن رؤية العالم والنموذج المعرفي الكامن وراءها. انظر المقالة المهمة لـ: عبد الوهاب المسيري، في أهمية الدرس المعرفي، مجلة إسلامية المعرفة، عدد 20، السنة 2000.

(8) . د. عبد الوهاب المسيري، معالم الخطاب الإسلامي الجديد، م، س، ص52.

(9) . الكلام منقول عن المفكر الفرنسي الراحل رجاء جارودي.

(10). هذا المسار الحضاري يصطلح عليه سعيد خالد الحسن مفهوم البشلخية: وهو مفهوم (مركب من المفردات الثلاث: “بشر” و”بلدانية” و”تاريخ”)، هي محاولة تأصيلية منهجية يقوم من خلالها الباحث بـ”دراسة وتطور الأنساق الاجتماعية للجماعات البشرية، والسنن التي تحكم تطور عمران حياتهم المشتركة: من التوحش إلى بداوة الطور القبلي.. ومرورا بالطور الشعوبي الانتقالي من هذا الأخير؛ إلى الطور المجتمعي ونمط عمران حياته الحضري”. لذلك كانت البشلخية دراسة تاريخية اجتماعية لتطور الحياة المشتركة للجماعات البشرية تنقلا فاستيطانا فتوطنا في البلدان؛ وما يسم هذا التطور من خصائص محددة لمعالم الأنساق الاجتماعية لهذه الجماعات، ولهويتها الثقافية، ولـ(أجهزتها المفاهيمية)، ولسنن حركتها عبر الزمان (من الماضي إلى المستقبل)”. انظر تفصيل المحاولة الاجتهادية في: سعيد الحسن، حول أولويات التدبر الاستراتيجي العربي، مساهمة في كتاب: التحرر العربي والنظام الدولي، دراسة وتحرير: سعيد الحسن، الرباط: منشورات مركز الدراسات والأبحاث بمؤسسة خالد الحسن، ط 1، 2010م، ص32.

(11). عصمت سيف الدولة، عن العروبة والإسلام، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ط2،  ص119-126، ص167؛ وكذا، عصمت سيف الدولة، المنطلقات: ما هو مجتمعنا.. من نحن؟، بيروت: دار المسيرة، ط1، 1979؛ وأيضاً: رفيق حبيب، الأمة والدولة، القاهرة: دار الشروق، ط1، 2001، ص23 إلى 27.

(12). نعني بالمرجعية: “تلك الفكرة الجوهرية التي تشكل أساس كل الأفكار في نموذج معين، أو منظومة فكرية معينة، والركيزة النهائية الثابتة لها، التي لا يمكن أن تقوم رؤية العالم دونها، والمبدأ الواحد الذي تُرَدّ إليه كل الأشياء وتنسب إليه ولا يرد هو أو ينسب إليها. فالمرجعية هي المطلق المكتفي بذاته والذي يتجاوز كل الأفراد والأشياء والظواهر، وهو الذي يمنح العالم تماسكه ونظامه ومعناه ويحدد حلاله وحرامه. وعادة ما يتم التحدث عن المرجعية النهائية باعتبار أنها أعلى مستويات التجريد، تتجاوز كل شيء ولا يتجاوزها شيء”. د.سعيد الحسن مدخل تمهيدي لدراسة نظرية القيم السياسية: نسق المدركات السياسية الجماعية، كتاب غير منشور، مطبوع سنة 2010، (بحرف صغير في حوالي 154)، ومن المتوقع إصدار الكتاب ضمن منشورات مركز الدراسات والأبحاث بمؤسسة خالد الحسن، ص7؛ وانظر كذلك: عبد الوهاب المسيري، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، مصر: درا الشروق، مج 1، ط1، 1999، ص54.

(13). نعني بالقيمة ما وصفه الدكتور سعيد الحسن بأنها: “الهدف التاريخي الثابت والكلي للجماعة. فالقيم بصفة عامة، والقيم السياسية بصفة خاصة، هي أهداف عامّة ومجردّة ومطلقة؛ أي أنّها ليست غايات مباشرة، وإنما “مثاليات مسيطرة على الحركة””. سعيد الحسن، مدخل تمهيدي لدراسة نظرية القيم…، م، س، ص7؛ ولمزيد من التدقيق يمكن الرجوع إلى كتاب الدكتور حامد ربيع، محاضرات في النظرية  السياسية، القاهرة: جامعة القاهرة، مطبوعة على أستانسيل، 1978، ص6.

