مركزية الإنسان في البناء الحضاري رؤية مالك بن نبي

إن الإنسان هو محور التقدم، وإذا لم تُحلَّ مشكلة هذا الإنسان فإنه لا يمكن البتة الحديث عن أي تغيير يذكر، لذلك نجد مالك بن نبي يفصِّل تفصيلاً فيما يخص حديثه عن مشكلة الإنسان، من خلال رسم منهجية واضحة قائمة على أسس ثلاثة، هي توجيه الثقافة، ثم توجيه العمل، وأخيرًا توجيه رأس المال.
ونتوقف مع فكرة التوجيه بصفة عامة، والمقصود بها -وفق رؤية ابن نبي- قوة في الأساس، وتوافق في السير، ووحدة في الهدف. فكم من طاقات وقوى لم تستخدم كما ينبغي، بل ضاعت دون أن تحقق هدفها، وهنا بالتوجيه بصفة أخص يقول ابن نبي: “هو تجنب هذا الإسراف في الجهد وفي الوقت. هناك ملايين السواعد العاملة، والعقول المفكرة في البلاد الإسلامية، صالحة لأن تستخدم في كل وقت، المهم هو أن ندير هذا الجهاز الهائل المكوَّن من ملايين السواعد والعقول في أحسن ظروفه الزمنية والإنتاجية المناسبة لكل عضو من أعضائه. وهذا الجهاز حين يتحرك يحدد مجرى التاريخ نحو الهدف المنشود، وفي هذا تكمن أساسًا فكرة توجيه الإنسان الذي تحركه دفعة دينية وبلغة الاجتماع الذي يكتسب من فكرته الدينية معنى الجماعة ومعنى الكفاح”.

إن الإنسان هو محور التقدم، وإذا لم تُحلَّ مشكلة هذا الإنسان فإنه لا يمكن البتة الحديث عن أي تغيير يذكر 

توجيه الثقافة
يرى ابن نبي أن توجيه الأشياء الإنسانية يعني أولاً تعريفه، والثقافة من هذه الأشياء الأساسية التي تتطلب بإلحاح تعريفها، بل تعريفَين ويذكر من ذلك:
الأول يحددها في ضوء حالتنا الراهنة، والثاني يحددها مصيرنا، مؤكدًا على أنه يجب بادئ الأمر تصفية عاداتنا وتقاليدنا، وإطارنا الخلقي والاجتماعي مما فيه من عوامل قتالة، حتى يصفو الجو للعوامل الحية والداعية للحياة. وهذه التصفية حسب ابن نبي لا تتأتى إلا بفكر جديد يحطم ذلك الوضع الموروث عن فترة تدهور مجتمع أصبح يبحث عن وضع جديد، وهو وضع النهضة، معتبرًا أن ثقافة نهضتنا لم تنتج سوى حِرَفيين منبثين في صفوف شعب أمي، يقول ابن نبي: “ونحن مدينون بهذا النقص لرجل “القلة” الذي بتر فكرة النهضة فلم ير في مشكلتنا إلا حاجته ومطامعه، دون أن يرى فيها العنصر الرئيسي لما في نفسه من كساد، وعليه إنه لم ير في الثقافة إلا المظهر التافه، فهي عنده طريقة ليصبح شخصية بارزة، وإن زاد فعلمٌ يجلب رزقًا”.
وعليه، نحن بحاجة إلى حل مشكلة الثقافة، وحسب ابن نبي فهي لا تخص طبقة دون أخرى، بل تخص المجتمع كله بما فيه المتعلم والصبي، بل هي دستور تتطلبه الحياة العامة. وقد مثَّل لها ابن نبي بوظيفة الدم الذي يتركب من الكريات الحمراء والبيضاء، وكلاهما يسبح في سائل واحد من البلازما ليغذي الجسم، وكذلك هي الثقافة؛ فهي دم في جسم المجتمع يغذي حضارته، ويحمل أفكار النخبة كما يحمل أفكار العامة، وكل من هذه الأفكار منسجم في سائل واحد من الاستعدادات المتشابهة، والاتجاهات الموحدة والأذواق المتناسبة. يقول ابن نبي: “وفي هذا المركب الاجتماعي للثقافة، ينحصر برنامجها التربوي، وهو يتألف من عناصر أربعة يتخذ منها الشعب دستورًا لحياته المثقفة:
1- عنصر الأخلاق لتكوين الصلات الاجتماعية.
2- عنصر الجمال لتكوين الذوق العام.
3- منطق عملي لتحديد أشكال النشاط العام.
4- الفن التطبيقي الموائم لكل نوع من أنواع المجتمع، أو “الصناعة” حسب تعبير ابن خلدون”. ونتوقف هنا مع هذه العناصر:
1- التوجيه الأخلاقي: المقصود بالأخلاق هنا من الناحية الاجتماعية لا الفلسفية، ويبيِّن ابن نبي أنه ليس المقصود هنا أيضًا تشريح مبادئ خلقية، بل تحديد قوة التماسك اللازمة للأفراد في مجتمع يريد تكوين وحدة تاريخية، وهذه القوة مرتبطة في أصلها بغريزة الحياة في الجماعة عند الفرد، والتي تتيح بناء القبيلة والعشيرة والمدينة بروح خلقية سامية، وهنا يقول ابن نبي: “هذه الروح الخلقية منحة من السماء إلى الأرض، تأتيها مع نزول الأديان عندما تولد الحضارات، ومهمتها في المجتمع ربط الأفراد ببعضهم البعض، كما يشير إلى ذلك القرآن الكريم في قوله تعالى: (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ)(الأنفال:63). وهكذا، فروح الإسلام هي التي خُلِقت من عناصر متفرقة كالأنصار والمهاجرين أول مجتمع إسلامي، يقول ابن نبي: “إن قوة التماسك الضرورية للمجتمع موجودة بكل وضوح في الإسلام، ولكن أي إسلام؟ الإسلام المتحرك في عقولنا وسلوكنا، والمنبعث في صورة إسلام جماعي”. ولعل قوة التماسك هاته جديرة بأن تؤلف لنا الحضارة المنشودة.

