“العمران” هو مصدر من عمر الأرض يعمرها عمارة وعمرانًا. وتطلق على الاسم كما تطلق على المصدر. وإن كنا نأخذه بالمعنى المصدري، فهو قابل لأن يؤخذ بالمعنى الاسمي كذلك. ونحن حين نأخذه بالمعنى الاسمي، فإنه يصدق على ما تحقق نتيجة المعنى المصدري. فكل الإنشاءات المعنوية والحسية التي بها يقوم الإنسان فيعبد بها الله تعالى ويقوم بوظيفة الخلافة… كل ذلك هو العمران.
ولعل النظر إليه هنا مصدرًا هو الأفضل، لأنه أبعد في المعنى من “العمارة”، إذ “الألف” و”النون” في العربية تفيد المبالغة، وهو عمارة جيدة كبيرة، فهي من مصدر عمر الأرض يعمرها، وحين توجد عمارة جيدة ممتازة -لأنها إما واسعة أو غير ذلك- تكون عمرانًا.
لكنها لا تكون كذلك إلا على أساس القرآن… وقد يسأل سائل: هل هذا الذي أنتجه البشر من إنشاءات مادية ومعنوية، ليس عمرانًا؟ أي كل ما يقوم به أناس، لا ينطلقون من القرآن؟ أقول في الجواب: يجوز الزعم -في نظري- أنه ليس بعمران، لأن العمران ضد الخراب. وأول ما قاله الراغب الأصفهاني في المفردات: العمارة نقيض الخراب، فكل ما فيه تدمير للبشرية بشكل من الأشكال -سواء على مستوى الأفكار أو على مستوى الإنشاءات المادية- لا يمكن أن يسمى عمرانًا، وكذلك إذا كان في الظاهر يفيد الإنسان، لكن لم يُقصد به ذلك، وإنما جاء عرضًا لمقصد آخر لا يعتبر عمرانًا، كفعل الكافر إذا لم يكن له إيمان: ﴿وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾(الإسراء:19)، فقد يريد الآخرة ويسعى لها سعيها لكنه ليس مؤمنًا، فلا فائدة حينئذ، قال تعالى: ﴿أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ﴾(إبراهيم:18). فارتباط العمران بالقرآن إذن، ارتباط السبب بالمسبب، بحيث لا يمكن أن يكون عمران في الأرض إلا إذا وُجد القرآن، لأن الذي ينشئ العمران هو القرآن، إذ العمران مرتبط بالوظيفة الأصلية لآدم وبنيه، التي هي الخلافة والتي حددت في شيء اسمه “عبادة الله وحده لا شريك له”، التي تقررها الآية:
﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾(الذاريات:56). إذن لكي ننتج العمران بالمعنى الاسمي، ولكي نقوم بالعمران بالمعنى المصدري، فنحن نحتاج إلى القرآن، ولابد لهذا، من القرآن.
إن الذين عمروا الأرض حقيقة، فإنما بهذا المعنى الذي أتحدث عنه، وإلا فبمعنى الإقامة والوجود في الأرض “عمّروها أكثر مما عمَروها” وهو معنى آخر. فهناك معنيان عند ابن فارس صاحب “المقاييس”، حيث جعل المادة تدور على أصلين: أصل له ارتباط بالصلاح وهو نقيض الخراب ونقيض الفساد وهذا الذي أقصد، وهذا هو الوارد في الآية: ﴿وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾(هود:61). وهناك معنى مرتبط بهذا، هو معنى البقاء في الزمان، والاستمرار والوجود بشكل من الأشكال وهو عمران. فإذن لابد من القرآن لإنشاء العمران.
نحن في زمننا هذا، قد ضعف عمراننا -إن لم نقل قد زال- حيث إن إسهام المسلمين اليوم في عمران الأرض ضعيف جدًّا، وحاجة البشرية جملة إلى من يعمر، بالغة الأهمية.
