التأصيل القرآني للفكر العلمي

كثيرًا ما يُصوّر للإنسان أن الارتقاء في الفكر يقتضي التحرر من الماضي والانسلاخ عن الأصول، متجاهلاً أن الشجرة الطيبة -التي ترقى في السماء فتؤتي أكلها كل حين بإذن ربها- ما تفرعت أغصانها باسقة وأثمرت زهورها يانعة، إلا من جذورها الضاربة أصولها في الأرض، أما الشجرة التي اجتُثّت أصولها من فوق الأرض، فلا يمكن لها أن تورق وتزهر لأنها ليس لها قرار.
كذلك شجرة العلم، فهي ثابتة بجذورها الضاربة في أصول الفكر الإنساني، تلك الجذور التي منها تأصلت الفروع، مشكّلة في تكاملها وانسجامها تلك الرؤية الشمولية الجامعة والمتوازنة بين الحقائق التي أوصلت الإنسان إلى الحقيقة الواحدة التي يحتضنها الكون. فإذا اجتُثت تلك الشجرة من أصلها فإن معارفها لن يصير لها معنى، بل ستُبتر وتبعُد كلَّ البعد عن الكتاب العلمي الجامع للكون، وعن أبعاده اليقينية المطمئنة لنفس الإنسان التي تمكنه من المساهمة الهادفة في البناء الحضاري، من هنا يجب أن تُستجلى الإشارات وتُفهم في مسامع السالكين العبارات. فالله سبحانه وتعالى لمّا خلق آدم عليه السلام ونفخ فيه من روحه، بثّ فيه من العلم ما أصبح فطرة في البشر. فالفكر العلمي هو أصل تكريم الإنسان وميزان الفطرة السليمة الذي به يترقى في مراتب الكمال التي من أجلها خُلق. فهو -كما يؤسِّس له القرآن- ينبني على أسس الواقع والعقل والوحي، وما صرَف فكرَ الإنسان عن هذه البنية الأصلية للعلم، إلا عللٌ طرأت عليه فأبعدته عن الإحاطة العلمية التي هو مطالب بها. فإذا رأيت العالِم تنزّل علمُه التنزيل المتكامل على هذه الأسس الثلاثة فتوافق عنده الواقع والعقل مع الوحي، فاعلم أن ذلك من سلامة فطرته، وإلا فهو في ضعف من الفطرة تُبعده تداعياتها عن الإحاطة العلمية بحقائق الأشياء ومضامينها.
فالله سبحانه وتعالى لمّا حذرنا من عاقبة التكذيب الناتجة عن الجهل وعدم الإحاطة العلمية بحقائق الأشياء في محكم قوله: (حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(النمل:84)، إنما أراد سبحانه أن يستنهض فينا همة الفكر العلمي؛ حيث قال القرطبي -رحمه الله- في تفسير هذه الآية: “أيْ كذبتم جاهلين غير مستدلين، وأضاف أن هذا تقريع وتوبيخ من الله، أيْ ماذا كنتم تعملون حيث لم تبحثوا عن الآيات ولم تتفكروا ما فيها”.
وهذا يدعونا إلى الوقوف مليًّا مع دلالات الآية التي من خلال صيغتها جعلت عدم العلم بالآيات معطوفًا على التكذيب بها، وذلك بواسطة “واو” الحال: (أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا)؛ لنستخلص أن التكذيب بالآيات إنما ينتج عن عدم الإحاطة بها علمًا (أي كذبتم والحال أنكم لم تحيطوا بها علمًا)، ولهذا جاء التقريع منه سبحانه في قوله: (أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) للتأكيد على أن الإنسان إذا لم يكلف نفسه عناء البحث والنظر في حقائق الأشياء من خلال تشغيله الدائم لتلك الملكات التي فُطر عليها من يوم أن سوّاه الله بشرًا، أُورد موارد الجهل فأُدخل مداخل الباطل، لأن هذا الكون -بكل مكوناته الظاهرة والباطنة التي يعيشها الإنسان بحواسه ومداركه- إنما هو آيات ناطقة بعظمة مبدعها، وبصائر تستنهض في الإنسان الفكر العلمي لتعصمه من الجهل حتى لا يقع في التكذيب. وعليه فالله سبحانه وتعالى بدعوته لنا إلى النظر والبحث في هذا الكون، إنما أراد بنا اليقين عن طريق الاستقامة العلمية الموروثة عن الفطرة الآدمية، تلك الفطرة التي كانت -وما تزال- تدفع بالإنسان إلى قراءة الكون من خلال الإحاطة العلمية بالدوائر المعرفية الثلاث: دائرة المحسوسات التي تشمل الواقع الذي هو عالَم الشهادة ومفتاحه الحواس، ودائرة المعقولات التي تشمل المغيب عن الحواس الذي لا يدرك إلا بقوة الفكر وهو عالم الغيب النسبي ومفتاحه العقل، ودائرة الإخباريات التي تشمل المغيب عن الحواس وعن العقل الذي أخبر به الوحي وهو عالم الغيب المطلق ومفتاحه النقل.
