نظرة إجمالية إلى الإسلام-1

الإسلام مشتق من مادة السلم والسلام، ومعناه استسلام العبد لله تعالى، وانقياده لأوامره، وانخراطه في السير في طريق سليم وسديد نحوَ السلامة، وبثُّ الأمان في الناس وفي كل شيء، كما يعني سلامة الآخرين من لسانه ويده.
أساس الإسلام ومبدؤه هو الإيمان والإذعان، ومنتهاه الإحسان والإخلاص. وحقيقةُ الإسلام بإيجازٍ، هي أن يصدِّق المرء بحقيقة الألوهية تصديقًا لا يحتمل الضد مطلقًا، ويوثقَ رابطة قلبه بالحق تعالى، ويؤديَ التكاليف أداءً دقيقًا ورقيقًا وكأنه يرى اللٰه تعالى أو يراه الله تعالى، وأن يسعى في بلوغ رضا الله في كل عمل يعمله.
وقد عرّف بعضهم الإسلام تلخيصًا بأنه: “التسليم لله سبحانه وتعالى وإظهار الانقياد والولاء له بالشكر قولاً وفعلاً وحالاً، والمكوث في الرغب والرهب الدائم”. فالذي على هذا الحال، يسمى مؤمنًا أو مسلمًا -وليس إسلاميًّا (Islamist-İslamcı)(1)- ويعتبر مرشَّحا لنيل السعادة الأبدية.

الإسلام مشتق من مادة السلم والسلام، ومعناه استسلام العبد لله تعالى، وانقياده لأوامره، وانخراطه في السير في طريق سليم وسديد نحوَ السلامة، وبثُّ الأمان في الناس وفي كل شيء

إن الإسلام الذي يستند إلى الوحي الإلهي، وبلَّغه الرسول صلى الله عليه وسلم وتَمثَّله وأحياه وطبَّقه.. دين سماوي. والمؤمن والمسلم هو من يجعل الإيمان بهذا الدين، إحياءً لحياته. ففي أساس الإسلام وباطنِه الإيمانُ والإذعان والتسليم، وفي ظاهره الطاعةُ والانقياد والعمل الصالح. وعرَّف السلف الدين بأنه: “وضع إلهي سائق لذوي العقول باختيارهم المحمود إلى الخير بالذات”. وإنما يمكن الحصول على الثمار الدنيوية والأخروية لمنظومةٍ حركيةٍ فعَّالة كهذه بقدر جعلها عنصرًا لإحياء الحياة، وبمقدار تمثّلها في الواقع. وإلا فيتعسر الحديث عن محاسنها إذا أقصيت إلى خارج الحياة.
ومع الانتباه للتمييز اللغوي بين الإسلام والإيمان، فالرأي الأرجح المقبول، هو أنْ لا إسلام بدون إيمان، ولا إيمان بدون إسلام؛ الإيمان باطن، والإسلام هو الظاهر بانعكاسه على القول والفعل والحال. والنظام الإلهي الذي نسميه “الدين الحق” هو الأمر الجامع لذلك كله. فالدين هو عنوان إلهي يعني أنْ يكون الإيمان والإسلام بجميع شُعَبهما وكلياتهما حياة للحياة. وإن القبول بهذا النظام على هذا الوجه وتطبيقَه في واقع الحياة، هو التصرف المؤمن، والذي يمثله بهذه الحال هو “المتديّن” التقي وليس “الديني”.(2) فبناءً على هذا، الذين يظنون أن الدين مجردُ “اعتقادٍ”، وكذلك “المسلمون بالثقافة” الذين لم يتقبلوه قبولاً خالصًا في صميم قلوبهم، كلاهما مخدوع. وجليّ أن كلتا الزمرتين محرومة، وستحرم، من حسن ثواب الدنيا والآخرة التي وعد الله سبحانه وتعالى به أهل الدين والتدين.

