لم يتحدّ الله في قرآنه الناس أن يخترقوا حكمًا قضى عليهم به، إلا حكمًا واحدًا، هو الموت، وذلك في قوله ﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ﴾(النساء:78)، وفي قوله ﴿قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ﴾(الجمعة:8).. فأما فيما وراء ذلك، فقد ترك الله ساحة الدنيا مسخّرة للإنسان خاضعة لإمكاناته العضلية والعلمية.
كل نفس ذائقة الموت!
هذه الجملة من قرار الله في حقّ عباده؛ تقول لدعاة العلم الحديث وللمتوثبين لغزو الفضاء، ولمن يزعمون اليوم أنهم يتحكمون بناصية الطبيعة، أن: “أجمعوا أمركم واضفروا جميع إمكاناتكم واحشدوا أقماركم ومراكبكم المشروعة، ثم جنّدوا ذلك كله لإزاحة سلطان هذا الموت الذي قهركم واستذلّكم، فإن أنتم نجحتم في ذلك كنتم الأقوياء حقًّا والمبدعين حقًّا”.
ولكن هذا التحدّي الربّاني المتكرر في القرآن، يظل هو المهيمن والغلاّب.. ويظل الناس الذين يقودون سفينة العلم والمخترعات في عباب هذه الدنيا، محكومين أذلاّء لسلطان هذا التحدّي الإلهي.. وإنك لتتأمّل فتجد أن أحدهم يموت كما تموت أضعف ذبابة في الكون! إنها الحقيقة التي قهر بها الله سكّان هذه الدنيا كلها، منذ فجر الوجود إلى أن تغيب شمسه!..

ولكن.. فما هو الموت؟

إن من تتمة مظاهر القهر الرباني، أن منهج الدراسات الغربية للعلم وحقائقه، جعل حقيقة الموت مجهولة وشاردة عن ساحة هذه الدراسات!.. ذلك لأن “العلم” في المنظور الغربي لا سلطان له إلا في نطاق المادة.. إن “الروح” لا معنى ولا وجود لها في قاموس هذا العلم، ومن ثم فإن البحث في “الروح” غير داخل في شيء من موضوعاته ومسائله.. ولما كان الموت -فيما أخبر عنه القرآن- انفصال الروح عن الجسد بعد أن كانت سارية في نسيجه وسائر خلاياه، فقد غدا بسبب ذلك ظاهرة مجهولة الحقيقة. وكل ما رصدته الدراسات الغربية من هذه الظاهرة لا يتجاوز عوارضها المرئية الخاضعة لمقاييس المادة، كسكون القلب، وغياب الإحساس، وسكون النبض، وموتِ ما يسمى بجذع الدماغ.. وواضح أن هذه وأمثالها ليست هي جوهر الموت، وإنما هي من عوارضها وآثارها.
ومن ثم، فقد وقر في ذهن الغربيين أن الموت لا بدّ أن يكون انطفاء لجذوة الوجود، وانتهاء من الحيّ إلى العدم، وقد جاء تعبيرهم: “حُكِم على فلان بالإعدام” نتيجة لهذا التصور!.. وقد سرت عدوى كلمة “العدم” هذه إلى كثير من مجتمعاتنا العربية والإسلامية، فقد أصبحت كلمة “العدم” تعبيرًا عن الموت فيما تلوك ألسنة كثير من الناس.
ولكن الموت -كما أخبرَنا عنه “خالق الموت والحياة عز وجل”- ليس عدَمًا، بل هو انتقال الكائن الحيّ من هذه الحياة الدنيا إلى حياة البرزخ.. وتفصيلُ ذلك بالقدر الذي تسمح به هذه الورقة، أن الإنسان ثنائي التركيب في كل الأحوال، قبل الموت وبعده، أي إنه مؤلف من الجسد والروح السارية في أجزائه. غير أن الروح تكون هي الحبيسة لحساب الجسد، والتابعة له في هذه الحياة الدنيا. فإذا مات الإنسان انطلقت الروح وغدا الجسد هو التابع لها.
فإن ختم للإنسان بما يرضي الله عز وجل من صالح الأعمال، انطلقت روحه مشرّقة ومغرّبة، تجوب الآفاق كما تشاء، ولكن يمتدّ منها إلى الجسد الذي يثوي في تُربته ما يشبه أشعّة الشمس التي تمتد فتتصل بكل ما تشرق عليه، فهي بعيدة عنه بذاتها ولكنها متصلة به بأشعّتها. كذلكم الروح، مفصولة عن جسد الميت بذاتها، متصلة به أينما ذهبت بأشعّتها.. وبسرٍّ من هذا الاتصال يتمتع الجسد بالإحساس، سواء أكان جسدًا متماسكًا أم تحوّل إلى رميم وفُتات!..
وإن ختم للإنسان بخاتمة السوء، انفصلت عنه الروح لتهوي إلى القرار الذي أعدّه الله لها، والذي فيه من الضيق والآلام ما لا يعلمه إلا الله، وإلاّ من سبق وذاقه، ويمتدّ منها -وهي في مقرّها ذاك- إلى الجسد ما يشبه أشعّة الشمس، فتكون روحه موصولة به وإن كانت منفصلة عنه.
ومن هنا يتعرض الميت جسدًا وروحًا لما أعدّه الله له من نعيم القبر أو عذابه.. تتنعم الروح، فتسري مشاعر هذا النعيم إلى الجسد وذراته أينما كان، أو تتعذب الروح فتسري مشاعر العذاب إلى الجسد وذراته أينما كان أيضًا.

