كنوز صيدلانية في قاع البحار

في عام 1674 تمكّن العالِم “لووين هوك” من اكتشاف نوع من الطحالب سمّاه “يوجلينا” وله الدور الكبير في اخضرار مياه البحر. وقد يحتاج هذا الطحلب (يوجلينا) لفيتامين “ب12” لينمو. وفي 1948 تبيّن أنه هو الفيتامين الفعال الموجود في الكبد والذي يمنع حدوث فقر الدم. وخلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، استُخدمت “الآشنة الأيرلندية” وطحالب “الكراجين” في علاج الجنود المصابين بالتهابات الحلق والرئتين التي سببتها الغازات السامة.

عرف البشر في الحضارات الإنسانية القديمة عددًا من الفوائد العلاجية للافقاريات البحرية (الطحالب، الشعاب المرجانية، الإسنفج، الجلد شوكيات)، واستخدموها كثيرًا في الطب الشعبي. وحديثًا يزداد الاهتمام الدوائي بها أكثر من غيرها، لما لها من أهمية وتأثير كبير على كائنات ومخلوقات بحرية. كما تنتج مواد كيميائية لحمايتها من أعدائها، ومن هذه المواد يمكن استخلاص العديد من المستخلصات ذات الفائدة الصيدلانية البشرية.

ففي اليابان تم عن طريق الفم، استعمال طحلب أحمر كطارد للديدان المعوية. وقد تحتوي الطحالب البحرية الحمراء على مادة “كاراجينان” (Carrageenan) التي تلعب دورًا مهمًّا في معالجة التقرحات (كتقرحات الفم)، الأمر الذي يجعلها تضاف إلى أدوية عديدة. كما يستخلص من تلك الطحالب، مركب غروي القوام (الآجار/الهلام) لا يستغنى عنه في أي مختبر طبي أو جرثومي؛ فهو يستعمل كمثبت للمعلقات، وكوسيط في تحضير المستحلبات، ومليّن للأمعاء، وعنصر جيلاتيني لصنع التحاميل الدوائية، ومعاجين الأسنان، وكزيت جراحي.

أما الطحالب البُنّية، فتحتوي على مادة فعالة تسمى “فوكويدان” (Fucoidan)، وهي مادة مساعدة في تخفيف الالتهابات والتئام الجروح. ومن هذه الطحالب البُنّية العملاقة، وطحالب ذيل الحصان، تم اكتشاف حامض الألجينيك عام 1881، حيث كانت أملاحه تشبه مادة السليلوز، وما زالت تستعمل في صناعة الأغذية والأشربة. إذن تستخدم “ألجينات الصوديوم”، و”ألجينات الكالسيوم” (سوربسان) كعامل مثبت للجزئيات المعلقة بالمحاليل في الصناعات الغذائية، وفي ربط مكونات الدواء، وفي تكوين هلام صلب لتحضير قوالب الأسنان، وكضماد للجروح يتشرب الأنزفة والسوائل فتتحول لهلام، وهذا يقلل فترة التئام الجروح.

وفي منطقة البحر الكاريبي، تنتج بعض أنواع المرجان الناعم، مثل “المرجان المروحي” (Gorgonian)، هرمون “بروستاجلاندين”، ومواد ذات خواص مضادة للالتهابات. تستخلص من فصيلة “المرجان الكارمبي” مادة تعرف بـ”زيدو ستيرو سنيز” تفيد في تسكين الآلام، ومضادة للالتهاب. وعند جزر فيجي بالمحيط الهادئ وُجد “الكالوفيكوس المنشاري” (Callophycus ٍSerratus)، وينتج “جزيئات دفاعية” لمادة فعالة ضد مرض الملاريا. ويشبه فاعليتها، مضادات الملاريا، “الكلوروكين” (Chloroquine)، لكن بنية العقار الجديد مختلفة، وهذا ما يجعل المناعة التي كونتها طفيليات الملاريا ضد الدواء التقليدي، لا تشمل الدواء الجديد.

