في آفاق الجمال

منذ آلاف السنين والشعراء والأدباء والفنانون وأصحاب الحس المرهف يتغنون بالجمال وينبهرون به ويحاولون التعبير عنه وعن أحاسيسهم ومشاعرهم تجاهه فلا يملون ولا يسأمون ولا يكتفون إذ لا تزال في قلوبهم المترعة بنشوة الجمال أشياء وأشياء تحاول الإفصاح عن نفسها وحق لهم هذا، فهم يعيشون في عالم نثرت على جوانبه آيات من الجمال عديدة ولو كان للمصادفة أي: دور في هذا العالم وفي هذا الكون لكان الجمال نادرا بعكس ما نشاهده الآن من وفرة وتعدد أشكال الجمال وصوره في الزهور والورود… في الطير وفي الفراش… في المرجان وفي الأسماك… في السماء ذات النجوم المتلألئة… وفي البحار الواسعة الزرقاء…    في شروق الشمس وغروبها… في الكثبان الرملية الذهبية… في أشجار الغابات الباسقات…  في تغريد الطيور… وفي خرير المياه… في صوت المطر… وفي لمعة البرق… في منظر الثلوج الناصعة… وفي ألوان قوس قزح.

تعد حاستا البصر والسمع عندنا أهم حاستين تنقلان إلينا صور الجمال. فبهما نبصر المناظر الطبيعية الخلابة والصور التي يبدعها الفنانون، ونسمع أصوات الطيور وتغريدها وألحان القطع الموسيقية الرائعة والأشعار الجميلة فتهتز قلوبنا طربا، ونعبر عن هذه النشوة والمتعة بكلمات الإعجاب.

وتعد حاستا البصر والسمع عندنا أهم حاستين تنقلان إلينا صور الجمال. فبهما نبصر المناظر الطبيعية الخلابة والصور التي يبدعها الفنانون، ونسمع أصوات الطيور وتغريدها وألحان القطع الموسيقية الرائعة والأشعار الجميلة فتهتز قلوبنا طربا، ونعبر عن هذه النشوة والمتعة بكلمات الإعجاب. وعندما يزداد الجمال ويطغى نبقى صامتين مذهولين نشوى، لا نعرف ماذا نقول ولا كيف نعبر عن أحاسيسنا إذ نجد أن اللغة قاصرة عن التعبير.
والجمال أنواع… فهناك الجمال الهادئ… وهناك الجمال الرقيق… وهناك الجمال الجليل والمهيب. ففي الزهرة النضرة الضاحكة جمال هادئ… وفي جناح الفراشة جمال رقيق… وفي البحر الواسع والسماء اللانهائية جمال جليل ومهيب.

في صوت البلبل جمال هادئ… وفي خرير مياه الجدول جمال رقيق… وفي القطع والألحان الموسيقية درجات مختلفة من الجمال الهادئ أو الرقيق أو الجليل، وفي صوت الأذان جمال مهيب.

في صوت البلبل جمال هادئ…

الجمال على أنواع، وعلى درجات وعلى طبقات وعلى مراتب متنوعة كتنوع الألوان والأنوار والظلال التي يزخر بها هذا العالم، وكل منا يأخذ منه حسب استيعاب روحه وقلبه، وغنى فؤاده وقدرته على تذوق الجمال، وكلما ارتقى الإنسان زادت قابليته على تذوق الجمال. فمنا من       لا تحرك مشاعره أجمل المناظر ولا أحلى الأصوات والألحان ولا أرق الأشعار. ومنا من يحس بدبيب قليل في قلبه تجاه الجمال، ومنا من يظل قلبه عطشا على الدوام لا يشبع من الجمال كلما شرب منه ازداد عطشا.

يا نسيم الريح قولي للرشا         لم يزدني الورد إلا عطشا
لي حبيب حبه وسط الحشا        إن يشأ يمشي على خدي مشى

مثل هذا الإنسان الهائم بالجمال، المتعطش له، العاشق له، عندما يقابل جمالا تعروه هزة كهزة عصفور بلله القطر أو تعروه فرحة كفرحة عاشق رأى معشوقته.