الإيمان والعمل

لكن لا يصح احتساب العمل جزءًا من الإيمان استنادًا إلى ما ذكرناه آنفا؛ فمن اعتقد بأن العمل فرض ثم تَرَك إقامتَه وإجراءَه على وجهه فمع أنه يكون آثمًا ومرتكبَ ذنبٍ، لكنه يعتبر مؤمنًا. ولا علاقة لهذا الذي نقوله بأفكار “المرجئة” البتة، ذلك بأن الاستهانة بالذنوب مع الإيمانِ شيء، وتقويمَ المسألة في إطارِ “أن الله إن شاء غفر، وإن شاء عذب” شيء آخر. والإيمانُ -حسب القرآن- أصلٌ لابد منه، وأساسٌ ضروري لا يقوم شيء إلا به، وأما الإسلام فهو الوسيلة الوحيدة لصيرورة الإيمان من أعماق طبع الإنسان.
فالعمل من غير إيمانٍ نفاقٌ، وتركُ العمل رغم وجود الإيمان فسقٌ. ولا يُغفر عن النفاق بتاتا باعتباره كفرًا مخفيًّا ومضمرًا، أما الفسق أو الفجور، فيحتمل فيه المغفرة -في كل وقت- بالتوبة والاستغفار والإنابة إلى الحق تعالى. وبهذا الاعتبار، ينبغي أن نحافظ على حسن الظن بحق تارك العمل الذي لا يزدري به أو لا يستحقره أو لا يستهين به، وأن لا نحكم عليه بالكفر؛ وأما تارك العمل الذي يستحقر المؤمنين لكونهم مسلمين ويُسَفّههم، فللظن به وجه آخر غير الوجه الأول.
ويَجدر أن نذكّر ههنا، بأن محطّ الإيمان ومحل انكشافه هو القلب والوجدان، وبأن الله تعالى يريد -بمقتضى الإسلام- أصلاً مهمًّا آخر مع هذا القبول الوجداني، ألا وهو العمل الصالح والخلُق الحسن. فمِن هذه الوجهة، ينبغي على المؤمن أن يحفظ -في كل وقت- ما صدّق به وآمن، سواء الأمور النظرية أو الشؤون العملية، إلا أن يُكره أو يُضْطر.

إن العقل والإرادة هما الشرط الأول للدين وأهم أركان “التدين” الذي معناه أن يكون الإسلام حياةً للحياة. ويعني هذا، أن من لا عقل ولا إرادة له، ليس محلاً للتكليف بمسؤولية الدين التي تتطلب قابلية التمييز بين الخير والشر.

نعم، كما أنه لابد من تجنّب الشرك وكلِّ شوائب الشرك، لكي نكون مسلمين، ينبغي -كذلك- تعليق القلب بالله بإخلاص، وعبادةُ الله كأننا نراه أو كأنه يرانا، وإجراءُ التصرفات الاجتماعية في إطار “الخلُق الحسن” الذي يأمر به الإسلام… وذلك كله، انعكاس لصور الروح الإسلامية على حياة الإنسان بأبعاد تجلياتها المختلفة. إن هذه الشؤون التي يمكن أن نُرجعها إلى الإيمان والإسلام والإحسان -كما ورد في حديث جبريل المشهور- هي بعينها، سلسلةٌ من اللوازم المرتبطة ببعضها البعض والمتداعيةِ فيما بينها، وأعماقٌ مختلفةٌ لشأنٍ واحدٍ، مع الأخذ بالاعتبار أن الأصل الأساس هو الإيمان، وذلك باعتبار فروق الظاهر والباطن للحقيقة الواحدة. إن الباطن يستدعي الظاهر ويربو به، وإن الظاهر يستند إلى الباطن ويتأسس عليه ويقوم به. وإن العملي هو صوت لروح النظري وجوهرِه.
