فقه الإصلاح عند بديع الزمان سعيد النورسي

كان الهدف الرئيس لبديع الزمان سعيد النورسي -رحمه الله- هو “إنقاذ الإيمان” الذي يبعث الطمأنينة في الفرد، والسعادة في المجتمع، بدلاً من تقديم وصفات اجتماعية غير قابلة للتطبيق.

أما الأهداف الأخرى التي سوف تنبثق بشكل طبيعي من هذا الهدف الكبير هي: القضاء على الجهل، والقضاء على الفقر، والقضاء على الاستبداد، والدعوة إلى وحدة المسلمين أو اتحادهم.

وكان هاديه ومرشده، القرآن الكريم والسنة المطهرة بنورهما في الظلام الذي خيم على تركيا وقتئذ، شاقًّا طريقه إلى القلوب والعقول التي كانت غارقة في لوثات الجاهلية العمياء. ونظرًا لهذه الظروف، كان لا بد من إعداد محكم من أجل عملية الإصلاح والتغيير.

1- إعداد النفس والفرد: بدأ النورسي بنفسه فعالج أمراضها وخلصها من أدران الحياة المادية ومن كل ما يخدش المروءة والعفة والفضيلة، وزهد في المال والحياة والمنصب حتى أصبح مثالاً يحتذى به، وقد قال عن نفسه: “لا بد أن أبدأ بها أولاً، لأن من عجز عن إصلاح نفسه، فهو عن غيرها عاجز”.

ثم انتقل بعد ذلك إلى إخوانه النورانيين، ناقلاً لهم ما سمت به نفسه وما زكت به روحه، حتى يجعل قلوبهم صلبة قوية تتحدى كل الصعاب، وتدعو إلى الإيمان والتضحية بالغالي والنفيس من أجل الإقرار والتمكين لشريعة الرحمان.

يقول أحد تلاميذه كما جاء في كتاب ذكريات النورسي: “كان يتحدث في أغلب دروسه عن الأخوة والإخلاص، وكان يشخص مرض زماننا هذا بالغرور والأنانية وحب النفس”.

لقد قام الأستاذ النورسي بعملية تنوير وترشيد لطلاب النور، ليستطيعوا أداء المهمات المنوطة بهم، فأوصاهم بالبعد عن الجدال العقيم مع الآخرين، ودعا إلى الصفح عن من أساء إليهم، وأن لا يحملوا روح الانتقام في نفوسهم ولو مثقال ذرة.

2- الاهتمام بالبيت والأسرة: اهتم الأستاذ النورسي بالأسرة والبيت أيما اهتمام، وأولاهما العناية الفائقة زوجًا وزوجة وأولادًا، ودعا إلى الحفاظ عليها، فهي الخلية الأولى في المجتمع الصالح فقال: “إن الحياة البشرية هي قلعة الإنسان الحصينة، ولا سيما للمسلم هي كالجنة المصغرة ودنياه الصغيرة”.

وقد كتب رسالة الحجاب التي حوكم بسببها، والتي توجه بها إلى كل فتاة تركية، صيانة لها من الدعاوى الهدامة التي تدعو إلى السفور ورفع الحشمة والحياء بدعوى التقدم والتحضر ومسايرة العصر، وأوصى بالوالدين والأقارب وبإحسان تربية الأولاد، حيث قال: “اجعلوا بيوتكم مدرسة نورية مصغرة، وموضع تلقي العلم والعرفان، كي يتربى الأولاد الذين هم ثمار تطبيق هذه السنة على الإيمان، فيكونوا لكم شفعاء يوم القيامة وأبناء بررة في هذه الدنيا”. ومن هنا يتضح أن سبب اهتمام بديع الزمان بالأسرة والبيت، إنما راجع لكون الأسرة هي النواة الأولى لتكوين المجتمع.

3- دعوته إلى صلاح المجتمع: وذلك بتخليصه من الأمراض النفسية المهلكة من عداوة وتحاسد وتباغض وفرقة وعطالة وتهالك على الذات.

ولطالما حارب العجز والجزع اللذين هما شأن الضعفاء فيقول: “إن رمت الحياة فلا تتشبث بالعجز فيما يمكن حله، وإن رمت الراحة فلا تستمسك بالجزع فيما لا علاج له”.

والمتأمل في هذا الكلام وغيره مما هو مبثوث في رسائله، يظهر له بجلاء أن النورسي طبيب نفساني وروحاني، ولا يكاد يرى جانبًا من جوانب الضعف في المجتمع إلا يبادر إلى إصلاحه بما يناسب من دواء.