ولكن فما الدليل العلمي على هذا الكلام؟

أذكّر قبل بيان الدليل بما هو معلوم في منهج البحث العلمي أن الحقيقة المراد معرفتها إن كانت مادّية خاضعة للحس فسبيل معرفتها التجربة والمشاهدة، وإن كانت غير خاضعة للحس كأحداث الماضي السحيق والمستقبل البعيد، وما لا يدخل وجوده تحت سلطان الحواس، فالطريق إلى معرفتها هو الخبر الصادق الذي يصلنا عن طريق التواتر. وقد عرفنا أن جوهر الموت غير خاضع لشيء من الحواس ووسائلها، وإنما الذي يخضع للحواس ظواهر الموت وأعراضه.. إذن فالخبر الصادق المتواتر هو الذي يكشف لنا عن حقيقة الموت. والخبر الصادق هنا هو كلام الله الواصل إلينا عن طريق التواتر. وإيماننا بالله خالق الموت والحياة ليس محل نقاش هنا.
وقد أكّد بيان الله في القرآن، في أكثر من موضع، أن الموت ليس عدمًا، وإنما هو انتقال من الحياة الدنيوية هذه إلى الحياة البرزخية التي تفصل ما بين الحياة الدنيا والحياة الآخرة. يقول الله تعالى عن آل فرعون وحالهم بعد الموت ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا﴾(غافر:46)، ويقول عن مصيرهم يوم القيامة ﴿يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾(غافر:46)، ويقول عن الذين ظلموا أنفسهم في دار الدنيا بالجحود والاستكبار على الله ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلاَئِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ،(1) الْيَوْمَ(2) تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَـكْبِرُونَ﴾ (الأنعام:93). ويقول عن نموذج من الناس الذين أيقنوا بوجود الله وخضعوا لسلطانه ودانوا بذلّ العبودية له، وهم الشهداء ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾(آل عمران:169).
ولكن مَن علِم وجود الصانع جل جلاله، وأيقن أن القرآن كلامه، علم أن ما قلته هو القرار العلمي الذي لا يلحقه ريب. ونحن موقنون بوجود الصانع خالق الموت والحياة، وموقنون بأن القرآن كلام الله عز وجل. إذن فحديث القرآن عن الموت وحقيقته، كشف عن واقعه وذاته. وليس ثمة من هو أعلم بالجهاز المصنوع من صانعه.
________________
الهوامش
(1) أي يقولون للظالمين أخرجوا أرواحكم.
(2) المراد باليوم ما بعد الموت مباشرة.