يُعد جابر بن حيان الأزدي (123-184هـ/740-800م) الرائد الأول لعلم الكيمياء وشيخ الكيميائيين المسلمين، اطلع ودرس محاولات من سبقوه من الكيميائيين -وخاصة خالد بن يزيد بن معاوية، وجعفر الصادق- إلى جانب اطلاعه على تراث الأمم الأخرى في الكيمياء الذي ترجم إلى اللغة العربية. وبدأت انطلاقة جابر بعد دراسة وتمحيص الدراسات الكيميائية السابقة عليه ونقدها، وخاصة الفكر اليوناني الذي اعتمد جابر على أحد نظرياته وهي نظرية الطبائع الأربع الأولية التي نشأت بمقتضاها الكائنات جميعًا، وفكرة تحويل المعادن.. لكنه سينتهي إلى نتائج علمية تختلف بالنوع والكيف عن الفكر اليوناني، حيث أسهم جابر في بناء المنهج التجريبي في مقابل المنهج العقلي اليوناني. وبتطبيق هذا المنهج أرسى قواعد علم الكيمياء، ووصل به حدًّا جعل كل من أتوا بعده تلاميذ في مدرسته الكيميائية التي أسسها وامتد أثرها إلى العصر الحديث.

نشأ جابر بن حيان في أسرة تشجع على العلم والبحث والدرس، حيث كان أبوه “حيّان” من المشتغلين بالعقاقير ويعمل صيدلانيًّا في الكوفة. ونشأ جابر في عصر كان يولي اهتمامًا كبيرًا بالترجمة عن الأمم الأخرى، ولا سيما اليونان القدماء. ولكن لم يكن جابر -كغيره من العلماء المسلمين- مجرد ناقل عن الذين ترجموا من اليونانية إلى العربية، لكنه بعد أن درس العلم اليوناني واستوعبه ونقده، استطاع أن يضيف إليه من إبداعات عقله الإسلامي. ففي كتابه “إخراج ما في القوة إلى الفعل” عالج مفهوم القوة والفعل اليوناني من خلال إبداعاته الخاصة.

منهج علم الكيمياء

لقد استخدم علماء الحضارة الإسلامية في العلوم الطبيعية -ومنها الكيمياء- منهجًا علميًّا يقوم على استخراج علة الشيء أو سببه، وهو ما عُرف بـ”القياس الأصولي” القائم على قانون العلّيّة أو التعليل والاطراد في وقوع الحوادث. ويذهب جابر بن حيان -في كتاب الخواص الكبير- إلى أن العلة قبل المعلول بالذات ضرورة، ولا يمكن أن يكون ذات ما لا يكون لا علة ولا معلول.

وإذا كان جابر بن حيان قد اطلع على التراث العلمي اليوناني وتأثر به في بعض جوانب تفكيره، إلا أنه اتخذ التجربة سبيلاً إلى التثبت من صحة الآراء والنظريات اليونانية التي وقف على دراستها. وفي التمييز بين العقلية اليونانية والعقلية الإسلامية في البحث والدرس يقول “غوستاف لوبون”: “إنك لا تجد عالمًا يونانيًّا استند في مباحثه إلى التجربة، مع أنك تعدّ مئات من العرب الذين قامت مباحثهم الكيميائية على التجربة، فـجابر بن حيان أستاذ لافوازيه أبي الكمياء الحديثة.

ولم تكن تجريبية جابر مجرد معرفة بالخبرة، بل كانت عبارة ازدواج بين العقل والعمل -كما ينص المنهج التجريبي الحديث الذي صاغه علماء الغرب المحدثين- حيث يمر منهج العلم التجريبي أو الاستقرائي بمراحل ثلاث الأولى هي مرحلة البحث، والثانية هي مرحلة الكشف، والثالثة هي مرحلة البرهان. فالجانب العقلي يتمثل في المرحلة الثانية وهي مرحلة الكشف، ويتمثل الجانب التجريبي في المرحلتين الأولى والثالثة وهما البحث والبرهان. ويصرح جابر بأن منهجه العلمي التجريبي قد ضمه بصورة كلية في كتابه “الخواص”.

