مقترحات لحل المسألة الكردية

* الخطاب الذي أرسله الأستاذ فتح الله كولن في عام ٢٠٠٨ إلى رئيس الوزراء التركي (آنذاك) رجب طيب أردوغان حول حل المسألة الكردية في تركيا.

دولة رئيس الوزراء

يؤكد كثيرون على أننا من الدول القلائل في الأمم المتحدة وحلف النيتو التي تمتلك قوات لها وزنُها، ولديها فرق عسكرية ذات قدرات واسعة وكفاءة قتالية عالية. وإذا أردنا أن نعبر عن حجم تلك القوة بأسلوب ساخر يمكننا أن نقول: من أراد أن يعرف سطوة تلك القوات والفرق العسكرية وما يمكن أن تفعله فلينظر إلى انقلاب ٢٧ مايو ١٩٦٠م. في ذلك التاريخ فرضت تلك القوات هيمنتها على الشعب التركي واحتجزت ما يقارب من ٣٠ مليون مواطن. لكن هذه القوات نفسها لم تستطع أن تحقق أي نتائج إيجابية مرجوة بالرغم من استخدامها كافة قدراتها في شرقي تركيا وجنوبي شرقي تركيا، وسيطرتها على الشوارع كافة. إن الإشكال أعمق بكثير من أن يُحَلَّ بمجرد استخدام القوة العسكرية. لقد تم إغفال اتخاذ خطوات حقيقية وتدابير ضرورية لحل هذه المشكلة منذ أمد بعيد، وذلك أمر مُشين ينبغي التخلص منه في أقرب وقت ممكن.

إن اللجوء إلى حل المشاكل بطرق غير قانونية، يدفع الآخرين -في المقابل- إلى تشكيل تنظيمات غير قانونية.

 إن اللجوء إلى حل المشاكل بطرق غير قانونية، يدفع الآخرين -في المقابل- إلى تشكيل تنظيمات غير قانونية كذلك، ومن ثم فلجوء الدولة أو أفراد يمثلون الدولة أو يُظهِرون أنفسهم كذلك أمام الرأي العام بطرح حلول للمشكلات خارج إطار القانون يتسبب في إحداث مشكلات أخرى أشدّ خطورة، وينتج عنها مضاعفات جسيمة يتعذر علاجها على المدى المنظور. للأسف الشديد، لقد سمعنا من يصرّح بأنه كُلِّف بقتل بعض الأفراد من أجل الحفاظ على مصلحة الدولة وتحقيق الأمن والاستقرار فيها.

إن الحل الأمثل لعلاج أي مشكلة والتصدي لحلها لا يكون بإزهاق الأرواح وهدم المنازل على أصحابها وإحراقهم فيها وإثارة الفوضى وإشعال الفتن وتأجيج الصراعات، إنما ينبغي التصدي لها بنور العقل والحكمة وتغليب جانب الرحمة على جانب الانتقام والتنكيل.

وإذا جاز لي أن أتقدم إلى دولتكم ببعض المقترحات التي تسهم في حل المسألة الكردية فاسمحوا لي أن أعرض بين أيديكم ما يأتي:

أولاً “الإعمار”

يجب أن تتركز أولوية الحل على مسألة “إعمار المنطقة” بحيث تصبح مركز جذب -بكل ما تعنيه الكلمة- من خلال العمل على تنمية المنطقة وبذل جهود مخلصة في هذا السبيل؛ ينبغي بناؤها وإحياؤها بصورة متكاملة حتى تعود مركزًا هامًّا للحضارة والازدهار، وترتقي إلى مستوى من العمران يغبطها عليه الجميع، ويشعر سكان هذه المناطق بالرضى عن أوضاعهم والسعادة بتواجدهم فيها كما كان عليه الحال في التاريخ. (في فترة من الفترات مَنحت الدولة لتلك المناطق بعض الامتيازات تحت مسمَّى “أماكن ذات أولوية في التنمية”. ولكن كان ينبغي أن تكون خطوات الدولة في هذا الصدد أكثرَ جدية، بحيث لا تسمح بأنْ توزَّع الحوافز المالية والمناقصات الحكومية بين أنصار الحكومة، وألا تُستخدَم تلك المناطق وسيلة لإثراء البعض. ينبغي بذل كافة الجهود بجدية تامة وإخلاص كامل لتحقيق التنمية المستدامة وتحويل المدن الشرقية إلى حواضر زاهرة تهفو إليها القلوب ويشار إليها بالبنان).