فما دام أصل المسألة كذلك، فادعاء أن الدين محضُ مسألةٍ وجدانية، استهانةٌ بروح الدين ووقاحةٌ وتجاوُزٌ للحد. والذي يُظهِر قبولَه للدين -والله يتولى السرائر- ثم يقول: “اعتبرْ بما في قلبي”، ثم يتعدى ذلك إلى اعتبار الانشغال بالجوانب العملية للدين تطرفًا، فإنما يُمنّي نفسه بالأوهام الفارغة ويستتر عن المؤمنين بقناع الإيمان. إن تفسير الإيمان والإسلام تفسيرًا يمالئ أهواء الناس وغرائزهم، يخرجه عن دائرة الدين السماوي، ويجعله نظامًا بشريًّا؛ والأصل أن الإسلام وضْعٌ إلهيّ إلى البشر لإنقاذهم من الأهواء والغرائز وربطهِم بالحق وهداية الحق تعالى. أو بتعبير آخر، هو مجموع السنن الإلهية المنـزلة لإخراج البشر من سجن الحيوانية وضِيق الجسمانية، وتجهيزِهم للانطلاق والسياحة في الإقليم الرحيب الفسيح للقلب والروح. وإن روح هذا النظام الذي لا نظير له هو الإيمان، وجسدَه هو الإسلام، وشعورَه هو الإحسان، وعنوانَه المعظم هو الدين.
الدين -وكما قلنا في البداية- يخاطب العقلاء وأصحاب الشعور، ويوجههم بإرادتهم واختيارهم إلى الخير الدنيوي والأخروي، ويَعِدُ المستجيبين له، بالسعادة الأبدية. إن موقع المكلفين حيال الدين ليس الانسحاق تحت مسؤولياتهم إزاءه، بل -انطلاقًا من حقيقةِ “الخالقُ أعلم بخلقه”- تعليق الصلاح والحَسَن والخير والسعادة الأبدية بإرادتهم -في مستوى الشرط العادي- في علم الله وبإرادته وتقديره، تكريمٌ وتلطيفٌ من المشيئة الكلية إلى الاختيار الجزئي الموهوب لهم قديمًا. والدين بهذا الوجه من حيث أداؤه المعبِّر عن الألوهية وتفسيرُه المعبر عن العبودية، يختلف اختلافًا بيّنًا عن التنظيمات المتشكلة في صورة أديان؛ فأولا وقبل كل شيء، المخاطَبون في هذا الدين هم أصحاب العقول والإرادةِ، الذين يسْعَوْن إلى تطبيق هذا النظام الذي وضعه الله تعالى، ويَجِدُّون في تمثله. وبهذا الاعتبار يمكن تفسير الدين من وجهة أخرى بأنه: لطفٌ وتوجهٌ خاص إلى جاهزيةٍ خاصة. فإن عديم العقل والإرادة، ليس مكلفًا بالدين، وليس محلا للتوجيه إلى الخير.