وإني لتعروني لذكراك هزة       كما انتفض العصفور بلله القطر

بل عندما تزداد مرتبة الجمال ويمتلىء به القلب ثم يفيض قد نشعر حتى بالألم، ولكنه ألم من نوع آخر، ومذاق آخر… ألم عبقري!

توهمه قلبي فأصبح خده          وفيه مكان الوهم من نظري أثر
ومر بفكري خاطرا فجرحته      ولم أر جسما قط يجرحه الفكر
وصافحه قلبي فآلم كفه            فمن غمز قلبي في أنامله عقر

الجمال على أنواع، وعلى درجات وعلى طبقات وعلى مراتب متنوعة كتنوع الألوان والأنوار والظلال التي يزخر بها هذا العالم، وكل منا يأخذ منه حسب استيعاب روحه وقلبه، وغنى فؤاده وقدرته على تذوق الجمال.

ولا يقتصر الجمال في الطبيعة على ما نستطيع مشاهدته بالعين المجردة، بل هو متغلغل حتى في الوحدات الصغيرة لهذا العالم التي لا ترى بالعين المجردة، فتركيب الخلايا جميل والشريطان اللولبيان لجزيئات A.D.N بديعا التكوين، وندف الثلج تحت المجهر رائعة الجمال، وما من أحد يدري الآلية التي تجعل كل ندفة ثلج في شكل آخر وزينة أخرى، وتصميم آخر. وقد جمع “د. أ. بنتلي” بعد مجهود دام خمسين عاما ألفي شكل لهذه الندف الثلجية في كتاب أصبح اليوم مرجعا لمصممي المنسوجات وللفنانين ولصانعي الجواهر. ويلاحظ أن الشكل السداسي موجود في جميع هذه الأشكال المزخرفة لندف الثلج، ولم يتم التوصل حتى الآن  إلى تفسير هذه الظاهرة.

وكما لا يمكن تفسير الجمال بالمصادفة كذلك لا يمكن تفسيره بالضرورة. لأن الجمال يتجاوز الفائدة ويعلو عليها، فليس الجمال هو المفيد ماديا، بل هو المفيد في شكله الراقي الذي يثير في النفس مشاعر الانبهار والتقدير والمتعة المعنوية. فالأنف الكبير مفيد في التنفس أكثر من الأنف الصغير الرشيق، ولكنه لا يعد جميلا، والأذن الكبيرة مفيدة في جمع الأصوات ولكنها ليست جميلة. لذا عجزت نظرية التطور لدارون عن تفسير وجود الجمال في المخلوقات. إذ ما الضرورة لوجود الزينة والألوان في أجنحة الطيور والفراشات؟ أهي من أجل التكاثر؟ ولكن لماذا كان الجمال ضروريا للتكاثر؟ ولماذا تبدو هذه المخلوقات جميلة في نظرنا نحن؟ ما الضرورة في هذا؟ ولماذا كان صوت الطيور جميلا ليس في أسماع الطير فقط بل في أسماعنا أيضا؟ ما الضرورة في كل هذه الأمور إن لم يكن الجمال وحبه مركوزا في طبيعة هذا الوجود وفي خميرته؟

يقول مؤلفا كتاب “المنظور الجديد للعلم The New Story of  Science”:

“… فهل تستطيع آليات الطبيعة أن تفسر جمال الندف الثلجية، أو زبد البحر، أو أقواس قزح، أو غروب الشمس؟ إن جمال هذه الجوامد ينتج بالضرورة من قوانين الفيزياء والكيمياء، وهي قوانين جميلة كما رأينا في الفصل الثالث. وبفضل قوانين الطبيعة هذه لا يمكن أن يتولد من ذلك كون بشع. فجمال الجوامد مركب في آلية الطبيعة ذاتها. لنأخذ قياسا تمثيليا لذلك. فقد يستطيع أحدنا أن يبني مصنع سيارات مجهزا كليا بمعدات ميكانيكية لإنتاج عربات جميلة. بل هو قد يستطيع أن يركب في الآلية الجمال الناتج عن التصميم واللون. ولكن الجمال في السيارة لا يصبح بذلك ضرورة مطلقة، إذ تظل العربات البشعة قادرة على أن تنقل الركاب بفعالية. ومن الممكن اختراع آلات لإنتاج عربات كهذه وبالطريقة نفسها. ليست هنالك أي  ضرورة مطلقة تفرض في المقام الأول أن تشتمل القوانين الفيزيائية للطبيعة على البساطة والتناسق. ولنا أن نتصور كونا آخر ذا قوانين طبيعية غير متماثلة ومعقدة لغير ضرورة ينتج ندفا ثلجية بشعة بضرورة ميكانيكية.

