نحو الارتقاء بمناهجنا التعليمية مشاكل وحلول

إثراءً لعملية التعليم الجامعي في عالمنا الإسلامي، وسعيًا نحو النهوض بواقع الأمة، ينبغي الاهتمامُ بمناهج كليّاتنا العلمية، والحرص على تطويرها، وتحديثها بصورة مستمرة تُواكب التغيرات السريعة، والإضافات الكثيرة التي تَظهر في ساحات العلوم حول العالم.
إلا أن الخطأ كل الخطأ الذي تعاني منه جلُّ جامعاتنا ومعاهدنا العلمية في عالمنا الإسلامي، هو استيراد مناهج علمية وافدة ذات مقررات تعليمية مادية بحتة، واعتمادها بصالحها وطالحها وبما فيها من عِلَل وأسقام، رغم أنها تُغْفِل الجوانبَ الروحية والتربوية، وتَصُبّ اهتمامَها على النواحي المهنية والعملية فحسب، وتربّي طلابها على تقديس المادة، وتمجيد الربح، وتقديم إمتاع الذات على كلّ تقدير.
كما يُقرّ السّوادُ الأعظم لتلك المناهج المستوردة ما يتنافى مع تاريخ أمتنا المسلمة وثقافتها وتراثها، ويؤكد صحة ما يفتريه كثير من المستشرقين حول تاريخنا وعظماء أمتنا، وتتجاهل ما لرسالة الإسلام من إسهامات وجوانب حضارية خالدة، وتَنْسُب كلَّ الاكتشافات إلى علماء الغرب، وتتناسى ما بذله العلماء المسلمون من جهودٍ حَفِظَتْها لهم كتابات التاريخ المنصفة.

تهدف رسالة التربية والتعليم في الإسلام إلى معالجة الكائن البشري وصولاً نحو الكمال الإنساني، وتسعى إلى إيجاد الإنسان الصالح، وترسيخ المعاني الإيمانية في نفسه

وكان مِن مفرَزات ذلك أن ظهرَتْ في البلاد الإسلامية حالة من التناقض والفصل بين ما تستورده هذه البلاد مِن مناهج تعليمية، وما تمليه عليها تعاليم الإسلام من أخلاق وضوابط. وطفا على السطح جيل من الخرّيجين الذين برعوا في تخصّصاتهم العلمية وعلومهم الإنسانية، إلا أنهم افتقدوا إلى أبجديات الأسس الدينية، بل وثار بعضهم على الدين والأخلاق، وقلدوا الأجانبَ في عاداتهم وتقاليدهم، واتبعوا سننهم، وظهرَتْ فوضى تربوية عارمة، صاحَبَها تَناقضٌ في الآراء، واستخفاف بقيم الدين ومُثُله، وغدا ذاك الجيل كلاًّ على الأمة، ونقطة ضَعْفٍ في بنيانها.
ويجب أيضًا أن تكون مسألة التعليم في دولنا الإسلامية مسألة مستقلة بذاتها، لأن الأمة الإسلامية أمة خاصة في طبيعتها ووَضْعها، وذات مبدأ وعقيدة ورسالة ودعوة، فيجب أن يكون تعليمها خاضعًا لذلك، وأن يكون أداة لإنشاء الأجيال التي تؤمن بهذا المبدأ، وتدين بهذه العقيدة، وتحمل هذه الرسالة. وإن كل تعليم لا يؤدي هذا الواجب، أو يغدر بذمته ويخون في أمانته، ليس هو التعليم الأمثل وليس هو البناء والتعمير، بل هو الهدم والتخريب، وأَوْلى للبلاد الإسلامية أن تتجرد منه، وتُحْرَم من ثمراته المادية الفاسدة، والأمية خير لها مِن هذا التعليم الذي يخالف طبيعتها وعقيدتها وروحها.

هدف رسالة التربية والتعليم

وتهدف رسالة التربية والتعليم في الإسلام إلى معالجة الكائن البشري وصولاً نحو الكمال الإنساني، وتسعى إلى إيجاد الإنسان الصالح، وترسيخ المعاني الإيمانية في نفسه، وتربيته على الفضائل السلوكية، وتُوَجّهه نحو الخير والفلاح وفق نهج متكامل قويم يُعنى بتربية شاملة، تحرّر العقل، وتطهّر الوجدان، وتوازن بين ضرورات الجسم ومتطلبات الروح، وتزوّد حوافزَ الخير وتنمّي بواعث الإيمان.
كما تحرص تلك الرسالة الفاضلة على إظهار شخصية الأمة الحضارية وإنجازاتها وإسهاماتها في بناء الإنسانية، وتتسم بالواقعية والمرونة، والتوافق مع الفطرة الإنسانية، والقدرة على تلبية متطلبات العصر بعيدًا عن الجمود والركود.
إذن فعلى علمائنا وواضعي مناهجنا التعليمية، أن يدركوا أن مناهج التعليم المستوردة ما هي إلا عصارة فكرٍ بشري، وتجارب واجتهادات، وقد يخطئ أصحابها أو يصيبون، وقد يمشون أو يتعثّرون.. وأن التعليم ليس ببضاعة تُستورد أو تُصدَّر بين بلد وبلد. وليس إذن مِن الحكمة أن تُنقَل مناهجُ العلم الغربية بما تحتويه من عثرات وأخطاء، بل بعد أن تُهذّب وتُقوّم وتُصفّى مما يشوبها، وتُصبَغ صبغة إيمانية تُهذِّب النفوس، وتُعامَل على أنها مواد خام تأخذ منها الأمة حاجتَها، وما يفيد أبناءها وينفعهم، وتُعاد صياغتها وفق ما يلائم تراثنا العريق ومبادئنا، لعلها تثير الاعتزازَ في نفوس ناشئتنا بالمشروع الحضاري للإسلام، وبإمكان قيام حضارة إسلامية على غير النهج الغربي المستورد.