الدين والعقل

نعم، إن العقل والإرادة هما الشرط الأول للدين وأهم أركان “التدين” الذي معناه أن يكون الإسلام حياةً للحياة. ويعني هذا، أن من لا عقل ولا إرادة له، ليس محلاً للتكليف بمسؤولية الدين التي تتطلب قابلية التمييز بين الخير والشر. فهو في حِلٍّ من الدين الذي هو مجموعة القوانين الإلهية، التي تَشترط العقلَ والاختيارَ أولاً، ومن التدين الذي هو مِن خَلقِ الله تعالى وكسبِ البشر.
وإن هذا الدين -باعتباره وضعًا وتكليفًا من العليم بخلقه- يرشد ويقود إلى الخير أبدًا، ويُجيش القلوب بوعدِ حُسن العاقبة، ويدعو إلى التحوط والحذر بوعيدِ سوء العاقبة. وأوامره ووصاياه في هذا الصدد، باقية وثابتة لا تَخلَق جدَّتها. فإن هذه الأوامر والوصايا، ذات أداء أزلي وهندام أبدي… تَخْلَق الأنظمةُ كلها وتَبلَى، وتبقى هي جديدةً وندية ومغبوطة، إلا في عينِ مَن مَنعتْه الأحكامُ المسبقة من النظر السليم. فما من وسيلة أو طريق للخير والسعادة من نتاج عقل البشر، إلا ويُحكم عليها بالزوال أو القِدم.. ويَعرض عليها التبدل من مجتمع إلى آخر، وتتـرهل وتخرق بمرور الزمان، وتستهلك وتتهرأ بالغلط والتصحيح المستمرَّيْن… فهي لا تتعدى أن تكون “نُظَيْماتٍ” تُـمَـنِّي بخيرات نسبية وإضافية في مستوى معين، بل تبدو وكأنها تُمَنّي بالخيرات بالنظر إلى ظاهر أمرها، لكنها لم تحقِّق قط ما تصبو إليه البشرية في الماضي، ولن تحقق أمانيها البتة في المستقبل.
أما الدين الحق، فقد جاء برسالات البُشرَى التي تستجيب لكل مطالب الإنسان المخلوق للأبدية، والمرشحِ لها، والمتقلبِ دائمًا في آمال السعادة الأبدية. وإذ جاء بها لم يكلِّف الإنسانَ بتكليفٍ يخالف ماهيته وذاته، ولم يُهمِلْ رغبةً مِن رغباته ولا مطلبًا من مطالبه؛ فالعقول السليمة والأفكار المستقيمة تُقِرُّ أنْ لا إغفال ولا إحجام في هذا الدين عن رغبات الإنسان ومطالبه وأمانيه، ولا تَناقُض في أوامره التكوينية أو في تفسيرها. وفوق ذلك كله؛ إنه منظومة ممتازة، مفصلة حسب ماهية الإنسان وقابلياته وآماله وميوله، يَعِده ويرجيه بالسعادة الأخروية ورضى الحق تعالى وإمكان رؤية الله سبحانه.

