اختبار القيم

كل واحد منا تعترضه في الحياة تحديات شتى، وعقبات مختلفة تصعد في سلم الصعوبة حتى تبلغ منتهاها، وتتردد في سُلَّمه إلى أن تنزل إلى أسفل درجاتها، لكن يبقى أشد اختبار يتعرض له الإنسان اختبار قيمه؛ أن يحترم قِيَمَه التي تحكمه عندما تتعارض مع مصالحه، وأن لا يخالفها ولو كلفه ذلك الضياع والخسران الظاهري، وأن لا يتمرد عليها رغم كثرة الإغراءات، وسلطة الشهوات، وجاذبية المذاهب والتيارات.
لكل واحد منا رؤية خاصة به عن الكون والحياة والمصير، وعلى مقياس تلك الرؤية يفسر سائر الأمور التي تعترضه، غير أن منا من استطاع أن يعبر عن تلك الرؤية، ومنا من عجز عن ذلك، والعجز لا يعني أبدًا أنه تائه بين الرؤى ولا رؤية له، بل هي مواهب تفرقت، فمنهم من يعبر عنها بالكتابة، ومنهم من يعبر عنها بالرسم، وهلمّ جرًّا.
التحدي الأصعب هو أن تنسجم دائمًا في تصرفاتك وأفعالك وتعاملاتك، مع قيمك التي تحكمك وتوجهك.. لا تقل “نعم” في الوقت الذي يجب أن تقول “لا” لقضاء مصالح فانية، وأن لا تقول “لا” في الوقت التي تفرض عليك قيمك أن تقول “نعم” رغم أن ذلك قد لا ينسجم مع مصالحك، أو تُفقدك حظوة معينة، أو تعرضك للإقصاء والتجاهل والإهمال.
لقد نجح في هذا الاختبار كثيرون، فها هو الفيلسوف اليوناني العظيم “سقراط” الذي كان يخاطب شباب أثينا بقيم جديدة، بقي ثابتًا عليها وهو يتعرض للعقاب ظلمًا وعدوانًا، اتّهم “بامتناعه عن عبادة آلهة المدينة، وباختلاق بدع دينية، وبإفساد شباب أثينا -وتبعًا لخطورة اتهاماتهم طالبوا بإعدامه” كما يقول آلان دو بوتون.

عش أنت ومت وأنت كذلك، بقيمك بمبادئك بِمَواقفك بعفويتك.. ولا تكترث لمن يلومك أو يتهمك بأشياء لا قِبل لك بها، ودع الأيام تُبدع في تبيان مَن الصادق ومَن الكاذب.