(14). عبد الوهاب المسيري، معالم الخطاب الإسلامي… م، س، ص59.

(15). سمير أبو زيد، العلم والنظرة العربية إلى العالم، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربي، ط1، 2009، ص19.

(16). السيد حافظ الأسود، “تصور “رؤية العالم” في الدراسات الأنثروبولوجية”، المجلة الاجتماعية القومية، المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، المجلد الأول، يناير 1990م، ص34. وانظر: أحمد أبو زيد، الذات وما عداها: مدخل لدراسة رؤى العالم، المجلة الاجتماعية القومية، نفس العدد السابق، ص67-68.

(17). الدهرانية من الدهر نسبة إلى قوله تعالى: ﴿وما يهلكنا إلا الدهر﴾، وهي عبارة اختارها طه عبد الرحمان لوصف متتالية تحقق العلمانية في الزمن، وكأنها مرحلة متقدمة من مراحل العلمانية الشاملة عند المسيري، ويعني طه بالدهرانية اللحظة التي تخرج فيها العلمانية بالأخلاق عن الدين أو حينما ينشق الدين عن نفسه ليصنع دينا مدنيا طبيعيا أساسه تواطؤ أفراد الجماعة عليه بدل استناده إلى رسالة سماوية تسدده، إنه دين بلا إله. انظر: طه عبد الرحمن، بؤس الدهرانية: النقد الائتماني لفصل الأخلاق عن الدين، بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ط1، 2014.

(18). لقوله تعالى: ﴿اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ. لاَ تَاخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الاَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالاَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيم﴾ (آية الكرسي 253-254 من سورة البقرة).

(19). لقوله تعالى: ﴿اِن كل من في السموات والاَرض إلا ءاتي الرحمن عبدا﴾ (مريم: 94)؛ ولقوله تعالى: ﴿بل له ما في السماوات والاَرض، كل له قانتون﴾ (البقرة: 115). انظر: عبد المجيد النجار، خلافة الإنسان بين الوحي والعقل: بحث في جدلية النص والعقل والواقع، فرجينيا: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط3، 2000، ص 50.

(20). لقوله تعالى: ﴿لا تُدْرِكُهُ الاَبْصَارُ، وَهُوَ يُدْرِكُ الاَبْصَارَ، وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ (الأنعام: 104).

(21). عبد الحميد أبو سليمان، أزمة العقل المسلم، الولايات المتحدة الأمريكية: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، 1991.

(22). عبد الحميد أبو سليمان، أزمة العقل المسلم.. م، س، ص129. هذا الطابع الفطري للحاجة التدينية عند الإنسان دفعت العديد من العلماء والمفكرين إلى القول بأن الله يعلم ضرورة لا استدلالا، انظر في ذلك: عبد المجيد النجار، مبدأ الإنسان، الرباط: دار الزيتونة، ط1، سنة 1996.

(23). محمد أبو القاسم حاج حمد، منهجية القرآن المعرفية: أسلمة العلوم الطبيعية والإنسانية، بيروت: دار الهادي، ط1، 2003م، ص188.

(24). لقوله تعالى: ﴿اَلم تر أنّ الله يعلم ما في السموات وما في الاَرض، ما يكون من نجوى ثلاثة اِلا هو رابعهم ولا خمسة اِلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا﴾ (المجادلة: 7). ولقوله كذلك: ﴿قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما، إن الله سميع بصير﴾ (المجادلة: 1).

(25). لقوله تعالى: ﴿وإذا سألك عبادي عني فإني قريب، أجيب دعوة الداع إذا دعان، فليستجيبوا لي وليومنوا بي لعلهم يرشدون﴾ (البقرة: 185).

(26). لقوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ. خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْاَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ، فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ﴾ (هود: 106-107).

(27). د. محمد عبد الله دراز، الدين.. م، س، ص41.