فقد جاء في كتاب الله عز وجل الكثير مما يفيد هذا التصنيف، وفي قوله تعالى: (قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ((العنكبوت:20) النموذج الأمثل لهذا النهج؛ فالآية دعت من خلال السياق الذي جاءت به صيغتها، إلى الترقي في هذه الدوائر المعرفية الثلاث، بحيث أشار الشطر الأول منها في قوله تعالى: (قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ) إلى دائرة المحسوسات بحكم أن الأرض تمثل واقع الإنسان المحسوس، والسير فيها يمكن حواسه من الإدراك المباشر لطبيعتها. أما الشطر الثاني منها فقد أشار في قوله تعالى: (فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ) إلى دائرة المعقولات بحكم دعوته الإنسان إلى النظر، أي البحث والتفكير في أسرار بدء الخلق التي غبرت ولم يعد له عليها رؤية إلا من خلال الآثار ثم في آفاق النشأة الآخرة التي لم تحدث بعد وليس له عليها دليل إلا من خلال الاستشعار. وبين هذه وتلك، هناك عامل الزمن الذي بفعله تتغير الأشياء وتتسلسل الأطوار، فحتى يمكن للإنسان أن يطلع على هذا العالم الغابر بين بدء الخلق ونشأته الآخرة، كان لا بد له من الاعتماد على العقل الذي -كما أشارت إليه الآية- يُختزل بين عبارتي “انظروا” و”كيف”. أما الشطر الثالث من الآية المتجلي في قوله تعالى: (إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فقد أشار إلى دائرة الإخباريات، لأن محتواه من الغيب المطلق، أي الحقيقة التي ليس بعدها إلا الضلال، والتي إليها ينبغي أن تؤول نتائج الشطر الأول والثاني حتى تتحقق الإحاطة العلمية التي من أجلها جاءت الآية مستنهضة الفكر في الإنسان.
وبقدر ما تتنامى هذه الدوائر الثلاث في فكر الإنسان بقدر ما يترقى في درجات الكمال العلمي، وبقدر ما تتعاظم مجالاتها في وجدانه بقدر ما ينال من العلم النوراني. حتى إذا تداخلت نطُقها وتمازجت معالمها، شكلت بينها فضاء متجانسًا للعلم تتكامل فيه عوالم الواقع والعقل والوحي في قراءة تفكرية للكون هدفها بناء فكر علمي وعاؤه الإنسان الكامل.
فإذا انطلقت معرفة الإنسان بالكون من خلال الجمع بين هذه العوالم الثلاثة، تكاملت في وجدانه عناصر الواقع والعقل والوحي فكان من الموقنين، وإلا وقع في سوء الفهم المفضي إلى ظلام الوهم، لأنه بخوضه في عالم واحد أو عالمين من هذه العوالم الثلاثة وتركه للغير، يكون قد وقع في الإفراط أو التفريط وذلك عين التطرف. فأصحاب العقول المجردة أحاطوا بدائرتي الواقع والعقل إحاطة مكنتهم من تصنيف كل المصنفات والكشف عن كل المكنونات، لكنهم لعدم اهتمامهم بدائرة الوحي، حُرموا من لذة الإدراك الحقيقي لمعنى الوجود، فعزلتهم محدودية معارفهم عن المقومات الراقية للطبيعة، وألزمتهم التقيّد بمحدودية منافعها المادية. كما أن أصحاب النقول ممن أحاطوا بدائرة الإخباريات ولزموا الجهالة فيما سواها من المعارف، وقعوا في سوء الفهم لنصوص الوحي، فحرموا من لذة الاستيعاب المقاصدي لعمق الآيات ولأبعاد ومضامين الأمثال التي تضربها.
ومن هنا يجب أن نوقن بأن العلم لا يرقى إلى مستوى الإشراق الفكري، إلا إذا نُزّلت دوائره المعرفية الثلاث تنزيلاً متوازيًا على الزوايا الثلاث لمثلث متساوي الأضلع. أما إذا تم التنزيل على زاوية واحدة أو زاويتين من هذا المثلث، فسيختل توازنه ويميل إلى ذلك الطرف وذاك مفهوم التطرف.