وفي كتاب السبعين، يجعل جابر الدربة (التجربة) محكًّا للتمييز بين العالم وغير العالم. فالأول يصل بالتجربة إلى نتائج جديدة، والثاني يعطل البحث العلمي: فمن كان دربًا كان عالمًا حقًّا، ومن لم يكن دربًا لم يكن عالمًا. وحسبك بالدربة في جميع الصنائع أن الصانع الدرب يحذق، وغير الدرب يعطل.

وعلى صاحب التجربة -تبعًا لجابر- أن يعرف علة قيامه بالتجربة التي يجريها، وأن يفهم الإرشادات فهمًا جيدًا، ويجتذب المستحيل والعقيم.. ويجب عليه اختيار الزمن الملائم لإجراء التجربة، ويفضل أن يكون معمله في مكان معزول، وأن يكون لديه الوقت الكافي الذي يمكنه من إجراء تجاربه التي يجب أن يكون دؤوبًا عليها وصبورًا على نتائجها، وألاّ تخدعه الظواهر فيتسرع في الوصول إلى النتائج التي يمكن أن تؤدي إلى الفشل.

وإذا كانت التجربة في التصور العلمي الحديث تُزوِّد العلم بالأساس المادي الذي يثبت وجهة نظر الباحث فيما سبق له أن لاحظه من الوقائع والمشاهدات، فإن جابرًا قد فطن إلى هذا المفهوم وطبقه بصورة فعلية. فمن نصوصه يمكن تلمس خطوات السير في طريق البحث العلمي، وهي خطوات تتطابق مع ما يتفق عليه معظم المشتغلين بالمنهج العلمي اليوم.

ولم يغفل جابر بن حيان دور الملاحظة أو المشاهدة الحسية تمامًا كما في المنهج العلمي الحديث؛ ففي المقالة الأولى من كتاب الخواص الكبير يقول: “ويجب أن تعلم أنّا نذكر في هذه الكتب، خواص ما رأينا فقط دون ما سمعناه أو قيل لنا أو قرأناه بعد أن امتحنّاه وجربناه، فما صح أوردناه، وما بطل رفضناه، واستخرجناه نحن وقايسناه على أقوال هؤلاء القوم”.

وينصح جابر بضرورة قراءة الكتب والتحصيل النظري قبل إجراء التجارب. ومع اعترافه بأن عملية الاطلاع على ما في الكتب النظرية تقتضى تعبًا وكدًّا، إلا أنها هي الخطوة الأساسية الأولى في البحث إذا أراد الباحث الوصول إلى الحقيقة بعد التجربة، حيث يقول: “اِتعبْ أولاً تعبًا واحدًا، واجمع وانظر واعلم، ثم اعمل، تصل إلى ما تريد”.

يتضح مما سبق أن جابرًا بن حيان قد اتبع المنهج العلمي بأدق تفاصيله. وقد أدى به هذا إلى إحراز نتائج مهمة في تقدم علم الكيمياء. بيد أن التطور الذي حدث في مجال هذا العلم لم يكن في مجال المنهج فحسب، وإنما امتد ليشمل نسق المعرفة العلمية فيه على ما سيتضح فيما يلي:

حدود علم الصنعة

اشتغل جابر بما شغل كافة الكيميائيين والأطباء على مرّ العصور وهو صناعة الإكسير، وزعم أنه استحضره وعالج به أكثر من ألف مريض كما يقول في كتاب الخواص الكبير: “خلصت بالإكسير أكثر من ألف نفس، ومنهم جارية سيدي يحيى بن خالد التي أصابتها علة لم تقدر معها على النفس ولا الكلام البتة، ولما زاد الأمر سألني أن أراها، فرأيتها ميتة خاملة جدًّا، وكان معي من هذا الإكسير شيء فسقيتها منه وزن حبتين بسكنجبين صرف مقدار ثلاث أواق. فو الله لقد سترتُ وجهي عن هذه الجارية لأنها عادت إلى أكمل ما كانت عليه في أقل من نصف ساعة زمانية، فأكبّ يحيى على رجلي مقبلاً لها”.