(28). محمد أبو القاسم حاج حمد، المنهجية…، م، س، ص188-189.

(29). محمد أمزيان، منهجية العلوم الاجتماعية بين الوضعية والمعيارية، فيرجينيا: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط4، سنة 2008، ص123.

(30). سعيد رمضان البوطي، نقض أوهام المادية الجدلية، دمشق: دار الفكر، ط3، 1985، ص97.

(31). عبد الوهاب المسيري، الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان، دمشق: دار الفكر، ط2، 2003.

(32). محمد المبارك، نحو صياغة…، في، الصحوة.. م، س، ص229-231.

(33). سعيد رمضان البوطي، نقض أوهام المادية الجدلية، م، س، ص116.

(34).  عبد الوهاب المسيري، الفلسفة المادية.. م، س، ص15.

(35). الماهية نسبة إلى “ما هو”، فماهية الشيء هي محصلة للإجابة عن سؤال ما هي المسائل التي يكون بها شيء ما هو هو ولم يكن غيره. فالماهية هي مجموع عناصر الحقيقة التي تجعل من شيء ما شيئا متميزا عن كل ما سواه. وبناءً عليه فإن ماهية الإنسان هي خصائصه التي كان بها إنسانا ولم يكن شيئا آخر، من حيوانية وعقل وعاطفة وتخلق وغيرها من مميزات الإنسان التي تجمعها كلمة “الإنسانية”. ويميز البعض بين الماهية والهوية والحقيقة؛ إذ أن الحقيقة هي جماع الماهية بوجودها الخارجي المتعين، أما الهوية هي المعتبر فيها الوجود الخارجي فقط. انظر: عبد المجيد عمر النجار، مبدأ الإنسان، م س، ص25. كما يمكن مراجعة مبحث الماهية عموما في: الأحمدي فكري، جامع العلوم في اصطلاحات الفنون، لبنان: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، ط2، 1975، ص3-190؛ وكذا: الإيجي عضد الدين عبد الرحمان بن أحمد، المواقف، القاهرة: مطبعة البولاق، ط1، 1913، ص1-222.

(36). د عمر عبد المجيد النجار، مبدأ الإنسان.. م، س، ص8.

(37). د. عبد الحميد أبو سليمان، أزمة العقل المسلم.. م، س، ص175. تمثلت الماركسية هذا البعد المادي حيث ضخمت حاجاته المادية/الاقتصادية معتبرة إياها محور حركة التاريخ، ففشلت في أن تحقق لإنسانها سلاما نفسيا واجتماعيا؛ كما أن الحلوليات الصوفية والفلسفات الغنوصية أدت بإنسانها إلى التخلف عن ركب الفعل العمراني؛ لأنها غلبت الجوانب الروحية للإنسان مستبعدة حاجاته البيولوجية ولوازمه المادية.

(38). منى أبو الفضل، المنظور.. م، س، ص115.

(39). محمد بلفقيه، العلوم الاجتماعية ومشكلة القيم: تأصيل الصلة، الرباط: دار نشر المعرفة، ط1، 2007، ص242.

(40). المرجع نفسه، ص 180.

(41). المسيري، الفلسفة المادية.. م، س، ص11.

(42). علي عزت بيخوفيتيش، الإسلام بين الشرق والغرب، محمد يوسف عدس، بيروت: مؤسسة العلم الحديث، ط1، 1994، ص48.

(43). نصر عارف، ابستمولوجيا السياسة المقارنة: النموذج المعرفي، النظرية، المنهج، بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، ط1، 2002، ص168.

(44). محمد الذوادي، ملامح التحيز والموضوعية في الفكر الاجتماعي الإنساني الغربي والخلدوني، في موسوعة، إشكالية التحيز: رؤية معرفية ودعوة للاجتهاد، تحرير: عبد الوهاب المسيري، فرجينيا: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، المحور 5، ط3، 1998م، ص48.

(45). د. عبد الحميد أبو سليمان، أزمة العقل المسلم.. م، س، ص176.

(46). المرجع نفسه، ص177.