انطلق بن نبي من مركزية الإنسان في البناء الحضاري، مؤكدًا أن الأمر يستلزم ثلاثة ركائز، هي توجيه الثقافة ثم العمل، ثم رأس المال لدى هذا الإنسان

2- التوجيه الجمالي: يرى ابن نبي أنه لا يمكن لصورة قبيحة أن توحي بالخيال الجميل، معتبرًا أن المجتمع الذي ينطوي على صور قبيحة، لا بد أن يظهر أثر هذه الصور في أفكاره وأعماله ومساعيه. يقول في ذلك: “بالذوق الجميل الذي ينطبع فيه فكر الفرد، يجد الإنسان في نفسه نزوعًا إلى الإحسان في العمل”. إن الجمال هو وجه الوطن في العالم، والإطار الحضاري بكل محتوياته متصل بذوق الجمال، بل إن الجمال هو الإطار الذي تتكون فيه أيّة حضارة حسب تعبير ابن نبي.
3- المنطق العملي: المقصود بالمنطق ليس كما دُوِّنت أصوله وَوُضعت قواعده منذ “أرسطو” وإنما كيفية ارتباطه بالعمل ووسائله ومعانيه. وهنا يرى ابن نبي أننا نحن أحوج ما نكون إلى هذا المنطق العملي في حياتنا، لأن العقل المجرد متوفر في بلادنا، غير أن العقل التطبيقي الذي يتكون في جوهره من الإرادة والانتباه، فشيء يكاد يكون معدومًا؛ والسبب في ذلك حسب تعبير ابن نبي: “افتقادنا الضابط الذي يربط بين عمل وهدفه، بين سياسة ووسائلها، بين ثقافة ومُثُلها، بين فكرة وتحقيقها، فسياستنا تجهل وسائلها، وثقافتنا لا تعرف مُثُلها العليا، وإن ذلك كله ليتكرر في كل عمل نعمله، وفي كل خطوة نخطوها”، منبهًا إلى مسألة القول بأن “المجتمع الإسلامي يعيش طبقًا لمبادئ القرآن”، ومن الأصوب حسب ابن نبي: “أن نقول إنه يتكلم تبعًا لمبادئ القرآن، لعدم وجود المنطق العملي الإسلامي في سلوكه”.
فالمسلم حسب ابن نبي لا ينقصه منطق الفكرة ولكن منطق العمل والحركة، فهو لا يفكر ليعمل، بل يفكر ليقول كلامًا مجردًا، يقول ابن نبي: “ومن هنا يأتي عقمنا الاجتماعي، فنحن حالمون ينقصنا المنطق العملي، ولننظر إلى الأم التي تريد أن تربي ولدها، فهي إما أن تبلّده بمعاملة أمٍّ متوحشة، وإما أن ترخي له العنان وتتميع معه، فإذا أبدت إشارة أو أصدرت أمرًا، شعر الطفل بتفاهة إرادتها فلم يعبأ بها، إذ إنَّ الوهن والسُّخف يطبعان منطق قولها حتى في عين هذا الصبي المسكين”. وما أحوجنا اليوم -قبل الغد- إلى المنطق العملي وفق المنهج والسلوك الإسلامي لمسايرة روح العصر، فهل نحن فاعلون؟
4- الصناعة: الصناعة وسيلة لكسب العيش وبناء المجد، بل بناء كيان المجتمع ليستمر في طريق نموه، وهنا يرى ابن نبي ضرورة إنشاء مجلس للتوجيه الفني، ليحلَّ نظريًّا وعمليًّا المشكلة الخطيرة للتربية المهنية تبعًا لحاجات البلاد.
توجيه العمل