وفي خرير مياه الجدول جمال رقيق…

الضرورة، إذن، لا تقدم تفسيرا نهائيا للجمال الذي نجده في الجوامد، كما أنها لا تستطيع أن تفسر الجمال الموجود في النباتات والحيوانات. إن عالم الإحياء “أدولف بورتمان Adolf Portmann”، وهو حجة معترف به في موضوع أشكال الكائنات الحية وعلاماتها المميزة، يشير إلى سمات كثيرة لا تفسرها الضرورة. ويشير بورتمان كذلك إلى أن الأوراق ضرورية للشجرة لإنتاج طعامها، “ولكن هناك الشىء الكثير في شكل الورقة وخطوطها، مما ليس تكيفا مع البيئة، بل هو تصوير ذاتي محض “… إن متطلبات التخليق الضوئي Photosynthesis تفسر سبب وجود الأوراق على الشجرة في المقام الأول ولكنها لا تفسر سبب اختلاف ورقة القبقب عن ورقة البلوط”.
والشيء نفسه يصح على الحيوانات. ففيما يتعلق بريش الطيور مثلا، يلاحظ بورتمان أنه:

“ساد الاعتقاد مدة طويلة من الزمن أن الريش ليس له دور سوى تيسير عمليتي تعديل الحرارة والطيران. ولكن علينا الآن أن نضيف دورا ثالثا وهو التعبير عن الذات، لأن هناك أصنافا كثيرة من الريش تغلب الزخرفة على تركيبه الخارجي”.

وجسم الإنسان يبرهن على أن الضرورة لا تفسر الجمال. فصوت الإنسان أكثر براعة وتعبيرا من أي آلة موسيقية. والضرورة لا تستلزم أن يكون للإنسان صوت قادر على إخراج أنغام حلوة، إذ يكفي أن يكون له صوت رتيب وممل، أو صوت خشن للاستغاثة أو للتعبير عن حاجات بدنه. وداروين نفسه أقر بأن الضرورة لا تستطيع أن تفسر ما حُبي به الإنسان من مواهب موسيقية فطرية فقد قال: “وحيث أن الاستمتاع بالأنغام الموسيقية والقدرة على إطلاقها ليسا من الملكات التي تعود على الإنسان بأدنى منفعة في عاداته اليومية الحياتية، فلابد من تصنيفهما في عداد أكثر الملكات التي حُبي بها غموضا”. والضرورة قد تفسر لماذا يكون صوت عصفور جميلا في عين عصفور آخر، ولكنها لا تفسر لماذا يكون جميلا في عين الإنسان. وعلى هذا الاعتبار نسأل: لماذا ينبغي أن يكون النمر أو الشوك جميلا في عين الإنسان؟(1).

وقد عد هذان العالمان وجود الجمال من أهم الأدلة على وجود الله، وخصصا فصلا كاملا (الفصل الثالث) لشرح هذه النظرة.

ولكن ما الجمال؟ أهو مرتبط بالفائدة فكل من كان مفيدا كان جميلا؟ أم هو التناسب بين الأبعاد والحجوم؟ أم هو التناغم بين الألوان؟ وما معنى التناسب والتناغم وكيف نستطيع تحديدهما؟ وما الفرق بين الجميل والجليل؟ وكيف نستطيع إثبات صحة أحكامنا بان هذا الشيء جميل؟ وهل يمكن أن يكون لدينا موقف جمالي محدد تجاه الأعمال الفنية؟… هذه بعض الأسئلة القديمة قدم التفكير الإنساني.  فهناك من يربط نشأة  الجمال بالألوان كالأستاذ “بين” في كتابه “الانفعالات والإرادة” إذ يقول:

وفي صوت الأذان جمال مهيب.