ثانيًا “التعليم”

ينبغي أن يُنظر إلى مسألة التعليم في المنطقة بشكل جدي. فإذا حُلّت مشكلة التعليم في هذه المناطق فسوف تحل تلقائيا مشاكل أخرى عديدة. كما يجب التركيز على نوعية المعلمين الذين يعيَّنون للتدريس في تلك المنطقة، عليهم أن يتلقوا تدريبًا خاصًّا يؤهلهم للتضحية حتى بأنفسهم من أجل تعليم إخوانهم هناك، ينبغي أن يذهبوا إليها دون أن يفكروا بالعودة إلى مدنهم، بل ينبغي أن يفكروا بأنهم ذهبوا ليموتوا هناك ويدفنوا هناك، تماما مثلما فعل نظراؤهم من المعلمين المتطوعين الذين انتشروا في كل أنحاء العالم اليوم ضاربين أروع الأمثلة في التضحية والعطاء.[1] معلمون أكفاء من هذا الطراز، يمتازون بروح الإيثار والبذل، ويحملون أهدافا سامية وغايات نبيلة، سوف ينشئون جيلا متوازنا سليما إذا توفرت لديهم المؤسسة التربوية المتكاملة. إن إرسال مدرسين مشحونين بهذه الروح -روح الإيثار والتضحية- إلى تلك المناطق سوف يبعث الحيوية والنشاط في المؤسسات التربوية هناك.

وسوف تكون شهادات طلاب هذه المدارس وخاصة صغار السن منهم عن معلميهم هؤلاء شديدة التأثير في نفوس ذويهم، وسيكون لها وقعها الإيجابي في تليين مشاعر الأهالي وبعث الثقة في نفوس أهل الشرق كافة إزاء أهل الغرب من البلاد. أجل، إذا ما عالجتم الموضوع من الأساس، فسوف تبعثون الحياة في المنطقة، إن لم يكن اليوم فغدا. أناشدكم وأتوسل إليكم، وأقبّل أيديكم، أن تسارعوا في هذا. فمن ضمن الآفات التي تتصدر قائمة المشاكل في هذه المناطق -بالإضافة إلى تردي مستوى التعليم- روحُ اليأس التي تشيع بين أهالي المنطقة ونظرتهم إلى المستقبل نظرة تشاؤمية بسبب فقدهم الإيمان بالعدالة وإقامة الحق على أراضيهم، واستبعادهم لحلول الأمن والسلام يوما ما في مناطقهم، ولا شك أن نشر التعليم من خلال زمرة مؤهلة سيسهم في تغيير هذا المناخ.

ثالثًا “السماح باللغة الأم، الكردية”

لقد اقترح بديع الزمان سعيد النورسي مشروعًا بتأسيس جامعة باسم “مدرسة الزهراء” في مدينة وان شرقي تركيا من أيام المشروطية “الدستور” (١٩٠٨م). كما اقترح أن تُدَرَّس اللغات الثلاث، العربية والتركية والكردية جنبا إلى جنب في تلك الجامعة، على أساس أن يكون تدريس العربية فرضا والتركية واجبا والكردية جائزا. ما المانع –يا دولة الرئيس- من أن تتاح الفرصة لتعليم اللغة الكردية في المدارس؟ أود أن ألفت نظر دولتكم إلى أننا ندرِّس اللغة التركية في مدارسنا التي فُتِحت خارج تركيا –حتى في أمريكا- كلغة اختيارية، ولا يعترض أحد على ذلك. أقترح أن تكون اللغة الكردية لغة اختيارية في مدارس تلك المنطقة. ليكن عندهم إذاعات وقنوات تلفزيونية كردية. ينبغي ألا ننسى أن التعليم باللغة الأم حق إنساني لا يصحّ أن يكون موضوعا لأي مساومة سياسية.