وكان يربي تلاميذه على الحياة البسيطة البعيدة عن كل ترف، وخاصة في هذا الزمان الذي يتضور فيه أكثر المسلمين جوعًا.

ولطالما كرر -رحمه الله- قولته المربية: “كلما نادت اللذائذ، فينبغي الإجابة: كأني أكلت”.

وكان لا يستثني من حديثه أحدًا، وكان يخاطب سائر شرائح المجتمع حتى المرضى منهم وأصحاب الابتلاء.

ومن رسائله القيمة في هذا المضمار، ما عنونه تحت اسم “سلوة المرضى”. ولنكتف بحكمة واحدة من حكمه التي دعا فيها هؤلاء بالصبر الجميل على ما ابتلوا به حيث يقول: “أيها المريض المسكين، لا تقلق، اصبر، فإن مرضك ليس علة لك، بل هو نوع من الدواء، ذلك لأن العمر رأس مال يتلاشى، إن لم يستثمر فسيضيع كل شيء، وبخاصة إذا انقضى بالراحة والغفلة، وهو يحث الخطا إلى نهايته”.

ثم ينتقل إلى مرض آخر ضرب أطنابه في الأمة وعصف بأخلاقها -كاللهو والفجور والمجون- التي هي كفيلة بالقضاء على مروءة الناس، فبادر إلى بيان رأي الشرع فيها فقال: “نهت الشريعة الغراء عن اللهو وما يلهي، فحرمت بعض آلات اللهو وأباحت أخرى، بمعنى أن الآلة التي تؤثر تأثيرًا حزينًا حزنًا قرآنيًّا لا تضر، بينما إن أثرت في الإنسان تأثيرًا يتيميًّا، وهيجت شوقًا نفسانيًّا تحرم الآلة، تتبدل هذه الحالة حسب الأشخاص والناس ليسوا سواء”.

ثم ينتقل تارة إلى هؤلاء العاطلين المتقاعسين عن العمل والكسب الطيب، حيث عد عطالتهم نوعًا من الموت: “إن أشد الناس شقاء واضطرابًا وضيقًا، هو العاطل عن العمل، لأن العطل هو عدم ضمن الوجود، أي موت ضمن حياة، أما السعي فهو حياة الوجود ويقظة الحياة”.

ومن خلال ما تم تقديمه عن الأمراض التي تثبط العزائم، وتنخر القوى، وتجعل من المجتمع مجتمعًا خاملاً كسولاً لا يقوى على تغيير ما هو عليه من حياة الذل والهوان، نلحظ كيف حاول الأستاذ -بكل ما أوتي من قوة- تغيير هذا الخلل، وذلك بالرفع من المعنويات، وبالتوجيه إلى أسلم الطرق المؤدية إلى بر الأمان.

4- دعوته إلى تحكيم الشريعة: دعا الأستاذ النورسي إلى بعث الفكر الإسلامي من جديد، وتجديد علوم الشريعة، لأنه لا خلاص من ظلم النفس وشرها إلا بالاعتماد على الإسلام والتمسك بحبل الله المتين الذي هو القرآن الكريم، مبينًا فضل الإسلام على العالمين، وكيف كان يعيش الإنسان قبل مجيء الإسلام، وكيف أصبح يعيش بعده.

ومن المسائل العجيبة في حياة هذا الرجل المجاهد، والتي لا تترك لمن درس سيرته إلا أن يعجب بشخصيته، وبكبير ثقته بخالقه، وبسمو إيمانه؛ حيث إنه في يوم من الأيام اعتقل، وفي المحكمة سأله الحاكم: “سمعت أنك من المطالبين بأحكام الشريعة الإسلامية”، فأجاب: “لو أن لي ألف نفس، لما ترددت بفدائها في سبيل حقيقة واحدة وحكم واحد من أحكام الشريعة؛ إنها طريق السعادة والعدالة والفضيلة المحضة”.

وكان همه في هذه الفترة، هو بعث روح الدين الإسلامي، والرد على من وضعوا نصب أعينهم إبعاد الشريعة عن الحياة، وغرتهم الحياة الأوربية ببهرجها.

5- العلماء: أولى العلماء عناية كبيرة، لأنهم موجّهو هذه الأمة، فإن كانوا من العاملين المخلصين المضحين، ظهرت ثمرة تضحياتهم وذلك بصلاح المجتمع ورقيه، وإن كان العكس، كانت النتائج وخيمة تعود بالضرر على الجميع. وقد علم واشتهر أن النبي ذم في غير ما موضع من كان هذا حاله؛ حيث قال: “من كتم علمًا، ألجمه الله يوم القيامة بلجام من النار”. ولهذا فالنورسي كلما أتاحت الفرصة، كان يعرفهم بواجبهم اتجاه المد الإلحادي، ويحذرهم من الركون إلى الظالمين، ويحذرهم كذلك من انتقاد بعضهم بعضًا قصد التشهير، لأن المستفيد من تناحرهم إنما هم الملاحدة، وطالبهم أن يكونوا قدوة للناس، وشكر العاملين منهم.