وبما أن إدراك الإنسان يتوسع بتوسع معارفه، فالغاية أن تتمدد تلك الدوائر لتلتقي في مركز المثلث. هناك في نقطة التقاطع بين الدوائر تبدأ الإحاطة العلمية المطلوبة، ثم كلما توسعت الدوائر المعرفية كلما اتسع مجال التداخل بينها وتفاعلت مكوناتها بتجانس عناصرها؛ بحيث يصير المغيب واقعًا، والواقع معقولاً، والمعقول مثبتًا للغيب في يقين الإنسان.
ففي العالم المحسوس الذي مجاله الواقع وأدواته الحواس، تكون الأشياء موجودة بذاتها فتدرك بالمعاينة المباشرة وذلك عين اليقين. أما في العالم المعقول الذي مجاله الغيب النسبي وأداته العقل، تكون الأشياء غائبة بذاتها موجودة بآثارها فلا تدرك إلا بقوة العقل وذلك علم اليقين. وأما في عالم الإخباريات الذي مجاله الغيب المطلق وأداته النقل، فتغيب الأشياء بذاتها وآثارها ولا يمكن إدراك حقيقتها لا بالحواس ولا بالعقل، وإنما بالنقل لما جاء به إخبار الوحي وذلك حق اليقين.
وهذا يدلنا من خلال بناء العالم الذي يبدي -كما رأينا- جزءًا منه واقعًا محسوسًا، وجزءًا ثانيًا مغيبًا عن الحواس مدركًا بالعقل، وجزءًا ثالثًا مغيبًا عن الحواس والعقل لا يدرك إلا من أخبار الوحي على أن الإحاطة العلمية لا تتأتى إلا من خلال توحّد هذه الدوائر الثلاث في فضاء التداخل بينها؛ لأن في ذلك الفضاء ستتجانس خصائص كل دائرة مع خصائص الدائرة الأخرى، مما سيفسح المجال أمام حرية تلاقح المعلومات، فتتزاوج عوالم الواقع والعقل والوحي، وتضمن للإنسان التفتح على مقومات الكمال التي من أجلها خُلق.
أما إذا تقلصت هذه الدوائر المعرفية ولم تنمُ وتتداخل مجالاتها، فسيجد الإنسان معلوماته بعيدة عن التناسق، وسيؤدي به عدم الانسجام بين مكوناتها إلى البعد عن الكمال. كما أنه إذا اقتصرت معرفته على دائرة واحدة أو دائرتين، فسينعزل هنالك وينقطع عن كل ما سيأتيه من الأخرى؛ فإذا انحصر في دائرة الواقع -مثلاً- ولم يطّلع على الدائرتين الأخريين، وقع في تعظيم الماديات وربما تأليهها كما حصل لأقوام عظّمت أشكالاً من الظواهر الكونية والطبيعية إلى حد التأليه. كما أن الإنسان إذا بقي منحصرًا في دائرة العقل، فسيتيه في متاهات الأفكار المهلكة والفلسفات المشككة فينحرف عن الفطرة السليمة. وكذلك إذا انزوى في دائرة النقل وانعزل عن الواقع والعقل اللذين تمكنه متغيراتهما من فقه مقاصد النقل، فسيقع في الجمود بدل الاجتهاد، والتقليد بدل التجديد.
فكل دائرة يجب أن تكون صلة وصل، أو واسطة بين الدائرتين الأخريين، فإذا أراد الإنسان أن يترقى في درجات الكمال العلمي، تدرج في سلم المعرفة من المحسوس إلى المعقول إلى المنقول، فكان ذلك عروجًا على النمط الإبراهيمي الذي صوّر لنا نموذجًا رائعًا في الترقي الفكري من عين اليقين المتجلي في ملكوت السماوات والأرض الذي هو الواقع الذي قال فيه ربنا عز جل (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ)(الأنعام75)، إلى علم اليقين المتجلي في الاستقراء التجريبي المبني على العقل، وذلك من خلال ملاحظة الكون ووضع الفرضيات حول ماهيته، ثم إخضاعها للتجربة كما نستشفه من قوله تعالى: (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لاَ أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ)(الأنعام76-78)، إلى حق اليقين المتجلي في الحقيقة المطلقة التي ليست بعدها حقيقة، وهي التي قال فيها عليه السلام في آخر هذا المشهد كما حكى عنه ربه تعالى: (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)(الأنعام79).
وهكذا يكون الخطاب القرآني من خلال دفعه بالإنسان إلى النظر والتفكر في ملكوت الله، إنما يريد إعادة بناء الفكر الإنساني على أصوله العلمية الثابتة، تلك الأصول التي فطر الله عليها الإنسان منذ أن خلق آدم عليه السلام وعلّمه الأسماء كلها، والتي ما فتئت الرسالات السماوية تذكّر بها عند كل محطة من محطات النبوة.
(*) كلية العلوم، جامعة ابن طفيل / المغرب.