الدين والطمأنينة

وما دام امرؤ يعيش حياته وفاقًا لدين الإسلام، فإنه يستفيد من النعم المشروعة كافة في هذه الدنيا، وكذا يقضي عمره في نشوة السير في الدروب الموفية إلى الجنة بملاحظة الاطمئنان إلى حظوته بمزيد من ألطاف الحق تعالى حينما يحين الأوان، مع نوال الثواب وحسن الجزاء في الأخرى بقدر يتعدى الخيال والتصور. هذا، وإذا وسعه أن يعيش حياته بالارتباط الدائم مع رضا الحق تعالى -وهو الأساس في التدين- فلعلنا لا نكون مبالِغين إذا قلنا إنه يباري الملائكة. وبالمقابل، يقف المتنكر للدين الحق، والمنقادُ “لعقل المَعاش”، والمنتسبُ إلى تنظيمات مختلفة متشكلة في صورة أديان، والمُناصرُ للنُّظُم البشرية أو الدنيوية (اللادينية)… عاجز عن تبيان ما يُطَمْئِن الإنسانَ أو يُقنعه بشأن حاضره وقابله، وسوف يعجز لا محالة! لأن هذا الدين هو نظام الله في الأرض. والله هو الخالق، والخالق هو الأعلم بكل شيء. ولا جرم أن كل فكر ومنهج ونظام بشريٍّ لِما أنه نتاج الإدراك المنحصر، من الممكن أن يعتلّ في أغلب الأحوال بعلات الأغراض والمنافع الشخصية أو العائلية أو القومية. ولذلك هي مُنْبَتَّةٌ لا تُوصِل إلى الخير المطلق، ولا يُرتجى منها السعادةُ الأبدية. فالمنظومات والنُّظُم المختلفة المحصورُ أفقُها بالأغراض الشخصية والنعراتِ العرقية والمصالح الطبقية والفئوية، مهما بدت متكاملة، فلن تستجيب لرغبات الإنسان ومتطلباته غير المحصورة. فإن من طبيعة هذه الأمور أن يكون أصحابها ذوي ذهنٍ كدر، وعقلٍ مشوش، ومنطقٍ أعمى، وشعورٍ قصير النظر، ووجدانٍ وبصيرةٍ ملبدةِ الأفق بالدخان والقتام… فهم لا يستطيعون أن يبصروا ما ينبغي أن يُرى، وإن يبصروا يبصروا شتاتًا وشيئًا معوجًّا، فتخرج تفسيراتهم مثقلة بالأغلاط وكليمة بالأخطاء.
الدين الحق نظام فريد لا يُضِل، ووضْعٌ إلهيٌّ فسيح ورحيب يفتح آفاقًا دنيوية وأخروية جديدة. فهذا النظام اللاهوتي “دينٌ” باعتبار أبعاده الاعتقادية، و”شريعةٌ” من وجهته العملية، و”ملّة” بوظائفه الاجتماعية… وهذه المعاني هي المقصودة متى ما نقول: “الملة الإسلامية”. الواقع أن أسلوب إجراء الحركات والفعاليات كلها يتوافق مع جوهر الإيمان، وكيفما كانت الصورة التي عليها الإيمان. والهيئة الاجتماعية تأخذ شكلها حسب تلك التصرفات والسلوكيات والفعاليات. ولذلك يجب على المؤمن الذي آمن إيمانًا سديدًا، وجعلَ هذا الإيمانَ بالعمل الصالح عمقًا من أعماق طبيعته وجِبِلّته، أن يكون عاشقًا للحقيقة، ومنحازًا إلى الحق، وعادلا، ومستقيمًا، وأمينًا، ومثالًا للخلق الحسن، وسالكًا سبيل العلم والمعرفة، ومشدودًا شدًا مُحْكمًا إلى الجاذبية القدسية للدين، ومنشغلا بدافع الارتقاء إلى موقع العنصر الفعال في الموازنات الدولية… فتجده متحفزًا في هذه الأحوال، بل لابد أن يكون كذلك، وأن لا يتأخر طرفة عين حتى يحقق ما يريد.