(47). طه جابر العلواني، مقدمة في إسلامية المعرفة، بيروت: دار الهادي، ط1، 2001، ص40. كما يمكن الرجوع إلى قراءة تكثيفية لأطروحة محمد أبي القاسم حاج حمد حول ثلاثيته الشهيرة في أطروحته عن جدلية الغيب والإنسان والطبيعة في مؤلف: طه جابر العلواني، نحو منهجية معرفية قرآنية: محاولات في بيان قواعد المنهج التوحيدي للمعرفة، بيروت: دار الهادي، ط1، 2004، ص151-166؛ وانظر: محيي الدين محمد قاسم، السياسة الشرعية ومفهوم السياسة الحديث، القاهرة: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، 1997 ص118.

(48). ما يمكن إدراكه في المستقبل يدخل في إطار الغيب ولكنه ليس الغيب المطلق. فالغيب عموما هو ما لا نعرفه أو نطلع عليه، وقد نكتشفه بعد أسبوع أو سنة أو ما قدر الله من زمن، فهذا يمكن تسميته غيبا لأن الغيب بعامة هو ما غاب عن الحواس أو حجب عن الإدراك أو ستر على العقل؛ أما الغيب المطلق فهو ما اختص الله علمه به وحده دون غيره. انظر لمزيد من التفصيل: طه جابر العلواني، مقدمة في إسلامية المعرفة، بيروت: دار الهادي، ط1، 2001، ص39؛ وكذا، الراغب الأصفهاني، مفردات القرآن الكريم، تحقيق: صفوان عدنان الداوودي، بيروت: الدار الشامية، ط4، 2009، ص257. بيد أن الذي يقصده الباحث بالغيب، ليس غيب الله المطلق، فذلك مفتاح العلم به عند الله وحده دون سواه لقوله ﴿وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلى إلا هو، ويعلم ما في البر والبحر، وما تسقط من ورقة اِلا يعلمها ولا حبّة في ظلمات الاَرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين﴾ (الأنعام: 60)؛ لأن الاشتغال بالغيب المطلق لن يؤدي بالعقل الإنساني إلا إلى تبديد طاقته الذهنية في مناقشات فلسفية لا طائل من ورائها، وهذا النوع من الغيب تكفل الوحي بمدنا ببعض عناصره المنهجية والمعرفية التي ترشدنا إلى الحياة الأفضل؛ وإنما عنايتنا بالبحث هو الغيب الأصغر أو النسبي باعتباره دافعا إلى مزيد من المعرفة والتحصيل والدرس تعبيرا على النسق المعرفي الإسلامي المفتوح التواق إلى استدراك قصوره واستمرار تحصيله إلى يوم يبعث الخلق. انظر: سيف الدين عبد الفتاح، “حول المنهجية الإسلامية مقدمات وتطبيقات، مجلة المسلم المعاصر، العدد 100، سنة 2001، منشور بموقع مجلة المسلم المعاصر يوم 27 ماي 2014 على الساعة 11 صباحا على رابط:

://almuslimalmuaser.org/index.php?option=com_k2&view=item&id=535:7awl-elmanhagia

(49). لقوله تعالى: ﴿عالم الغيب والشهادة، وهو الحكيم الخبير﴾ (الأنعام: 74). انظر: عبد المجيد النجار، خلافة..، م، س، ص42.

(50). آية ﴿كل من عليها فانٍ. ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام﴾. انظر عبد المجيد النجار، خلافة الإنسان…، م س، ص50.

(51). لقوله تعالى: ﴿إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له﴾ (الحج: 71).

(52). لقوله تعالى: ﴿يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب﴾ (الحج: 5)؛ كما يشترك الإنسان مع كائنات الوجود عنصر الماء كمادة الخلق لقوله سبحانه: ﴿والله خلق كل دابة من ماء، فمنهم من يمشي على بطنه، ومنهم من يمشي على رجلين، ومنه من يمشي على أربع﴾ (النور: 43)؛ وبهذا الصدد يمكن الرجوع إلى عبد المجيد النجار، فقه الشهود الحضاري، بيروت: دار الغرب، ط1، 1999، ج1؛ وكذا: خلافة الإنسان..، م س، ص52.