الحاجة إلى نظام جديد

العالم الإسلامي اليوم في حاجة ملحّة إلى نظام تعليم إسلامي في الروح والمضمون والسّبْك. ووَضْعُ منهج تعليمي سامٍ كهذا، ينبغي أن يكون من حاجات البلاد الأولى التي لا يَحتمل التغافل عنها، وهو عمل -لا شك- شاق، ويجب أن تقوم بشأنه لجان ومجامع علمية بمساعدة الحكومات وتشجيعها، وتُسْنَد مهامه إلى مَن تتوافر فيه المؤهلات والخبرات اللازمة.

يجب أن يكون للعلوم الشرعية حضور واضح ضمن منهج ما يَدْرسه طلابنا من مقررات الكليات العلمية، بغية مساعدتهم على فهم الإسلام فهمًا صحيحًا.

ويجب أن يكون للعلوم الشرعية حضور واضح ضمن منهج ما يَدْرسه طلابنا من مقررات الكليات العلمية، بغية مساعدتهم على فهم الإسلام فهمًا صحيحًا، وغَرْس العقيدة في نفوسهم، وتنمية بواعث الإيمان، وتزويدهم بالقيم الفضلى والمثُل العليا التي تعينهم على القيام بأداء رسالتهم في المجتمع.
ومن محاسن مناهج العلوم الشرعية أنها تكسب الطالبَ الجامعي المسلم -عقب تخرجه- القدْر المطلوب من الثقافة الإسلامية، الذي لا يُعْذَر المسلمُ المتعلم بجهله، كمسائل العقيدة والعبادات والمعاملات، كما تحيطه علمًا بأسس فقه التخصص، وما يتعلّق بمهنته من أحكام فقهية. وقد دأب المسلمون طوال تاريخهم المجيد أن يكون كلُّ ذي صنعة ومهنة منهم ملمًّا بأحكامها الشرعية، وذلك بعد أن استقر في مسَلَّمات عقيدتهم أن الأحكام الشرعية لا بد أن تستغرق الحياة كلها.
وتُعين المناهجُ الشرعية الخريج المسلم قُبَيل دخوله إلى سوق العمل وممارسة ضروب التجارة على الإلمام بفقه أحكام الزكاة، وعلى معرفة نصابها ومصارفها وأوان إخراجها وما يتعلق بها من أحكام شرعية، كما تُيَسِّر له فَهْم فقْه البيوع وأحكام المعاملات النقدية والتجارية. يقول الإمام الغزالي: “لو كان هذا المسلم تاجرًا وقد شاع في البلد معاملة الربا، وجب عليه تعلّم الحذر من الربا، وهذا هو الحق في العلم الذي هو فَرْض عَيْن، ومعناه العلم بكيفية العمل الواجب”.
وتُربّي تلك المناهجُ الإسلامية الجامعيَّ المسلم على إطابة مطعمه، وتحرّي الكسب الحلال، والنأي بالنفس عن الكسب الحرام، واتقاء الشبهات، وتحثه على أن يستفتي قلبه وإن أفتاه الناس، وتلقنه أن الإسلام يُحرّم طائفة من المعاملات الفاسدة كالرشوة، والاحتكار، والبيع في وقت صلاة الجُمُعة، وبَيْع السلع ذات الصلاحية المنتهية أو التي فسدَتْ بسبب سوء تخزينها -وإن تيقن أن ذلك لن يترتب عليه أذى صحيّ- وبَيْع ما لا يملكه، أو ثبت له أنه مسروق، أو مغشوش، أو من مصادر مشبوهة.

مناهج إضافية

ومما يجب إضافته إلى مناهج الكليات العلمية أيضًا، مادة اللغة العربية، ولا يصحّ تجاهل ذلك بحجة أن لغة الدراسة في هذه الكلية هي الإنجليزية -أو غيرها من اللغات الأجنبية- فالعربية هي لغة القرآن، ولسان النبي العدنان عليه الصلاة والسلام.
ومن المقررات الهامة الأخرى التي يجب أن تضاف إلى ذلك المنهج، مادة تاريخ العلوم والحضارات، التي تتناول بالدراسة بعضَ الجوانب المشرقة من سيرة علماء السلف الصالح، وحِرْصهم على العلم والتعلّم، والنهوض بحضارة الإسلام.. كما تتناول هذه المادة تاريخَ المهن العلمية عند المسلمين وإسهاماتهم في الارتقاء بعلومها، مما يدفع الطالبَ إلى الاعتزاز بهويته الإسلامية وتراث أمته وعلمائها من السلف والخلف.
ونتاج ذلك كله، أن يتحلّى الطالب المسلم بعد تخرّجه في الجامعة وبَدْئه ممارسة حياته العملية بطائفة من الأدبيات والأخلاق التي يَصلح بها شأنُ دنياه وأخراه معًا، وهو بذلك يسير على خطى نصوص الكتاب والسنة، ويقتفي أثرَ سلفه الصالح، وهو يَعلم علم اليقين أن بقاء الأمة وازدهار حضارتها واستدامة مَنْعَتها، إنما يُكفَل لها إذا ضُمِنَتْ حياة الأخلاق فيها، فإذا سَقَط الخُلُق هوى البنيان لا ريب.

(*) أخصائي جراحة التجميل المدينة المنورة / المملكة العربية السعودية.