“إن الفكرة الأولى في الجمال تنشأ عن الألوان، فالطفل قبل أن يشعر بلذة من جمال شكل أو جمال حركة تأخذ ببصره الألوان الزاهية والصور البديعة. وإني أميل إلى تقرير ذلك عند القرويين، فانه تغلب عليهم هذه الفكرة في الجمال حتى في تقدير جمال النساء”(2).

ويعلق الدكتور “ا. س. رابوبرت” على هذا الرأي مؤيدا فيقول: “ويوضح هذه الفكرة أن الأجناس البشرية الأولى والأشخاص الذين لا يزالون في طور الانحطاط ينجذبون نحو الألوان الزاهية في الجماد والحيوان. إن من أخذوا بحظ قليل من الرقي ولم يصلوا إلى حد أن يوجهوا نظرهم نحو أنفسهم يميلون إما إلى الألوان القوية -كالأحمر والأصفر- أو الألوان المتنوعة، أما الراقون المهذبون فيميلون إلى الألوان المتلائمة والخفيفة، تعجبهم وحدة الفكر التي تنسق الألوان المختلفة والمظاهر المتعددة”(3).

وأقدم حوار نعرفه حول الجمال في تاريخ الفلسفة نجده في حوار “هيبياس الكبير” مع سقراط، فهذا السوفسطائي المشهور حاول عبثا وضع تعريف جامع وشامل للجمال يكون مقنعا لسقراط.

ولكن أول من استعمل مصطلح “علم الجمال Aesthetice” حسب رأي “ا. س. رابوبرت” هو “بومجارتن” (1714-1762) فهو أول من جعل الجمال فرعا مستقلا في الفلسفة. وقد قيل أن هناك تعاريف بعدد الناس الذين عاشوا في هذا العالم. وصعوبة وضع تعريف جامع ومانع للجمال كان سببا في أن علم الجمال فرع من أصعب فروع الفلسفة، وأقلها نموا وتقدما. ومع هذا فلا بأس من إيراد بعض الآراء حول الجمال:

يرى سقراط أن الجمال مرادف للمفيد والنافع، ولا يقصد هنا بالنافع المنفعة المادية المحسوسة فقط، لأن اللذة والمتعة النفسية الناتجة من الإحساس بالجمال يدخل ضمن المنفعة والفائدة.

أما أفلاطون فهو يرى (حسب نظريته في المثل) أن الجمال شيء إلهي ومعنى مطلق موجود في جوهر الأشياء  لا يتغير، وهو مرادف للخير. والإنسان عندما يشاهد الجمال الذي هو ظل خفيف من الجمال المطلق الذي رآه في عالم المثل الذي عاش فيه قبل حياته الدنيوية هذه يتذكر ذلك الجمال بشكل غامض ويحس باللذة والمتعة التي سبق وأن شعر بها هناك. إذن فهذا هو سر الجمال، وهذا هو سر شعورنا بالمتعة منه.

ويرى أرسطو أن الجمال موجود في الطبيعة بوفرة ولاسيما في المخلوقات الحية، ويقول بأن هذا الجمال دليل على وجود إله بارع الصنعة. وكان يشجع تلاميذه المبتدئين للانتباه إلى وجود الجمال والصنعة الرائعة حتى في أكثر الحيوانات بدائية. فهو يقول في كتابه” طبائع الحيوان”:

الإنسان الهائم بالجمال، المتعطش له، العاشق له، عندما يقابل جمالا تعروه هزة كهزة عصفور بلله القطر أو تعروه فرحة كفرحة عاشق رأى معشوقته.

“لأنه إذا لم يكن لبعضها من الحسن والجمال ما يستهوي الحس فحتى هذا البعض، بكشفه للإدراك الذهني عن الروح بارعة الصنعة التي صممتها، يعطي لذة عظيمة لجميع أولئك القادرين على تتبع روابط العلية والميالين إلى الفلسفة”(4).

لا نجد شيئا كثيرا حول الجمال في العصور الوسطى في أوروبا. ولكننا نجد أن توما الأكويني   Thomas  Aquinas هو من المفكرين القلائل الذي تناول موضوع الجمال وعدد عناصره. فهو يقول إن عناصر الجمال ثلاثة: أولها، التمام أو الكمال؛ لأن الأشياء التي يشوبها النقص تكون بشعة. والعنصر الثاني، هو التناسب الواجب أو التناسق. والثالث، عنصر الإشراق. لأن الأشياء الجميلة تكون مشرقة الألوان(5).