الحلقة الثانية من مشكلة الإنسان بعد توجيه الثقافة هي توجيه العمل، فهذا الأخير وحده هو الذي يخطط مصير الأشياء في الإطار الاجتماعي. ورغم أنه ليس عنصرًا أساسيًّا كالإنسان والزمن والتراب، إلا أنه يتولد من هذه العناصر الثلاثة لا من الخطب الانتخابية أو الوعظية، يقول ابن نبي: “عندما كان المسلمون الأُول يشيدون مسجدهم الأول بالمدينة، كان هذا أول ساحة للعمل صُنعت فيها الحضارة الإسلامية. فلو أننا نظرنا إلى هذه الساحة في بساطتها وقلة شأنها في ذلك الوقت، لدعانا المشهد إلى الابتسام، ولكن أليس هنالك قد تلقَّى بناءوا الحضارة الإسلامية دورس العمل؟ أوَليسوا هنالك قد قبضوا لأول مرة على عصا التاريخ؟”.
وهنا يرى ابن نبي أن توجيه العمل في مرحلة التكوين الاجتماعي بعامة، يعني سير الجهود الجماعية في اتجاه واحد، بما في ذلك جهد السائل والراعي وصاحب الحرفة والتاجر والطالب والعالم والمرأة والمثقف والفلاح، لكي يضع كل منهم في كل يوم لبنة بناء جديدة في البناء، يقول ابن نبي: “فإعطاء ثلاثة حروف من الأبجدية عملٌ، وتقبل هذه الحروف عملٌ، وإزالة أذى عن الطريق عملٌ، وإسداء نصح عن النظافة أو الجمال -دون أن يغضب الناصح حين لا يُصغى لنصحه- عملٌ، وغرس شجرة هنا عملٌ، واستغلال أوقات فراغنا في مساعدة الآخرين عملٌ”. وهكذا يكون توجيه العمل هو تأليف كل هذه الجهود لتغيير وضع الإنسان، وخلق بيئته الجديدة، ومن هذه البيئة يشتق العمل الآخر: “كسب العيش لكل فرد”، يقول ابن نبي: “والواقع أنه يجب أن يكون التوجيه المنهجي للعمل شرطًا عامًّا أولاً، ثم وسيلة خاصة لكسب الحياة بعد ذلك، لأن هذا التوجيه -حين يتحد مع توجيه الثقافة وتوجيه رأس المال- يفتح مجالات جديدة للعمل”.
توجيه رأس المال
قال مالك بن نبي وهو يتحدث عن رأس المال، بأن هذا الأخير لم يكن هو المشكلة التي تعرض لها “كارل ماركس”، وإنما كان تعرضه لنتائجه الاجتماعية من خلال تركيز رؤوس الأموال، وظهور طبقة البروليتاريا العاملة. وبالتالي فظروف ذلك العصر لم تدفع بـ”ماركس” إلى تحديد رأس المال من حيث هو آلة اجتماعية، وإنما من حيث هو آلة سياسية بين طبقة معينة هي البرجوازية مقابل طبقة مضطهدة هي البروليتاريا. أما حال البلدان الإسلامية في ذلك الوقت لم تكن تواجه مشكلة الرأسمالية، لأن رأس المال لم يتكون بعد. وهنا يقول ابن نبي: “فالقضية في البلاد الإسلامية ذات طابع يختلف تمام الاختلاف عن صورتها في أوروبا، ومن هنا كان حتمًا علينا دراسة هذه المشكلات دراسة خاصة، وبالتالي تحديد رأس المال ذاته من زاوية أخرى باعتباره آلة اجتماعية تنهض بالتقدم المادي لا آلة سياسية في يد الرأسمالية”. وهكذا يرى أن تحديد الثورة في البلاد الإسلامية من وجهتين:
أ- بالنسبة للمركز الاجتماعي لصاحبها؛ فهو فلاح أو صاحب ماشية أو صاحب ضيعة.

