الحروف المهاجرة

في آخر الليل، مظروف أنيق كان أمامه على الطاولة حوله أشتات من الأوراق، كُتب على ظهره “إلى أمي الحبيبة”. بجانب المظروف ترقد صورة صغيرة قبـالة وجهه.. جعل ينظر إليها وتنظر إليه.. قلمه المستقر بين أصابعه كان ينتظر منها إشارة ليبدأ الكتابة. لحظات صامتة تمر وهـو ينظر إليها في الصورة وهي تنظر إليه. لَكَم كان يتمنى لو يظفر بها على الحقيقة. الأحاديث كانت تنساب من رأسه لتمتزج بمداد قلمه كلما نظر إليها. أعاد النظر إليها مرة أخرى، ثم أخذ ورقة من أمامه وبدأ يكتب عليها في صمت.

– بالأمس كان خيالي يرسمك عالمًا سماويًّا من الدهشة، ولكني أراك الآن وجودًا تغوص فيه العيون. كان عمري يصير بين يديك طريقًا، واليوم الحيوات جميعها تنهض للسفر إليك.

صورتك أمامي في غاية الوضـوح.. كم أنت جميـلة ورائعة.. الآن فقط تعلمت الكتابة فاعذريني إن كان خطّي رديئًـا. سنين عددًا صبرتها حتى تولد هذه اللحظة لأكتب فيها رسالتي الأولى. أحبك من أعماقي، أحب وجهك الوضّـاء الذي تدلّت عليه خصلات شعركِ الذهبية لتقيهِ سجود الذل الذي عمّ المدائن. لا عليك -حبيبتي- إن شدّوا ضفائرك المجدولات، وجذبوها إليهم في قسوة، وعقدوها أسلاكًا شائكة، تصرخ من الألم فأنا أحبك.. أحب فيك حاجبيك الحزينتين ولا تقلقي، فحتى عروسي الجميلة أحببتها لذات الحاجبين. لا تحزني.. لن أبكي على خديك المتوردين وقد شق فيهما الأسى من الدموع أودية تشهد للزمان المر. لن أتحسّر على أي دمعة تسقط من مقلتيك المغرورقتين، فكل واحدة تسقط، ستشربـها أرضك لتعانـق سماءك يومـًا وهي أزاهر ورياحين. شفتاك المزمومتان اللتان أطبقهما الحـزن والعجـز واليأس لا أنظر إليهما كذلك فأنا أراكِ الآن. أراهمـا شفتين انتهتا حالاً من نطـق كلمة “حُبْ”، ولا أراهمـا إلا مُطْبِقين على قُبْلـة حَـرّى تزمعين إيداعها أبناءك الحيارى.

حينما كتب كلمة “الحيارى”، عانقت نظرته الصورة ثم أخذ ورقة ثانية وبدأ يكتب عليها:

– رُحت أبحث عنك من بلد إلى بلد منذ أن اقتلعوني من بين حضنك الحاني الدفئ. لم أدع مرفأ أو مهبطًا إلا وحللت به أفتش عنك. حتى رأيتك بعدها وأنت -يا أسفي- بوجهك المصوّر على الصحف والشاشات. ها أنذا أحمل صورتك معي أنّـى ذهبت، أحتضنها، أضعها أمامي، أتملّى فيكِ ولا ترتوي نظراتي العطشى فتمتـد يداي لتتلمّـس الدروب، فلا أمسك غير صورة.. أشتاق إليك.. أشتاق إليك حقيقة.. لا تغضبي مني لأني لم أبلّ ظمأكِ بلقياك إلى الآن، فلقد كنت -نعم- أراك في كل مكان، لكني -يعلم الله- لا أعلم لك عنوانًا. وبعد أن وجدته كيف سأكتب إليك وأنا أعزل لا أعرف الكتابة ولا أمسك القلم كما أخبرتك.. لَكَم والله كنت أنتظر هذه اللحظة بشغف، كنت أدأب كي أتعلم الكتابة حتى أصل إليك، كنت أخط على الرمل عندما لا أجد قلمًا وورقـًا حتى حانت هذه اللحظة العلوية وأنا أكتب فيها إليك.

لقد لاحظ وهو يكتب، أن تيار الماضي بكل ألمه وبؤسه وهزيمته كان يغيبه عن الحاضر ويأخذه بعيدًا عن المستقبل.. فأوقف الكتابة وصار ينظر إلى الصورة أمامه، ووجد نفسه يسند ظهره إلى الكرسي ويرفع رأسه إلى السماء، ثم بحركة نشطة يعود ويتناول ورقة ثالثة ويبدأ يكتب عليها:

– رجاءً عزيزتي، بعد أن عرفت العنوان وتعلمت أنا الكتابة، توقعي -بعد رسالتي الأولى إليك- قدوم ابنك البار مع إخوانه في أقرب لحظة. وافرشي الورود -من فضلك- وودّعي العويل، فنحن قادمون ولا بد أن نصل. وتقبلي تحياتي وتحيات أبناءك الأطهار، وانتظري لحظة الحقيقة، عندما أطأ أرضك ظافرًا.

عندما أنهى الكتابة كانت نشوة دافقة بالأمل والتحفّز تسري في جسده، وتمتد لتصل أصابع يديه تجعلـه يغلق المظروف وبداخله الخطاب دون أن يوقّع عليه اسمه..كان متلهّفـًا لصباح الغد حين يجيء ويأخذ خطابه أول ذاهب لفلسطين.

(*) كاتب وأديب سوداني.