6- رجال الحكم: لم يكن النورسي منعزلاً عن أصحاب الإدارة، وسيرة حياته تحكي لنا عن لقائه السلطان عبد الحميد الثاني، والسلطان محمد رشاد وغيرهما كثير… كان يلتقي ببعضهم ويراسل البعض الآخر، ويخاطب ويحاضر أمام آخرين. كان يطالبهم بحقوق الأمة عليهم، ويذكرهم بواجبهم تجاه الدين والأمة والوطن. كان يلين أحيانًا -كما في رسالته إلى السلطان عبد الحميد وغيره- وكان يشتد أحيانًا، خاصة مع الملاحدة.

هذا باختصار بعض ملامح خطته في التغيير والإصلاح، التي ما تقاعس في بثها ونشرها في المجتمع قصد الاستفادة منها، حتى تكون نورًا يضيء الطريق لكل واحد من أبناء مجتمعه.

عاصر بديع الزمان سعيد النورسيي هذه الفترة -التي شاع فيها الجهل والفقر والتخلف- ووعى الداء، فتسلح بالعلم والإيمان والإخلاص، ثم انطلق يدعو في المدن والقرى؛ حيث قابل السلاطين والوزراء ورجال الحكم والإدارة، يعرفهم بواجبهم تجاه الأمة والوطن ويطالبهم بالإصلاح، ثم دعا أبناء الشعب إلى اليقظة من الذل الذي غطى حياتهم حتى صار مألوفًا عندهم، حيث يقول في هذا الصدد: “في خضم التيارات الرهيبة، والحوادث المزلزلة للحياة والعالم، ينبغي أن يكون الإنسان على ثبات وصلابة لا تحد بحدود، وضبط للنفس لا نهاية له، واستعداد للتضحية لا منتهى لها”.

خاتمة

لقد حقق بديع الزمان سعيد النورسي نتائج جيدة من خلال مواعظه ورسائله وخطبه، حتى أفاقت من كان في غفلة وأحيَتْ قلوبًا ماتت رغم المعيقات التي كانت تواجهه من سجون ومنافٍ ومعتقلات؛ ثمانية وعشرين عامًا لا غير، قضاها سجينًا ومنفيًّا بعيدًا عن الناس وعن تلاميذه. ولهذا لم يتم له من الوسائل إلا النزر اليسير للتبشير بدعوته الإصلاحية. وقد استثمر الأستاذ النورسي كل الوسائل المتاحة من محاضرات، وكتابة في الصحف، إلى تأليف رسائل النور التي كانت -وما تزال- دروسًا قرآنية توافق أفهام هذا العصر، وكانت كل رسالة منها هي سعيد النورسي نفسه.

ورغم كل الجهود، إلا أنه لا بد لكل نظرية تغييرية، من موارد بشرية بأعدادها ونوعيتها، وإلى الخبرات اللازمة والتقنية المكافئة، وإلى الوقت الكافي لعملية التغيير، وإلى المكان الصالح والجاهز لتلك العملية. وهذه كلها لم تكن متوفرة لدى بديع الزمان سعيد النورسي لطبيعة الظروف القاسية التي كان يعيشها، والتي فرضها عليه أعداء الإسلام. إن النورسي استطاع -بحق- تحويل أحاسيس اليأس والإحباط إلى مشاعر إيجابية بنّاءة، واستطاع تعبئتهم تعبئة نفسية سليمة، وولّد لديهم طاقة جديدة يحدوها الأمل بمستقبل أفضل.

(*) كاتب وباحث مغربي.

المراجع

(1)     الكلمات، لبديع الزمان سعيد النورسي، ترجمة: إحسان قاسم الصالحي، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، 2008.

(2)     منهج الإصلاح والتغيير عند بديع الزمان النورسي، لعبد الله محمود الطنطاوي، الدار الشامية للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 1997.

(3)     ذكريات عن سعيد النورسي، لأسيد إحسان قاسم.

(4)     بديع الزمان سعيد النورسي.. عصره ودعوته، للدكتور فرج محمد الوصيف، دار نور الإسلام، مصر، 1996.

(5)     مرشد أهل القرآن إلى حقائق الإيمان، لبديع الزمان النورسي، دار سوزلز للنشر، تركيا، 2012.