ومنذ عام 1982، تستعمل مستحضرات من إسفنج “إسيكلوفير” في علاج مرض الهربس، بينما يفرز إسفنج “لوفار يلافاريا بيلس” إنزيمات ومواد تعالج آلام والتهابات المفاصل ومرض الخلل العضلي. وهناك مستخلصات من الإسفنج البرتقالي، تقتل الطفيليات والديدان المعوية. ومن الطالحب والإسنفج، تستخلص -معمليًّا- مادة “لنتجوزين”، ومركبات الإندول المفيدة في علاج مضاعفات الالتهابات المختلفة المنشأ. كما يستخرج من مياه البحر ومن بعض الطحالب، البوتاس، والصودا، واليود الذي يستخدم علاجًا للدراق، وهو مهم لسلامة الغدة الدرقية. وقد تمت الاستعانة بمادة “سبونجيكان” (Spongecan) لدراسة تفاعلات المركبات المضادة للالتهاب، فضلاً عن بروتين السبونجين (Spongen) المكون لهيكل الإسفنج، وهو ذو أهمية طبية في علاج أمراض العظام والمفاصل والأسنان.

هذا ويمكن للنباتات المائية المعدلة وراثيًّا، أن تكون مصدرًا لصناعة أدوية عالية الفعالية ورخيصة الثمن تعين الطب في التغلب على الكثير من المشاكل الصحية. علمًا بأن الطحالب والأشنات البحرية، يمكن أن تكون مصدرًا رخيصًا للبروتين الإنساني أيضًا.

كنوز صيدلانية

يستخدم المحار لعلاج حموضة المعدة والحساسية والجروح، وذلك بعد طحن الصدفة وتحويلها إلى مسحوق يتم تناوله أو يوضع على العضو المصاب، وهو يستخدم في دول جنوب شرقي آسيا مثل فيتنام. وهناك مسحوق اللؤلؤ الذي يستخدم في الطب الشعبي، ويستخدم في اليابان لعلاج أمراض العيون. ولحلزونات الأصداف أشكال مختلفة، أما أصدافها فذات أهمية لاحتوائها على الكالسيوم؛ فبعد طحنها على هيئة مسحوق، تستخدم في علاج نقص الكالسيوم. وهناك بعض الحلزونات لها فوائد في تحليل آلية نقل الإشارات العصبية في الحيوان والإنسان وإصلاح قواعد المادة الوراثية (RNA) للمصابين بالأمراض الوراثية. ومن صيادلة الأعصاب ينتج الحلزوني المخروطي (Corus Magnus) (يعيش بين المحيطين الهادي والهندي)، أنواعًا عديدة من ببتيدات السموم القاتلة للأسماك وليس للإنسان، ويجري العمل لاستخدامها في إنتاج أدوية للآلام العصبية الشديدة وغيرها من الآلام المزمنة.

وتفيد القشريات في تحضير عقاقير للتحكم في نسبة كولسترول الدم، إذ استخلصت من الطبقة الخارجية لبعض القشريات سكاكر متعددة مثل مركبات شيتين (Chitin)، وشيتوسان (Chitosan). وهي تدخل في تركيب كثير من المستحضرات كالكريمات، وتصنيع الخيوط الجراحية، والمواد اللاصقة التي تستعمل في علاج الحروق والالتهابات الجلدية الناجمة عن الشمس، وفي تصنيع عجينة طبية لأخذ مقاسات الأسنان، وتحمي اللثة من الالتهابات ومضاعفات خلع الأسنان. كما استفاد الباحثون من إحدى القشريات (Daphina) في دراسة التداخل المرضي للطفيليات في جسم الإنسان، إضافة إلى بحث قدراتها العلاجية في إصلاح قواعد المادة الوراثية في الحيوانات والإنسان. وتستخلص من سرطان حدوة الحصان مادة كيميائية تحارب التلوث البكتيري، كما يُستفاد منه في دراسة العصب البصري للإنسان.

ولوحظ أن أنواعًا من طيور البطريق بالقطب الجنوبي، لا تصاب بمشكلات بالحلق، كونها تأكل نوعًا من “الجمبري”، الذي يتغذى بدوره على طحالب غنية بحامض يعمل كمضاد حيوي يقيها من التهابات الحلق. كما أنه عندما تتناول “برغوث الماء المجهري”، ينتج في قناتها الهضمية موادّ مناعية حيوية تعمل على مكافحة الجراثيم العنقودية.

ويُسهم قنديل البحر، في دراسة تعبير المورثات لدى الحيوانات الثديية، واستُخلص منه مادة كيميائية تساعد في تعقب مسببات السرطان عند الإنسان. ويدخل الأخطبوط، ومنها نوع “يوكاتان” (Ocatan Octopus)، والحبار، في أبحاث فسيولوجيا الأعصاب وحاسة الإبصار نظرًا لكبر حجم الخلايا العصبية لديها. ولنجم البحر فوائد طبية يستفاد منها في علاج متلازمة الإدمان على الكحول ومرض الربو، كما يستفاد من قطع نجم البحر في عمليات زراعة الأعضاء والمفاصل. ويستفاد من حصان البحر في علاج كسور العظام، وأمراض القلب، وحالات إدمان الكحول، وأمراض الغدة الدرقية. وقد استخدم الطب الشعبي الصيني، أحد أنواع أحصنة البحر (Syngnthus Acus) في علاج الإرهاق وتحسين مناعة الجسم، نظرًا لما يحتويه من أحماض دهنية غير مشبعة وبروتينات عالية.

ويوجد العديد من الأحياء المائية التي تشبه “خيار البحر”. ولوحظ أن مستخلصات بعضها (مركبات السبوتين)، تعمل على تأخير نمو الخلايا البشرية (مضادة للتورمات)، ولها تأثير عضلي عصبي. ولقد تم تجريب هذه الطريقة على الفئران، مما أظهرت نتائج جيدة. وقد يستعمل خيار البحر، في علاج الكثير من الأمراض الداخلية والباطنية، مثل قرحة المعدة، والأثنى عشر، والبواسير النازفة، وتقرحات الأمعاء.. وإن مستحضراته تعتبر من مضادات الالتهابات، نظرًا لوجود بعض المواد النافعة التي تضاد عمل “البروستجلاندينات”. ويحتوي خيار البحر أيضًا على مادة “الكولاجين” اللازمة لتكوين النسيج الضام في الجسم، وكذلك على كثير من الأحماض الأمينية الأساسية، وكذلك على مركب الأوميجا3، والأحماض الدهنية الأساسية الأخرى، مثل EPA وDHA، وكذلك فيتامين “E”، وبعض العناصر المعدنية الهامة. وطبيًّا تستخدم منتجات خيار البحر في المساعدة على سرعة التئام الجروح بعد العمليات الجراحية، وللتخلص من الندوب والتجاعيد الجلدية، كما أنه مفيد لحالات حَب الشباب والبثور الجلدية المختلفة.

وبسبب تثبت بلح البحر الرخو بالصخور وقعر السفن وغيرها، تمكّن الباحثون من فصل مركب بروتيني عديد الفينول، يستعمل كغراء طبي طبيعي. كما أشير لفائدة مستخلص بلح البحر الأخضر في علاج التهاب المفاصل. ويُحسن زيت السلاحف البحرية من صحة الرئتين والدورة الدموية لدى الحيوانات الثديية، إلا أنه لم يتم اختباره على الإنسان. ويُستخلص من التماسيح مواد ذات قدرة مناعية هامة تحتوي على أوميغا3، وأوميغا6، وأوميغا9، وأحماض دهنية، وفوائدها معروفة لصحة جلد الإنسان؛ حيث يساعد في التئام الالتهابات والجروح والحروق الناتجة عن ضربات الشمس والأكزيما.

في عام 1901، استخدم الفسيولوجي الفرنسي “شارل ريشيه” (1850-1935) السمك الهلامي القارص والذي يسبب تحسّسًا بعضّته لمن يقترب منه، في وضع أسس علم “الحساسية والتحسس المفرط”، ونال عن جهوده تلك جائزة نوبل 1913. وتشير البحوث الحديثة إلى دلائل لمعالجة الاضطرابات الناشئة عن التحسس. وعندما تغضب “السمكة المنتفخة”، تنتفخ ويتضاعف حجمها، وتطلق مادة كيميائية مخدرة تعمل على تسكين الألم وإزالته. وتم استخلاص مادة “تترو دو توكسين” من معي السمكة المنتفخة السامة ذات المفعول في تسكين الآلام وبخاصة ألم العضلات. كما اكتشف في هذه السمكة مادة تساعد على تخفيف سرعة دقات القلب. وقد توجد أصناف من “الرعاة ذي الحمة” تفرز سمًّا له تأثير مُخفف من سرعة نبضات القلب. وينتج “سمك الضفدع” مادة تعمل على حرق السكر في الجسم، مما قد يسهم في علاج مرضى السكري.

ويستخرج من سمك السلمون هرمون “كالسيتونين/ ثيروكالسيتونين”، كما تقوم الغدة الدرقية في جسم الإنسان السليم بإنتاجه ليكون مسؤولاً عن الأيض الغذائي لعنصر الكالسيوم، وله فائدة في تخفيض مستوى الكالسيوم في الدم عن طريق تثبيط عملية سحبه من العظام؛ أي إن نشاطه الحيوي يضاد هرمون الغدة الجاردرقية. وتصل فعالية “كالسيتونين” أسماك السالمون إلى أكثر من عشرين ضعف مثيله في الإنسان.

ومن السموم الناقعات دواء

سموم عدد من ثعابين البحر، والسمك النهاش الأحمر، والباركودا، وسمك ذئب البحر، وسمك “فوجو”، وسمك “الماعز”؛ قوية ومتنوعة التأثير الصحي والعصبي، ويمكن معالجتها لتكون ترياقات وعقاقير مختلفة الفائدة الدوائية.. ومنها ما يعمل على استمرارية سيولة الدم عند تخثره، أو يساعد على تخثره وإيقاف النزيف عقب الإصابة أو الجراحة، ويشبه “الأنقليس الكهربائي” ثعبان البحر في شكله المتطاول، وقد يستفاد من التجارب على أنسجته، فهم كيفية تخليق مادة “PAM” المستعملة كترياق لمعالجة الإصابات بغازات الأعصاب السامة.

زيت كبد الحوت

منذ القدم، كان يستفيد البشر من الخصائص الطبيعية لزيت كبد الحوت الطازج، وأكباد أسماك أخرى (كالهلبوت)، وحديثًا تم تكثيف استعماله لأغراض صحية وعلاجية؛ حيث تم تعبئته داخل مَحافظ جيلاتينية كمصدر غني بالفيتامينين “أ” و”د”، وبالتالي إنه يوصف للوقاية لعلاج الكساح، ولين العظام عند الأطفال، لأن فيتامين “د” يساعد على ترسيب الكالسيوم في العظام والأسنان، كما أن فيتامين “أ” عنصر هام للنمو وبناء عضلات الجسم. وفي علاج دوالي الساق يستعمل محلول مركب “مورهايت الصوديوم” (5%)، وهو عبارة عن أملاح الصوديوم للأحماض الدهنية في زيت كبد الحوت.

إذن، صبغات، وأملاح، وعناصر، وفيتامينات، وهرمونات، ومستحضرات، ومستخلصات، وترياقات، وعقاقير صيدلانية بحرية، يتنامى اكتشافها واستثمارها في الصناعات الغذائية والدوائية. وفي ذلك تتسابق الدول فترسل سفنها تمخر عباب البحار والمحيطات لهثًا وراء تلكم الكنوز، وذلك الفضل من الله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(النحل:14).