إن الإسلام الذي يستند إلى الوحي الإلهي، وبلَّغه الرسول صلى الله عليه وسلم وتَمثَّله وأحياه وطبَّقه.. دين سماوي.

موازين الحق

إن المؤمن الذي كَمُل إيمانه وارتقى إيمانه إلى مرتبة الإذعان، وأعمالُه كلها موزونة بموازين الحق، وقلبُه موصول في كل وقت بربه، وتصرفاتُه كلها منطبعة بتلك الصلة الربانية… هذا المؤمن لن يستوقفه هذا وذاك، ولن يدور البتة في فَلَك الآخرين مهما كانوا؛ يقوم ويقعد حاملاً شعور الانتماء إلى أمة شريفة ممسكة بالمركز (أمة الوسط)، ومتميزًا بخصاله في كل حركة من حركاته. إنه يحس بتوقير غائر حيال كل إنسان وكل شيء مخلوق، لأجل الخالق، ويتوقى من الدنايا التي لا تأتلف مع نعمة “الإنسانية”، ويَبرز بين الناس بفائقيةِ دينه وإيمانه وفكره وسلوكياته، وإذ يتصرف كذلك، لا يعتريه قط استعلاءٌ أو كبر، ولا يفكر في إكراهِ غيره على قبول فهمه وفلسفته في الحياة. فهو يتقبل الآخر “كَمَا هُو” بملاحظةِ أن النظام الذي آمن به يَقطع سبيل الإكراه في الدين؛ فيعيش بمحبةِ مسلكه ومشربه بدلاً عن إجبار الآخرين على معتقداته، ويُشهر أفكاره ومعتقداته ويمثلها تمثيلاً سليمًا، ويعتني عناية شديدة بأن يكون أنموذجًا يغبطه الناس، وإذ يقوم بذلك، لا يستجدي إعجابًا ومديحًا من أحد قطّ، بل يَحتسب كلَّ عمل من ضرورات السبيل لكسب رضى الحق تعالى؛ فلا يفكر إلا في مرضاة الحق تعالى في كل قول وعمل وسلوك، ويعرف أن المباهاة والبهارج جراثيمُ تَقتل القلب، ويتمسك بالحق تعالى بإخلاص كامل، ثم يمضي في مسيرته.
فالأصل أن الإسلام جاء لإنقاذ البشر من الإكراه، وتحفيزِهم لاختيارٍ جديدٍ بإرادتهم الحرة مخاطِبًا عقولهم ومنطقهم، وليس لدفع أتباعه إلى الضغط على هذا وذاك للقبول بنظام معتقداتهم أو إكراههم عليه. ففي الأيام التي طُبِّق الدين بلا نقص ولا فتور، فإن جاذبيته المعنوية لم تَدَعْ حاجةً إلى ألاعيبِ المنطق الملتوية، أو القوة الطائشة، أو القهر الصريح أو الخفي، أو الجبر والإكراه؛ فلقد نطقت الحالُ وأبانت، ووضَّح اللسانُ المبهماتِ، فإذا خلا الميدانُ للقول، خوطب الوجدان، وبَشَّر البيانُ وأنذر، متحليًا بالحكمة والموعظة الحسنة، ولم يُضغَط على أحد لا قولا ولا فعلا ناهيك عن الإكراه والجبر، بل كان الإكراه والجبر ممتنعًا، لأن الإسلام لا يَقبل إيمان المكرَه والمقهور، ولأن الأعمال القائمة على الجبر والقوة القاهرة تُناقِض جوهره وروحه. بل لا يَحتسِبُ الدينُ الحقُّ من العبادات عملا ليس في أصله الإخلاص أو رضى الله تعالى. فلا يَرى في إيمان المكره والمقهور إيمانًا، بل نفاقًا، ولا الأعمالَ أعمالًا، بل رياءً بشُعبها كافة. لذلك، لا يجيز الإسلامُ الإكراهَ في الدين، ويمنعه بنص القرآن: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾(البقرة:256)، فيقطع دابرَ القهر لأنه يَعتبر الرياء عينَ النفاق، ويَعتبر النفاقَ كفرًا مستورًا. والحال أن الإسلام جاء ليقتلع جذور الكفر، ويمحوَ الشرك من الشعور والفكر، ويُغلقَ أبواب الرياء والسمعة.
لكنَّ مَنْعَ هذا الإكراهِ والجبر، لا ينفي الإجبار الداخلي للوجدان، أو التأثُّرَ والميل الشبيه بالقهر، المتولدَ في القلب المؤهلِ لمعرفة فضل التوقير وحق الاحترام حيال التعبير عن الحق قولاً وفعلاً. فمن الطبيعي أن يخاطَب وجدانُ البشر جميعًا بالأسلوب القرآني في كل فرصة متاحة، وأن تُحَفّزَ الفطراتُ السليمة، وأن تُخلَّصَ البشريةُ من الشرك وشوائبه بتوجيه القلوبِ الممهدةِ والمستعدة، إلى الله تعالى، ويُهَيَّجَ الإيمان ونورُ الإسلام وشعورُ الإخلاص والإحسانِ في القلوب، بتبليغ الناس جميعًا أنَّ أصفى الهداية وأخلصَها ممثلةٌ في سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن حقيقة الإنسان والأشياء والكائنات قد نودي بها في القرآن، وأن الحُكم والحكمة في قبضة الله تعالى. فَبذلك يُبعث في القلوب نورُ الإيمان والإسلامِ وشعورُ الإحسان والإخلاص، ويُنادَى الجميعُ إلى التوحيد الحقيقي. وهذا من الضرورات اللازمة لإيماننا بالإسلام واستجابتنا لدعوة سيدنا صلى الله عليه وسلم.