أما في العالم الإسلامي فإن موضوع الجمال كان يرد عادة عند شرح الأسماء الحسنى لله تعالى ولاسيما اسم “الجميل”، وعند الحديث عن “الجمال الإلهي” وتجلي الله تعالى لعباده في الجنة حيث تصغر كل بهجة وكل لذة في الجنة أمام لذة تأمل الجمال الإلهي. ولكنهم تناولوا مباحث  تعد في الفلسفة قريبة من بحث الجمال وهي مباحث الأخلاق ومباحث الخير والشر وجمال الخير وقبح الشر. حتى جاء الأستاذ بديع الزمان النورسي في العصر الحديث فتكلم عن الجمال بإسهاب نوعا ما.

بعد عصر النهضة تناول العديد من الفلاسفة موضوع الجمال. من أهمهم “لوك” و”هيوم” و”كانط” أما في العصر الحديث فأشهر من تناوله هو الفيلسوف الايطالي “بندتو كروتشه” (1866-1952).

يقول “كانط”: (إن أي حكم جمالي إلى جانب إضفائه القصدية على ما نحكم عليه بأنه جميل فإنه يذهب إلى أبعد من ذلك، وهو إن الشيء الجميل يرتبط ارتباطا ضروريا بشعور باعث على اللذة، وإنه بوصفه شيئا جميلا ليس موضوعا للمنفعة، وإنه يثير اللذة في نفوس الناس جميعا وإن هذه الموضوعية المطلوبة للأحكام الجمالية تختلف تمام الاختلاف عن الموضوعية التي تتصف بها الأحكام التركيبية القبلية، إذ ليس في ملكاتنا الإدراكية غير أساس ذاتي بحت ومن هذه الناحية تتساوى الأحكام الجمالية مع التفسير الغائي).

أما الفيلسوف الايطالي “بندتو كروتشه” (1866-1952) فيعد أشهر من بحث في علم الجمال في عصرنا الحالي، فقد تناوله في المجلد الأول من كتابه “فلسفة الروح” وفي كتابه “موجز علم الجمال” الذي طبعه عام 1902، وكذلك في المقالة التي كتبها في دائرة المعارف البريطانية تحت عنوان “علم الجمال”.

جسم الإنسان يبرهن على أن الضرورة لا تفسر الجمال. فصوت الإنسان أكثر براعة وتعبيرا من أي آلة موسيقية. والضرورة لا تستلزم أن يكون للإنسان صوت قادر على إخراج أنغام حلوة، إذ يكفي أن يكون له صوت رتيب وممل…

وكروتشه يفضل الفن الذي يعبر عن الجمال على الميتافيزيقا وعلى العلم؛ لأن العلوم تقدم لنا الفوائد، ولكن الفنون تقدم لنا الجمال، وهو يتجه بنا مباشرة إلى الحقيقة وإلى الكلي المجرد. وهو يرى أن أصل الفن هو القدرة على تكوين الصور الذهنية. ولكون الخيال يسبق الفكر وهو شرط ضروري له كانت الفاعلية الفنية -أي القدرة على تكوين الصور الذهنية- أسبق من الفاعلية المنطقية لدى الإنسان. وهو يذكر قول “ميخائيل أنجيلو”: إن الإنسان لا يصور بيديه بل برأسه (يقصد بخياله).

وعندما يعرّف “كروتشه” الجمال يعرّفه هكذا: (إنه التكوين العقلي لصورة ذهنية أو لسلسلة من الصور يتمثل فيها جوهر المُدرَك)؛ فالجمال يتعلق بالصورة الباطنية أكثر من الصورة الخارجية التي هي تجسيد للصورة الباطنية. وهو يقول بأن هناك من يتصور أن الفرق بينه وبين شكسبير هو فرق في التعبير فقط، وأن لديه الأفكار والصور نفسها التي كانت لدى شكسبير، ولكنه لا يجد العبارة الفنية البليغة للإفصاح عنها. ولكن هذا وهم باطل، فليس الفرق في قوة إخراج الصورة، بل في القدرة على تكوين الصورة الباطنية المعبرة عن الشيء الخارجي.