رابعًا “الرعاية الصحية”

ينبغي الاهتمام بالرعاية الصحية وتوفير مؤسسات ومراكز صحية في هذه المناطق. لا يخفى على واسع علم دولتكم، أن تركيا لديها أعداد كبيرة من الأطباء العمومين، ومن ثم فلا حرج في إرسال معظم هؤلاء الأطباء إلى تلك المناطق. كما أن طبيعة مهنة الطب تقوي من عملية التواصل بين الأطباء والمرضى من خلال زيارة الأهالي في منازلهم، والاهتمام بهم ورعايتهم رعاية خاصة. فلو أمكن تخصيص طبيب ممارس عام أو مأمور صحي لثلاث أو أربع قرى إن لم يكن هناك إمكانية لتخصيص طبيب واحد لكل قرية. وحبذا لو قدم هؤلاء الأطباء خدمات طبية في المصحات الحكومية، وألقوا دروسا ومحاضرات –كذلك- في المدارس حول الطب الوقائي للرفع من مستوى الوعي الصحي والحيلولة دون حدوث بيئات قابلة لأمراض شتى. ولا شك أن اختلاط الأطباء بالعائلات من خلال الممارسة المهنية من جهة، وعن طريق الأطفال الذين يدرّسونهم من جهة أخرى، سيسهم في غرس أفكار وآمال ورؤى إيجابية في نفوس أهالي تلك المناطق.

خامسًا “تغيير الصورة النمطية للجيش”

إن تعيين جنود وضباط من القوات المسلحة يحسنون التواصل مع أهالي المنطقة والاندماج معهم يعمل على إزالة الصورة النمطية الخاطئة التي تشكلت في أذهان الشعب عن الجيش التركي عبر عقود؛ فالجيش في الذهنية الشعبية هو مدبر الانقلابات على الديمقراطية دائما، وهو الذي يمارس أصنافا من الاضطهاد والقمع، ومن ثم، فإرسال نوعية مدربة من الضباط إلى هذه المناطق يمكنها محو آثار صدمة انقلابات كل من ٢٧ مايو ١٩٦٠م، و١٢ مارس ١٩٧١م، و١٢ سبتمبر ١٩٨٠م، و٢٨ فبراير ١٩٩٧م من ذاكرة ذلك المجتمع أمر في غاية الأهمية.

سادسًا “الاستقرار الأمني بلا عنف”

لا أشكُّ في أن هناك ضباطًا شرطيين شرفاء مستعدين للذهاب إلى تلك المناطق بكل شوق. أناشدكم أن تنتقوا ضباطًا من هذه النوعية يتسمون بشخصية قوية، ويقدسون واجبهم الوظيفي، ويتحلّون بمشاعر البذل والعطاء، ولديهم الحماسة لبث الأمن والطمأنينة في قلوب الناس. ليذهبوا وليكونوا نماذج حقيقية للأمن الحقيقي، ليلعبوا كرة القدم مع الأطفال إن أمكن، ليقدموا لهم هدايا، ليقيموا علاقات وطيدة مع الشباب. بالتأكيد سيكون لدى بعض هؤلاء الأطفال والشباب “فوبيا” من عناصر الشرطة نتيجة التجارب السابقة المؤلمة التي تعرضوا لها. وبالتالي يمكن أن يتعافى هؤلاء من هذه الفوبيا من خلال هذه النوعية المؤهلة من عناصر الأمن، فتَلقّيِ أحد هؤلاء الأطفال هدية أو ملابس جديدة من أخيه الشرطي أو شقيقه العسكري ستجعله لا ينظر إلى دولته بعين سيئة من ناحية، وتقيه شر الانخداع بعصابات المافيا والإرهاب المحرّضة على الجيش والشرطة من ناحية أخرى. أناشدكم –دولة الرئيس- أن تولوا هذا الموضوع عناية خاصة وتهتموا باختيار نوعية كهذه من الضباط والجنود يحسنون التواصل مع الأهالي، يزورونهم في منازلهم واحدا واحدا، ويستمعون إلى مشاكلهم، وينفذون إلى قلوبهم ليسدّوا جميع الثغرات الأمنية، ويحولوا دون أسباب الفساد والفتنة التي تزعزع سكينتهم.