ويذهب جابر -في كتاب الميزان الصغير- إلى أن تركيب وطبيعة العنصر أو الجوهر يرجع إلى طبيعة العلاقة بين كميته وكيفيته، وهو يعرض لخمسة أشكال لهذه العلاقة ينبغي لطالب العلم أن يتمرس بها بطول دراستها، وكي يخرج له علم أسرار الخليقة وصنعة الطبيعة، ويكون عالمًا بموازين هذه العناصر.

درس جابر خواص العناصر المعدنية وكيفية تحويلها كيميائيًّا، دراسة علمية دقيقة أدت به إلى قيامه بكثير من العمليات والتفاعلات الكيميائية. ووصف ميزانًا خاصًّا لمعرفة النسب بالمختلطة بين الجواهر أو المعادن، مثل الذهب والفضة والنحاس والرصاص وغيرها فقال: “فإذا أردت ذلك فاستعمل ميزانًا على هيئة الأشكال، ويكون بثلاث عُرى خارجة إلى فوق، واعمل بهذه الكفتين كعمل الموازين، أعني من شدك بها الخيوط وما يحتاج إليه، ولتكن الحديدة الواسطة التي فيها اللسان في نهاية ما يكون من الاعتدال، حتى لا يميل اللسان فيها أولاً قبل نصب الخيوط عليها إلى حبة من الحبات، ويكون وزن الكفتين واحدًا وسعتهما واحدة، ثم شد الميزان كما يُشد سائر الموازين، ثم خذ إناء فيه ما يكون عمقه إلى أسفل نحو الشبر أو دونه، ثم املأ ماءً قد صفّي أيامًا من دغله وقذره، ثم اعمد إلى سبيكة ذهب أحمر خالص نقي جيد ويكون وزنها درهمًا، وسبيكة فضة بيضاء خالصة ويكون وزنها درهمًا، ويكون مقدار السبيكتين واحدًا، ثم ضع الذهب في إحدى الكفتين، والفضة في الأخرى، ثم دل الكفتين في ذلك الماء الذي وصفنا، إلى أن تغوصا في الماء وتمتلئا من الماء، ثم اطرح الميزان فإنك تجد الكفة التي فيها الذهب ترجح عن التي فيها الفضة، وذلك لصغر جرم الذهب وانتفاش الفضة، وذلك لا يكون إلا من اليبوسة التي فيه. فاعرف الزيادة التي بينهما بالصنجة واعلم أن بينهما دانقًا ونصفًا.

نظرية تكوين المعادن

وقف جابر طويلاً أمام عنصر الكبريت، وأجرى عليه كثيرًا من التجارب، وبحث فيه كثيرًا.. وسجل أبحاثه في مؤلفاته، حيث وصف فيها جميع صور الكبريت المعروفة حاليًّا، مثل زهر الكبريت (الكبريت الذهب) والكبريت المطاط، والكبريت العمود.. ورأى جابر أن عنصر الزئبق يتحد ببعض المعادن مثل الحديد. وبالبحث والتجارب انتهى جابر إلى أن الزئبق يتحد بأكثر المعادن اتحادًا كيميائيًّا متخذًا صورة ملاغمة عن طريق تكوين الأصرة المعدنية، تلك التي لم تُعرف بعدَ جابر إلا في القرن العشرين.

ومن أبحاثه وتجاربه في الكبريت والزئبق، انتهى جابر إلى تدشين نظريته في تكوين المعادن، حيث سادت نظرية العناصر الأربعة في العصر اليوناني، وانتقلت إلى العالم الإسلامي. ومع أن جابرًا بن حيان قد أخذ بها، إلا أنه تقدم تقدمًا ملحوظًا عليها وعلى غيرها من النظريات اليونانية، وذلك بوضعه نظريته في طبيعة المعادن أو نظرية الكبرت والزئبق، التي ضمّنها في بعض مؤلفاته، خاصة كتاب المائة، وكتاب الإيضاح.