والشيء نفسه وارد بالنسبة للإحساس بالجمال، فهو أيضا تعبير باطني. إذ يقول: “إننا حين نستمتع بالعمل الفني الجميل إنما نعبر عن بصائرنا نحن”. إذن، فسر الجمال يكمن في الصورة الذهنية المعبرة، سواء في الفنان المصور، أو المتفرج لتلك الصور. فإذا سئلنا ما الجمال؟ أجبنا إنه تعبير.

وليس الأمر مقصورا على خلق صور الجمال، بل إنه ليتعدى ذلك إلى الإحساس بالجمال، فهو كذلك تعبير باطني. فدرجة فهمنا أو تقديرنا للآية الفنية إنما تعتمد على قدرتنا أن نرى الحقيقة المصورة ببصائرنا. فهو يقول: (إننا حين نستمتع بالعمل الفني الجميل إنما نعبر عن بصائرنا نحن… فحين أقرأ شكسبير فبصيرتي أنا هي التي تكون الصورة الذهنية لهملت أو عطيل).

الفن، إذن، هو عرض الشعور مجسما في صورة ذهنية. وليس الفن هو العمل النفعي العملي، وليس نشاطا خلقيا عمليا، إذ لا يجوز أن نحكم على الفن من وجهة نظر خلقية، وإن كانت على الفنان -من ناحية كونه إنسانا- مسؤوليات خلقية.

ندف الثلج تحت المجهر رائعة الجمال، وما من أحد يدري الآلية التي تجعل كل ندفة ثلج في شكل آخر وزينة أخرى، وتصميم آخر. وقد جمع “د. أ. بنتلي” بعد مجهود دام خمسين عاما ألفي شكل لهذه الندف الثلجية في كتاب أصبح اليوم مرجعا لمصممي المنسوجات وللفنانين ولصانعي الجواهر.

تلك هي نظرية كروتشه في علم الجمال ولكن علينا أن نتذكر أن علم الجمال في نظر كروتشه هو المجال الذي يدرس تجلي الروح في جميع مظاهره، ذلك التجلي الذي تعبر فيه الروح عن نفسها في أمثلة جزئية مجسمة. إذن، فعلم الجمال يشمل بالدراسة كل أنواع التعبير فيما عدا التفكير المنطقي(6).

كما أفرد (ا. س. رابوبرت) وهو دكتور في الفلسفة-فصلا كاملا عن علم الجمال Aestheties في  كتابه “مبادئ الفلسفة”. نوجز رأيه هنا باختصار، فهو يقول: (إن في حواسنا، ولاسيما حاستي السمع والبصر، أليافا بها نشعر باللذة إذا سمعنا بعض الأوصاف أو رأينا بعض المناظر. وصور الجمال -السمعية منها والبصرية- تحدث في نفوسنا هزة طرب. أما القبيح فنشعر تجاهه بنفور وألم). يقول نيتشه: “كل ما كان قبيحا يضعف الإنسان ويقبض صدره، إذ يذكره بالانحطاط والخطر والوهن”.

علم الجمال يبحث في كل هذه الإحساسات، فهو علم الشعور والعواطف والانفعالات.

علم الجمال يحد الجميل والقبيح والجليل والهزلي والفكه ويبحث في السبب الذي من أجله يظهر الشيء جميلا أو قبيحا. يبحث في الجمال المطبوع كما يبحث في الجمال المصنوع، أعني أنه يبحث في الفنون وفي جمال الذات وجمال المعنى، فهو بذلك حلقة الاتصال بين الفلسفة والفن، وهو-فلسفيا- جزء من علم النفس.

عم ينبعث الشعور بالجمال؟ هل هناك جمال قائم بنفسه، أو أن الشعور بالجمال يعتمد على ما نجده من أنفسنا في الشيء وعلى ما يظهر به الشيء أمام أعيننا، ومن ثم كان الصوت أو المنظر يسر إنسانا ولا يسر آخر بل ربما يسوءه؟ ما خواص الحركات والأشياء التي يكون بها الصوت جميلا منسقا يلذ السامعين؟ هل هناك عنصر مشترك في كل ما هو جميل؟ هذه المباحث وأمثالها هي التي يشتغل علم الجمال بدرسها.