لماذا نكتشف ما نكتشف، ونسخّر ما نسخّر من طاقات في هذا الكون؟ الغاية أساسية، وهي التي تفرق بين العمل المقبول والعمل المردود، بين العمل النافع والعمل الضار، بين العمل المعمِّر والعمل المدمِّر… تفرق بينهما تفريقًا كاملاً. وكذلك الوسيلة التي يتوصل بها إلى تلك الغاية مهمة أيضًا، هل هي وسيلة مشروعة؟ هل هي مما أذن الله فيه أو أمر به، أم ليست كذلك؟ نجد الآن في مجال الوراثة -على سبيل المثال- كلامًا مهمًّا، لكن ما الطريق إلى اكتشافه، وما الغاية منه؟ هاهنا أيضًا كلام عريض طويل، لذلك فإن الهدف والغاية والوسيلة كل ذلك مهم. ونستطيع القول، إن المنهاج الذي يسلك بوسائل معينة للوصول إلى غاية معينة، أيضًا في غاية الأهمية. هل يراعي الفطرة التي هي الدين، التي هي الخَلق: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ﴾(الروم:30)، ﴿وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ﴾(النساء:119). الخَلق إذن هو الفطرة، الكيفية التي عليها فطرة الله سبحانه وتعالى. والفطرة في العربية؛ اسم هيئة، أيْ الكيفية التي تم عليها الفَطر، وهذه الكيفية هي التي تمثل الخلق كما سواه الله تعالى بجميع جزئياته وكلياته، وتلك التسوية هي حالة الصلاح. ومن غيَّ أفسدَ، ولذلك كان تخصص الشيطان هو أن يغيّر الخلق، فيبتدئ ذلك صغيرًا ثم يكبر حتى إنا لنستطيع القول، بالخرص لا بالدرس. إنه حين يصل تغيير الشيطان في الخلق إلى درجة يختل فيها توازنه العام، يدمر الكون، لأنه إذ ذاك تكاد تكون السيادة للشيطان تامة، ولا تقوم الساعة إلا على لكع ابن لكع. الذي نراه بأم أعيننا، أن هذا التغيير مستمر في الخلق، الهندسة الوراثية، التلوث والاختلالات التي تحدث في طبقة الأزون وغيرهما، الاختلالات العامة في النظام العام… هناك نصوص صريحة بأن الساعة لن تقوم حتى تصير الجزيرة العربية جنات خضراء، وذلك سيكون نتيجة اختلالات معينة تصل إلى درجة جعل الوضع الذي كان قبلُ يصير وضعًا آخر.
إذن، الهدف والوسيلة والمنهاج كل أولئك ضروري ليصح بناء العمران حقًّا بميزان القرآن، لتسعد البشرية وتبتعد عن الشقاء: ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى﴾(طه:123)، وعكس الهدى الضلال، وعكس السعادة الشقاء. ﴿فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى﴾، يعني أن الإنسان يهتدي ويسعد إذا حدثت هذه التحولات التاريخية.
ونظام السير بصفة عامة في الحياة البشرية وفي التاريخ، هو أشبه بالسير المَوجيُّ؛ فيه الصعود والهبوط، لكن هذا الصعود والهبوط معًا يتجه إلى عروج، عندما يكون الهبوط بالغًا، يبتدئ الصعود. ولذلك إذا اشتد الظلام فبشّر الناس بانبلاج الفجر قطعًا، لأنه سيحدث التحول، وذلك محض رحمة من الله سبحانه وتعالى لا نتيجة أعمال صالحة لدى الناس. الله يمن على عباده بما شاء وقت ما شاء، وفعلاً حين منَّ الله علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن، هل كنا فَعَلنا -في الجزيرة العربية أو في الكرة الأرضية- ما به نستحق محمدًا أو نستحق القرآن؟ أبدًا… ومثله قبل ذلك، ومثله في المصلحين بعد ذلك، فإنما هي رحمة من الله سبحانه وتعالى، ونسأله بتلك الرحمة أن ينزل علينا الرحمة لينقذنا مما نحن فيه، ويرفعنا من هذه الوهدة إلى حيث نهتدي ونغدو بفضله تعالى.
هذا القرآن الذي لابد منه لبناء العمران. وفَهْم العمران وقياسه نحن بعيدون جدًّا عنه، ولا ندري كم المسافة التي تفصلنا الآن عنه، ولكن بفضل الله تعالى يمكن أن نقترب بسرعة من هذا القرآن ﴿إِنَّ رَحْمَةَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾(الأعراف:56)؛ ومعنى ذلك أن لو استجمعنا الشروط الضرورية اللازمة، فإنا بسرعة سنقفز، ويمكن أن نصعد صعودًا أسرع من الصاروخ في اتجاه القرآن الكريم، ونكتسب بسرعة تلك الصفات اللازمة للإنسان الذي يفعل بالقرآن، إنشاء العمران.