تصرف سقراط ببسالة أسطورية، وبرغم إتاحة فرصة له للتبرؤ من فلسفته في المحكمة، اختار الوقوف مع ما كان يعلم أنه صحيح لا مع ما كان يعلم أنه سيكون سائدًا. وبحسب توصيف أفلاطون، كان قد خاطب المحكمة بجرأة: “طالما أنني أتنفس وأملك القوة، لن أتوقف عن ممارسة الفلسفة وإسداء النصح لكم، وتوضيح الحقيقة لكل من أصادفه.. وبذلك أيها السادة.. سواء برَّأتموني أم لا، أنتم مدركون أنني لن أغيّر سلوكي حتى لو مت مئة مرة”.
انسجم مع قيمه التي عاش عليها، ومع المبادئ التي دعا إليها طيلة حياته وعرّض نفسه للموت، رغم أنه كان من الممكن أن ينجو بنفسه بمساعدة أصدقائه، إما بدفع رشوة وإما بمساعدته على الهرب، أو التراجع عن ما كان يؤمن به.
إن سقراط هنا كما يقول عزت قرني: “يمثل رجل المبدأ والشرف، رجل الاتساق مع النفس فكرًا ماضيًا، وهو اتساق يصل به إلى حد التضحية. وأرجع سبب عدم قبول عرض أصدقائه أنه لا يجب رد الظلم بالظلم.. وهو ملتزم أيضًا بقوانين المدينة، وعليه أن يطيعها حتى النهاية”.
وجد نفسه في النهاية بين خيارين أحلاهما مر؛ أن ينسجم مع نفسه إرضاء لقيمه ومبادئه التي ترعرع فيها ودعا إليها ودافع عنها، ثم يعرض نفسه للموت بالإعدام شاربًا للسم، أو يحدث شرخًا بين قيمه ومبادئه وما يؤمن به وينجو بنفسه.. إنه ليس كأي إنسان بسهولة ينزع عنه لباس القيم والقناعات المرتكزة في وجدانه، ويرتدي ثوب المصلحة وينجو بنفسه، لقد نجح في الاختبار وخُلّد سقراط في دنيا الناس.
وعلى هذا الدرب -يعني انسجام الإنسان مع قيمه رغم التحديات والعقوبات- نجد الصحابي الجليل بلال بن رباح رضي الله عنه، ثبت وهو يتعرض لأقسى أنواع العذاب، لقد كان عبدًا لأمية بن خلف، ولما علم بإسلامه قام بإهانته وتعذيبه.. ذكر أبو نُعيم في الحِلْية عن ابن إسحاق: كان أمية يُخرجه إذا حميت الظهيرة فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول له: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد، وتعبد اللات والعزّى، فيقول وهو في ذلك البلاء: أَحَد أحد”.
إنها مجرد كلمات قصيرة بسيطة، ينطقها فينجو بنفسه من العذاب الذي يتعرض له، “كفرت بمحمد وآمنت باللات والعُزَّى”، ولو نطق بها فإنه وإن نجى من العقاب البدني، سيتعرض لعقاب قيمي ينبعث من روحه ومن وجدانه ومن ضميره.. طغى صوت القيم الروحية على ما هو مادي، حتى إنه يعلن ثباته على قيمه “أحد أحد”، لا اللات والعزى، ولا غيرها.

يبقى أشد اختبار يتعرض له الإنسان اختبار قيمه؛ أن يحترم قِيَمَه التي تحكمه عندما تتعارض مع مصالحه، وأن لا يخالفها ولو كلفه ذلك الضياع والخسران الظاهري.

صمت صوت الغريزة ونطق صوت الروح، كما يقول مالك بن نبي، فبلال “حينما كان تحت سوط العذاب يرفع سبابته ولا يفتر عن تكرار قوله “أحد أحد”، إذ من الواضح أن هذه القولة لا تمثل صيحة الغريزة. فصوت الغريزة قد صمت، ولكنه لا يمكن أن يكون قد ألغي بواسطة التعذيب.. إنها صيحة الروح التي تحررت من أسر الغرائز بعدما تمت سيطرة العقيدة عليها نهائيًّا في ذاتية بلال بن رباح رضىي الله عنه.
عندما تستحكم القيم في الوجدان، يقوى الإنسان على تحمل كل عذاب، وكل عقاب يهون.. إن الألم يكاد يزهق روح بلال رضي الله عنه لكنه يعلن صراحة “أحد أحد” حتى ينسجم باطنه مع ظاهره، إنه لم ينطق بما يهدم قيمه التي تغذيها عقيدته من باب (إلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ)(النحل:106)، إنها تمنعه من ذلك، ونجح في امتحان قيمه حتى بلغ الجنة. جاء في مسند الإمام أحمد عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “دخلت الجنة فسمعت فيها خشفة بين يدي فقلت: ما هذا؟” قال: بلال”.
عش أنت ومت وأنت كذلك، بقيمك بمبادئك بِمَواقفك بعفويتك.. ولا تكترث لمن يلومك أو يتهمك بأشياء لا قِبل لك بها، ودع الأيام تُبدع في تبيان مَن الصادق ومَن الكاذب، فقد قررها التنزيل كقاعدة: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ)(الرعد:17).
لا تكن نسخة مشوهة من الآخرين، كن استثنائيًّا، “كُن أنت ولا تكُن غيرك”، إن نجحت في هذا التحدي فقد فزت الفوز العظيم، وإن خسرت هذا الرهان، فقد خسرت الخسران المبين وإن بدا لك في الظاهر أنك فائز.