يرى ابن نبي أن توجيه العمل في مرحلة التكوين الاجتماعي بعامة، يعني سير الجهود الجماعية في اتجاه واحد، بما في ذلك جهد السائل والراعي، لكي يضع كل منهم في كل يوم لبنة بناء جديدة في البناء

بـ- بالنسبة لاستعمال صاحبها لها؛ وهو يستعملها في إطاره الذي تقتضيه حرفته المحلية، فهي شيء محلي مستقر في حقل صاحبه أو داره أو حول خيمته.. يقول ابن نبي: “إن توجيه رأس المال -وهو لا يزال في طور التكوين في بلادنا- لا يتصل أولاً بالكم بل بالكيف، فإن همنا الأول أن تصبح كل قطعة مالية متحركة متنقلة تخلق معها العمل والنشاط، أما الكم فإن ذلك الدور الثاني، دور التوسع والشمول”.
لقد اعتبر ابن نبي أن تاريخ العرب نفسه، يحمل نموذجًا بسيطًا لما تم تقديمه؛ إذ كانت مكة قبل الإسلام تسير أموالها حسبما يقتضيه الأسلوب الرأسمالي، ومن المعروف أن قريشًا لم تكن تملك من أموال الإنتاج الشيء الضخم كالعقارات والمصانع، غير أن قوافلها كانت تجوب الصحراء حاملة بضائع الشرق الأدنى في رحلة الشتاء والصيف، وكانت قريش كلها تسهم في تزويد هذه الرحلة”.
كما يرى أن القضية الجوهرية ليست في تكديس الثروة، بل في تحريك المال وتنشيطه، بتوجيه أموال الأمة البسيطة، وذلك بتحويل معناها الاجتماعي من أموال كاسدة إلى رأس مال متحرك ينشط الفكر والعمل والحياة في البلاد.. مؤكدًا في الوقت نفسه، أن القضية قضية منهاج يحدد لنا تخطيطًا مناسبًا نبني عليه حياتنا الاقتصادية، ولا يكون فيه مكان لتركيز رؤوس الأموال في أيدي فئة قليلة تستغل السواد الأكبر من الشعب، بل يجب أن يتوفر فيه إسهام الشعب مهما كان فقيرًا، بذلك يتم التعادل بين طبقات المجتمع، وتنسجم مصلحة الجماعة مع مصلحة الفرد. وختم ابن نبي بالقول: “وبهذا التوجيه الذي يسير متضافرًا مع توجيه الثقافة وتوجيه العمل؛ يكون الفرد قد استكمل الشروط اللازمة لتشييد حضارة تطابق إطاره الخاص”.
وجملة القول، إن مالك بن نبي قد وقف على منبع المشكل في البلاد الإسلامية، ورسم بذلك منهجًا للخروج من المأزق الحضاري، منطلقًا من مركزية الإنسان في هذا البناء، مؤكدًا أن الأمر يستلزم ثلاثة ركائز، وهي توجيه الثقافة، ثم العمل، ثم رأس المال. ومما لا شك فيه أنه بهذه التوجيهات الركائز سيتمكن الإنسان من بناء المجتمع ثم الأمة بناءً حضاريًّا يساير تطور الأمم الأخرى. وما أحوجنا اليوم إلى مثل هذه الكتابات الفكرية المنهجية، الموقظة لروح العلم والعمل والتخطيط، خدمةً للأمة الإسلامية بصفة خاصة، والإنسانية بصفة عامة.

(*) جامعة سيدي محمد بن عبد الله، كلية الآداب / المغرب.
المرجع
(1) شروط النهضة، لمالك بن نبي، ترجمة: عبد الصبور شاهين، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق.