إن القيم والمعايير المستمدة من خالق الإنسان والعالم بكينونته وحاجاته ونزواته وشهواته وأهوائه، مؤهلة لأن تكون معايير الشهود على الذات، مجسدة فى سيرة النبوة وبيانها، بعيدًا عن وضع الإنسان وعبث الإنسان، واستغلال الإنسان، لذلك فالقيم المستمدة من النبوة لا يمكن إلا أن تكون واقعية قابلة للتطبيق، حيث تعتبر مناط التكليف هو استطاعة الإنسان وفطرته واستعداداته.     

إن قيم الشهادة والشهود والتجربة التاريخية التى تجسدت فى حياة الناس، بمختلف أحوالهم وأوضاعهم وأجناسهم، فأنتجت حضارة لبني الإنسان جميعًا هي قيم ومعايير واقعية غير خيالية أو طوباوية مثالية غير قابلة للتطبيق، لذلك فهي باستمرار مؤهلة للشهود والشهادة على الناس.

فالقيم التى تعتبر الخيار وعدم الاكراه مرادفًا لإنسانية الإنسان وكرامته، هي قيم مؤهلة للحكم والشهادة والقيادة للناس والقيم التى استوعبت الحركة الحضارية التاريخية، وقدمت قوانين وأسباب وسننًا لسقوطها ونهوضها وانتهت إليها أصول النبوات السابقة واستصحبت الصواب من تاريخ الإنسانية وتجاربها، وحددت مواطن الخلل، وحررت المعايير فى الانحياز مؤهلة للشهادة على الذات و(الآخر).

وحسبنا أن نقول : بأن المساواة والعدالة، وحرية الاختيار، والشورى فى اختيار الحاكم وإدارة شؤون الحكم، وإيقاف تسلط الإنسان على الإنسان، وإقامة حراسة بإيقاظ  الوازع من داخل النفس، ووضع تشريع ملزم من خارج النفس (ضبط المسيرة) هي قيم جديرة بالشهادة على الذات والآخر.

إن مصدرية هذه القيم وخصائصها، هو الذي مكنها من التعاون والاستمرار والقدرة على الإنتاج فى عصور متعددة، وشعوب متعددة وجغرافيا متعددة بحيث لا تستطيع  أمة ان تدعي لنفسها هذه القيم إلا بمقدار ما تلتزم بها وتحملها ( للآخر) لإنقاذه من أزماته واسترداد إنسانيته.

أزمة الثقافة الغربية المعاصرة

وفى المقابل نجد الغرب يسقط فى العصر الحديث فريسة للمادية الكاملة ، لقد قام “سوركين” بتتبع الأطوار التى مرت بها الحضارة الغربية فى العصور الحديثة ،وبين ماهية القيم المحورية التى سادت فى كل عصر من العصور ، وحدد موقع كل منها على خريطة الأنماط الثقافية ما بين الحسية / والمعنوية الزهدية / والمثالية ، فأوضح ان الحضارة الأوربية فى العصور الوسطى كان المحور الذي تدور حوله من نوع الثقافة “المعنوية الزهدية” Ideational، وكانت تلك الثقافة تدور حول قيمة رئيسة ومبدأ أول، وحقيقة مطلقة تتمثل فى وجود الله (جل وعلا) .. ولكن هذا المبدأ المحوري قد بدأ فى التدهور فى نهاية القرن الثاني عشر مع بزوغ نجم القيم (الحسية).. ثم إنه من تكامل المبدأين (المادي الحسي، والمعنوي الزهدي) نشأت فى القرنين الثالث عشر مرحلة من الثقافة (المثالية) Idealistic  .. ولكن هذه المرحلة القصيرة سرعان ما تهاوت بدءًا من القرن السادس عشر تحت وطأة الاندفاع الشديد فى الاتجاه المادي الوليد على حساب المكون المعنوي الروحي، فدخلت الحضارة الغربية بقوة فى العصر الحديث .. عصر الثقافة المادية الحسية Sensate .. عصر يقول “سوروكين” إنه تسوده المبادئ “الدنيوية النفعية”                                                                                             

عالم الإجتماع والفيلسوف سوركين

  ولقد حققت تلك الثقافة المادية على مدى خمسة قرون إنجازات علمية غير مسبوقة فى محيط العلوم الطبيعية، كما توصلت إلى عدد هائل من الأبتكارات التكنولوجية الرائعة، ولكنها فى الوقت ذاته قد ضيقت نطاق رؤيتنا للوجود وللحقبة ـ كما يقول سوروكين ـ فاستبعدت كل ما ليس ماديًا وكل ما هو متجاوز للحواس بما فى ذلك مفهوم الله (عز وجل ) بل ومفهوم العقل ذاته، بل وانتقلت من مرحلة الثقافة (المادية الإيجابية النشطة ) إلى  مراحل الثقافة (المادية السلبية) أو”المادية الكلبية” مما أدى إلى شيوع الاتجاهات المادية الميكانيكية المتطرفة، والتركيز على اغتنام اللذائذ والشهوات الحسية والجنسية، وشيوع الاتجاهات الإمبريقية والوضعية السطحية، كما تدنت قيمة الإنسان نفسه فى الحياة المعاصرة، فلم يعد ينظر إليه على أنه أكثر من مجرد كائن بيولوجي Organism لا قيمة خاصة له، ولا كرامة خاصة تميزه عن بقية الكائنات الحية.

 ولقد أدى هذا كله إلى دخول الحضارة الغربية المعاصرة منذ العقود الأولى من القرن العشرين فى إسار ما أسماه سوروكين “أزمة العصر” The Crisis of our age”   تلك الحالة التى جعلها عنوانًا لواحد من مؤلفاته الهامة والتى وضعها فى ضوء أكوام الأدلة التى تم جمعها فى دراسته الكبرى، ولقد كرس صفحات ذلك الكتاب القيم كله لدراسة المظاهر التفصيلية لتلك الأزمة التى واجهتها الحضارة الغربية فى القرن العشرين فى مختلف الحياة فيها، والتى تنبأ باستمرارها شدة وقسوة فى المستبقل… اللهم إلا  إذا عادت تلك الحضارة إلى رشدها باستعادة القيم الروحية والدينية لتتكامل مع ما تعتد به اليوم من الجوانب المادية / الإمبيريقية فيما يمكن أن يؤدي بها إلى بدء حقبة جديدة رائعة من حقب”الثقافة المثالية” يتم فيها “تصحيح الأخطاء القاتلة للثقافة الحسية المادية ” بالإعداد بصورة متناغمة للثورة الفكرية الأخلاقية الثقافية / الاجتماعية المحتم حدوثها فى المجتمع الغربي.      

  تلك هي الحضارة الغربية الغالبة اليوم ، وتلك هي رؤيتها المائلة والمميلة  للوجود والكون والحياة، وتلك قيمها الأخلاقية ونظمها الثقافية التى تسعى جحافل العولمة لفرضها على شعوبنا، والنفاذ بها إلى عقول وقلوب شبابنا لتشكيلهم  على صورتها، مستخدمة فى ذلك كل صور الإغراء والتأثير ومستعينة فى ذلك بالآليات الفعلية لتلك الثورة الاتصالية والمعلوماتية العصرية.

 إن كتاب سوركين السابق يعبر عن موقف الحضارة الغربية التى تعاني فى كل جوانب حياتها الأخلاقية والسياسية والاجتماعية والثقافية من حالة الاحتضار الثقافي والأخلاقي والخواء الداخلي الشامل.

  ومن هنا فالتحدي الأكبر الذي يواجه مجتمعاتنا العربية والإسلامية اليوم إنما يتمثل فى كيفية المحافظة على نمطها الثقافي الأقرب بطبيعته ـ وكما سيتضح لنا إلى ” النمط المثالي  Idealist ” الذي يرى الحقيقة فى صورتها التكاملية التى يطلق عليها سوركين اصطلاح Integral Theory of Truthend Reality فتدعم فيه نصوع قيمها الروحية والدينية فى نفس الوقت الذي تدعم فيه الجانب الحسي / المادي من حضارتها التزامًا بوسطية هذه الأمة وخيريتها دون إفراط أو تفريط… فى نفس الوقت الذي تقوم فيه بمواجهة ضغوط (وإغراءات) قوى العولمة التى تسعى ولو باستخدام القوة التعسفية لتشكيل ثقافتنا وقيمنا فى إتجاهات مصابة بالمرض بل(مسمومة) بتعبير سوروكين نفسه.