حينما تنتبه هذه “الأمة” إلى أنها الأمة المصطفاة من الله، وأنه هو اختار لها اسم “المسلمين”، ستتوجه إلى ربها الكريم، وتستسلم لحكمته، وتسمو في النهاية -لا محالة- إلى حال التعبير عن ذاتها بالصورة التي يريدها الحق تعالى.

رسالة نبيّنا للإنسانية

إن نبينا خاتمُ الأنبياء، ورسالته التي قَدمها للإنسانية أكملُ الرسالات وأتمها، وأهدى الوسائل إلى الله وأضمنها وأوثقُها؛ ولم ترشِد إلا إلى الصواب والهدى. فمتى ما وَجد هذا الدينُ من يمثِّله صدقًا صار ظلاً للحق، يلجأ إليه الناس من كل فئة سراعًا ليتفيأوا في ظله، وأَبطَل سحرَ الأنظمة الشيطانية كلها، ولم يَترك أتباعَه من غير نور حتى في أحلك الأحوال. فإن كان لا يستطيع في الوقت الحاضر أن يعبر عن نفسه تعبيرًا كاملاً، فذلك بعداوة خصومه الألدّاء المستمرة بلا توانٍ منذ عصور، وحقدِهم وبغضهم وتشويههم لصورته ومحاربتهم له من جهة، ولجهل منتسبيه وخذلانهم وغفلتهم من جهة أخرى. ولكن دوام هذا الحال محال؛ فحينما يحين الوقت، فسيَجد الفرصةَ لكي يعبّر عن نفسه كرّة أخرى في مناحي الحياة كافة، ويتكلم بصوته الخاص، ويشعشع في العيون بألوانه ورقوشه الذاتية، ويحسِّس بكنهه في كل مكان بتناغمه وانسجامه السماوي، وذلك بفحوى “الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه” (رواه البيهقي)، وبفضل أوليائه الذين يتولونه بخالص قلوبهم، ويربطون مصيرهم به، فيَجعلون غايةَ خَلْقِهم السيرَ في خطه.
نعم، حينما تنتبه هذه “الأمة” إلى أنها الأمة المصطفاة من الله، وأنه هو اختار لهم اسم “المسلمين” بمنطوقِ ﴿هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ﴾(الحج:78) فستقول: ﴿نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ﴾(الحج:78)، وتتوجه إلى ربها الكريم، وتستسلم لحكمته، وستسمو في النهاية -لا محالة- إلى حال التعبير عن ذاتها بالصورة التي يريدها الحق تعالى.
والصحيح أن إحراز هذا الموقع من الأمور التي يمكن أن تتحقق فعلاً في كل وقت. فإن الإسلام هو الدين الخاتم الكامل الذي اختاره الله تعالى ليشرِّف به الإنسانيةَ. وهو بختمه وبكماله، تفصيلٌ وبسطٌ وأداء للأديان السماوية كلها حسب متطلبات الزمان الأخير. لكن هذا النظام الكامل محروم الآن من تمثيل في مستوى تمثيل الشهود الأوائل، ومبتلىً بسوء الحظِ في أيدي نفرٍ عديمي الوفاء، فهو لذلك محكوم عليه اليوم بالانحباس في الضِّيق وهو رحيب، وبالمنع من الكلام بلهجته الخاصة. وهذا يعني -في الوقت نفسه- تضييقًا وحظرًا على الأديان السماوية كافة… إذ من البديهي أن الإسلام جاء مصدقًا للأنبياء جميعًا ولرسالاتهم كلها، مراعيًا ما بلغه إدراك البشر وفهمُه.. فصار بمثابةِ نداءٍ جامعٍ لأصواتهم وأنفاسهم أجمعين. وإن انقطاع صوت هذا النداء السماوي، وفي عصرٍ جمحت وطغت فيه الأفكارُ والمعتقداتُ الماديةُ والطبيعية، هو انهزام وخسران للأديان الأخرى أيضًا تجاه هذه التيارات العفريتية المتمردة، بل يعني انقراضَها تمامًا. فالإسلام ذودٌ عن الدين الحق وصون له. وكذلك هو – باعتبار أن دعوة الأنبياء جميعًا واحدة- بمثابة نقطةِ استنادٍ للنُّظُم السماوية الأخرى ونقطةِ استمدادٍ لها وشاهدٍ يشهد لها. فإحياء الإسلام مجددًا يُعَدّ إحياءً لها أيضًا في معنى من المعاني، بإصلاح الجوانب اللازم إصلاحُها، وتجديدِ وإعمارِ ما ينبغي إعادة تعميره ولو جزئيًّا، وفتحِ آفاق جديدة أمام أَتْباعها بالضوابط ذات الدور التأسيسي فيها. وإني أظن ذلك كله ممكنًا، وأحسب أن وحدة المصدر مُعِين وسند متين في هذا الأمر.
ــــــــــــــــــ
(*) الترجمة عن التركية: عوني عمر لطفي أوغلو.
الهوامش
(1) أنبه أن مسمى “إسلامي” (Islamist) و”ديني” له وقع أثقل على النفس بالتركية، إذ يقال بالنص “إسْلامْجِي” (İslamcı) و”دينْجِي” (Dinci) بحرفي النسبة الجيم والياء (جي)، وبهما أيضًا يُعرف أصحاب الحرف مثل “كَبابْجي” أو “حَلْوَجي” (صانع الكباب أو الحلوى وبائعهما)، فيكون المعنى أثقل في التركية وكأن المبلغ أو الداعية إلى الإسلام صاحب حرفة يحترف الإسلام ويتاجر به. (المترجم)
(2) الديني: نسبة إلى الدين كما يقال “الإسلامي” نسبة إلى الإسلام. وهذان المصطلحان قد تم استخدامهما من قبل بعض الأوساط المغرضة والمعادية للإسلام -ولا سيما في تركيا- بقصد تشويه سمعة كل مسلم واع يحمل همّ إحياء شعائر دينه وإبلاغها إلى الآخرين.وهذه الأمور تدخل في صراع المصطلحات الثقافية الكثيرة، الحامي على سطح العالم الإسلامي، وفي تركيا خاصة. ومرده إلى قصد التمييز أو الفصل (كل حسب مرامه) بين المسلم وبين المبلّغ أو المرشد أو الداعية. ويراد منه تجريد المبلّغ أو المرشد أو الداعية عن الإسلام في بعض الأوساط، لعزله والاستفراد به. (المترجم)