(53). لقوله تعالى: ﴿وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب﴾ (النمل: 90)؛ وكذا، قوله عز من قائل: ﴿لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا اليل سابق النهار، وكل في فلك يسبحون﴾ (يس: 39).

(54). وقد بين الله تعالى أن هذا الانتظام يعم العالم بطرفيه الإنساني والطبيعي مصداقا لقوله تعالى: ﴿ فلن تجد لسنّت الله تبديلا. ولن تجد لسنّت الله تحويلا﴾ (فاطر: 43-44). انظر في هذه المعاني: عبد المجيد النجار، خلافة الإنسان..، م، س، ص53-54؛ وكذا: محمد المبارك، نظام الإسلام: العقيدة والعبادة، بيروت: دار الفكر، طبعة سنة 1981، ص41؛ و عبد المجيد النجار، العقل والسلوك في البنية الإسلامية، تونس: مطبعة الجنوب، ط1، سنة 1980، ص39-74.

(55)– يذكرنا هذا بحديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو يقف على صخرة بجبل أحد حيث قال: “إن أحدا جبل يحبنا ونحبه” رواه الإمام مسلم.

(56). عبد المجيد النجار، خلافة الإنسان..، م، س، ص61.

(57). محمد أبو القاسم حاج حمد، المنهجية المعرفية…، م، س، ص234.

(58). لقوله تعالى: ﴿وما خلقنا السماء والاَرض وما بينهما لاعبين. لو اَردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا، إنا كنا فاعلين. بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق، ولكم الويل مما تصفون. وله من في السموات والاَرض، ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستسحرون﴾ (الأنبياء: 16-19). محمد أبو القاسم حاج حمد، إبستمولوجيا المعرفة الكونية…، م س، ص255 وص257. لا يعني الحديث عن علاقة الغيب بحركتي الإنسان والطبيعة أي طاع لاهوتي يستلب الإنسان حريته أو يلغي من الطبيعة قوانينها. وإنما يعني أن إرادة الله تجسدت في سننه ونواميسه، وأن غائية الخلق بالحق تؤطر حركة التاريخ الإنساني. انظر: أبو القاسم حاج حمد، المنهجية..، م، س، ص150.

(59). انظر أبو القاسم حاج حمد، إبستمولوجيا…، م، س، ص276.

(60).  آية 191، سورة آل عمران،؛ و الآيتين 38-39 من سورة الدخان.

(61). محيي الدين، السياسة الشرعية..، م، س، ص116.

(62). وهو ما يشير إليه القرآن: ﴿إن الإنسان ليطغى. أن رءاه استغنى. إن إلى ربك الرجعى﴾ (العلق: 6-8). محمد أبو القاسم حاج حمد، منهجية القرآن المعرفية…، م، س، ص204-207. وقد جاء في التفسير أن معنى الطغيان هو مجاوزة الحد باتباع الهوى والاستكبار. محمد بن علي الصابوني، صفوة التفاسير، بيروت: دار القرآن الكريم، ط4، 1981، ج3، ص 582. ومنه قوله تعالى: ﴿إنا لما طغى الماء حملناهم في الجارية﴾؛ أي لما زاد الماء عن حده وكان يسلا جبارا وطوفانا مفرقا. ويرى بعض الباحثين أن سورة العلق تنبه إلى أن الإنسان كلما استغنى عن الله في قراءته للكون وتأسيسه للمعارف كلما كان ذلك مدعاة للطغيان بالتعالي أو الهبوط عن الموقع الذي يجب أن يوطن فيه الإنسان نفسه. د. طه جابر العلواني، مقدمات في إسلامية المعرفة، م، س، ص63.

(63).  محمد أبو القاسم حاج حمد، العالمية الإسلامية الثانية: جدلية الغيب والإنسان والطبيعة، بيروت: دار الساقي، ط2، سنة 2012، ص333-334.

(64). ذ. محمد أبو القاسم حاج حمد، إبستمولوجيا.. م، س، ص113. للاطلاع على أزمة الإنسان الغربي يمكن الرجوع مثلا إلى: هاربرت ماكوز، الإنسان ذو البعد الواحد، ترجمة: جورج طرابيشي، بيروت: منشورات دار الآداب، ط3، 1988.