إن الحل الأمثل لعلاج أي مشكلة والتصدي لحلها لا يكون بإزهاق الأرواح وهدم المنازل على أصحابها وإحراقهم فيها وإثارة الفوضى وإشعال الفتن وتأجيج الصراعات، إنما ينبغي التصدي لها بنور العقل والحكمة وتغليب جانب الرحمة على جانب الانتقام والتنكيل.

سابعًا “تحسين السلك الإداري”

إن عملية انتقاء واختيار كوادر السلك الإداري من محافظين وولاة، ومساعدي ولاة وآخرين لا تقل أهمية عن العناصر سالفة الذكر، ولذلك ينبغي أن يتم انتقاء النخبة الإدارية بعناية خاصة من بين الكفاءات التي تحمل أهدافا نبيلة، وتسيطر على أنانيّتها، وتقدم حياة الآخرين على حياتها وسعادتهم على سعادتها؛ همُّهم الأول تقديم خدمة المواطنين على مصالحهم الشخصية ويتسمون بالصبر والتواضع وحسن المعاملة. على الدولة أن تحضّهم على الاختلاط بالشعب في أسواقهم ومنازلهم ودور عباداتهم ومستشفياتهم ومراكزهم الصحية ومقراتهم الأمنية وثكناتهم العسكرية وهيئاتهم الإدارية.

ثامنًا “انتقاء كوادر دينية محلية مدربة”

ينبغي أن يوظَّف رجال دين يتقنون لغة أهل المنطقة، ويعرفون طبيعة الشعب الكردي بكل تفاصيلها، يجيدون تحليل سكان المنطقة وقراءتهم قراءة صحيحة بتفاعل عاطفي جاد، ويتعاملون معهم عن معرفة ودراية.

تاسعًا “توفير الدعم المعنوي والتثقيفي والأمني للوجهاء الدينيين في المنطقة”

في شرقي تركيا للقيادات الدينية من مشايخ وعلماء ووجهاء دينيين مكانة كبيرة –كما لا يخفى على دولتكم-، وشرق تركيا زاخر بهذه القيادات. فلو أقيمت دورات تثقيفية لهؤلاء الأفاضل تشتمل على رؤية الحكومة هذه، وتم توفير كافة التدابير الأمنية اللازمة لهم وحثُّهم على رفع معنويات الأهالي لأسهَم ذلك في رفع الوعي في هذه المناطق، ولو أضيف إلى ذلك توظيف الدعاة الشباب الذين تَربّوا على أيدي هؤلاء العلماء أئمة وخطباء في مساجد مختلفة من شرقي تركيا لعمَّت الطمأنينة كافة الأرجاء، كما يمكن أن يُوَفَّر لهم خبراء متخصصون يعرفون اللغة الكردية يدرّبونهم على تنمية بعض المهارات، ويقدمون لهم المشورة فيما يقومون به من أعمال.

عاشرا ” عدم الاقتصار على الحلول الأمنية وإفساح المجال لمؤسسات وهيئات المجتمع المدني إلى جانب الحكومة”

وأخيرا، ينبغي ألا يُعالَج الإشكال من خلال تدابير سياسية وعسكرية وإدارية فحسب، وألا تُترَكَ المهمةُ للمسؤولين الحكوميين فقط، بل ينبغي إفساح المجال لمؤسسات المجتمع المدني، وأن تَبذُلَ كافةُ شرائح المجتمع أقصى ما في وسعها من أجل تعزيز وحدتنا الوطنية. علينا أن نؤسِّس جسور محبة فيما بيننا على الدوام، وأن نعلن الحربَ على صفة العداوة نفسها، وأن نبتعد عن كافة أسباب الفُرقة والنزاع والشقاق.

وتفضلوا دولتكم بقبول فائق تقديري واحترامي.

[1]  يشير إلى المدرسين من أبناء حركة الخدمة.

المصدر: موقع نسمات