ودشن جابر هذه النظرية مع فهمه التام أنها صورة تقريبية لما يحدث في تكوين المعادن داخل باطن الأرض. فقد علم يقينًا أن الكبريت والزئبق اللذين يكوّنان المعادن، هما عنصران افتراضيان، وأقرب شيء إليهما الكبريت والزئبق اللذان إذا اتحدا بالتسخين، ينتج عنها الزنجفر طبقًا لهذه المعادلة الانعكاسية:

كبريت + زئبق كبريتيد الزئبق (الزنجفر) الذي ما زال معروفًا في الكيمياء الحديثة بالأسم الذي أطلقه عليه جابر “Cinnabar”. ويتم تحضيره في المعامل والصناعة حاليًّا بنفس الطريقة التي استحضره بها جابر ودوّنها في كتابه “الخواص الكبير” وفقًا للمعادلة الحديثة التالية:

حرارة: (Hg + S = HgS)

هذا وقد حضّر جابر الأحماض المعدنية الثلاثة الرئيسية في الكيمياء، وهي حمض النتريك، وحمض الكبريتيك، وحمض الهيدروكلوريك. وما زالت هذه الأحماض تمثل أحد الركائز الأساسية في الكيمياء الحديثة. ويمكن الوقوف على تدابير (تجارب) جابر لتحضيرها فيما يلي:

1- حمض النتريك: عرف جابر حمض النتريك واستخدمه في إذابة الفلزات. واشتملت تجربته لتحضيره، على مزج رطل من الزاج القبرصي وهو كبريتات الحديدوز (Fe SO4)، ورطل من ملح الصخر وهو نترات البوتاسيوم أو ملح البارود (KNO3)، وربع رطل من الشب اليماني، وهو ما يُعرف في الكيمياء الحديثة باسم KAI(SO4)2 H2O. ويفسر التفاعل الكميائي في هذه التجربة بأن الحرارة تفك كبريتات الحديدوز، فتعطي غاز ثاني أكسيد الكبريت وغاز ثالث أكسيد الكبريت، وتعطي هي والشب ماء التيلور. ومع مساعدة الشب في عملية الانصهار يذوب ثاني وثالث أكسيد الكبريت في الماء، فينتج حمض الكبريتيك الذي يتفاعل مع نترات البوتاسيوم فيعطي حمض النتريك. وتعبر الكيمياء الحديثة بالمعادلات عن سلسلة التفاعلات التي تتم في هذه التجربة هكذا:

FeSo4 Feo + So3

So3 + H2o H2So4

H2So4 + 2KNo3 HNo3 + KSo4

2- حمض الكبريتيك: أجرى جابر تجربة استحضار حمض الكبريتيك من الزاج الأزرق الذي سمّاه “زيت الزاج” أو “الزيت المذيب”، وهو كبريتات النحاس في الكيمياء الحديثة. سخن جابر بشدة الكبريتات وبها ماء تبلور، فأعطت غاز ثاني أكسيد الكبريت وغاز ثالث أكسيد الكبريت اللذين تفاعلا مع بخار الماء الناتج من حرق الكبريت، فنتج حمض الكبريتيك وفق التفاعلات الكيميائية الحديثة الآتية:

FeSo4 Feo + So3

CuSo4 Cuo + So3

So3 + H2o H2So4

3- حمض الهيدروكلوريك: أجرى جابر تجربة تحضير حمض الهيدروكلوريك بتقطير مركب مخلوط من ملح الطعام وهو كلوريد الصوديوم، والزاج القبرصي وهو كبريتات الحديدوز Fe SO4. وبتسخين هذا المخلوط تفكك حرارة الزاج القبرصي إلى غاز ثاني أكسيد، والكبريت وثالث أكسيد ويذوب هذان الغازان في ماء التبلور الناتج بالحرارة عن الكبريتات، فينتج حمض الكبريتيك الذي يتفاعل مع ملح الطعام، فينتج حمض الهيدروكلوريك. ويعبر بالمعادلات في الكيمياء الحديثة عن هذه التفاعلات الكيميائية التي أجراها جابر بن حيان هكذا:

FeSo4 Feo + So3

So3 + H2o H2So4

H2So4 + 2NaCl Na2So4

والجدير بالذكر أن الغرب لم يعرف حمض الهيدروكلوريك، إلا في منتصف القرن السابع عشر، حيث حضره الألماني جلوبرست 1648 بنفس طريقة تحضير جابر بن حيان، والتي ما زالت قائمة في الكيمياء الحديثة.

 

(*) أكاديمي وباحث / مصر.