والقوة التي بها نميز الجمال ونقومه هي التي نسميها بالذوق، وهي ملكة في الإنسان بها يشعر بلذة الجمال، منحها الناس على تفاوت فيما بينهم يرقيها التهذيب والمدنية في الفرد والمجتمع إلى درجات متفاوتة.

والموضوع الآخر هو: هل الفن يجب أن يخضع للغرض الذي يرمي إليه علم الأخلاق أو أنه فوق ذلك؟ ذهب قوم ومنهم “رسكن” إلى أن الفن يجب أن يكون أخلاقيا، وأن أهم ما يجب على الفنان أن يشرك الناس معه في عواطفه الشريفة، وليس هناك شيء وراء الأخلاق يصح أن يقصد من الفن. وذهب آخرون إلى أن الفن إنما يبحث عن الجميل لا عن شيء وراءه، إنما يهم الفن جمال الشكل، أما الموضوع فليكن ما يكون، ليكن رذيلة أو جريمة. وذهب بعض علماء الجمال إلى أبعد من هذا فقرروا أن “علم الجمال أعلى شأنا من علم الأخلاق” وأن النظر في الجمال والبحث فيه أرقى ما يمكن أن يصل إليه الإنسان، وأن ذوق الألوان أهم في رقي الإنسان من الحاسة التي تدرك الخير والشر(7).

ولا يقتصر الجمال في الطبيعة على ما نستطيع مشاهدته بالعين المجردة، بل هو متغلغل حتى في الوحدات الصغيرة لهذا العالم التي لا ترى بالعين المجردة، فتركيب الخلايا جميل والشريطان اللولبيان لجزيئات A.D.N بديعا التكوين.

والجميل يختلف عن النافع، فليس كل نافع جميلا. فالأنف الكبير نافع لأنه ينفع في إدخال كمية أكبر من الهواء من الأنف الدقيق الجميل، ولكنه لا يعد جميلا. ولكن كل جميل نافع، في الأقل من الناحية النفسية وما يثيره من غبطة ولذة عند المشاهد له.

ولكن أهم خلاف، حسب رأينا، حول الجمال يدور حول السؤال الآتي:
هل الجمال صفة من صفات الطبيعة؟ أم هو موقف المراقب من الطبيعة؟ أي هل هو صفة نضفيها نحن على الأشياء وليس خاصية ذاتية في الطبيعة؟ أم هو صفة أصيلة في الطبيعة؟… هناك نظرتان أو جوابان على هذا السؤال:

كان أفلاطون يرى أن الجمال صفة وخاصية أصيلة في الطبيعة. وكان نيوتن يرى هذا الرأي أيضا ويرى أن أهم عنصر للجمال هو البساطة وعدم وجود زيادات وحشو لا داعي له فهو يقول: “الطبيعة تسرها البساطة، وهي غير مولعة بأبهة الأسباب الزائدة على الحاجة”(8).

ولكن الرأي القائل بأن الجمال حكم للمراقب وليس صفة ذاتية في الطبيعة سادت في أوساط الفلاسفة والمفكرين طوال عصور عديدة بعد أفلاطون. فالفيلسوف الفرنسي “ديكارت” يقول في رسالة له: (لا يدل الجميل ولا البهيج على أكثر من موقفنا في الحكم على الشيء المتكلم عنه).

ويشاركه الفيلسوف الهولندي “سبينوزا” فيقول في رسالة كتبها سنة 1674 إلى أحد أصدقائه: “الجمال ليس صفة في الشيء المدروس بقدر ما هو الأثر الذي ينشأ في الإنسان نفسه الذي يدرس ذلك الشيء”(9).

في العالم الإسلامي فإن موضوع الجمال كان يرد عادة عند شرح الأسماء الحسنى لله تعالى ولاسيما اسم “الجميل”، وعند الحديث عن “الجمال الإلهي” وتجلي الله تعالى لعباده في الجنة حيث تصغر كل بهجة وكل لذة في الجنة أمام لذة تأمل الجمال الإلهي.

ويكرر “تشارلز داروين” الشيء نفسه حول الجمال فيقول: “من الجلي أن الإحساس بالجمال يتوقف على طبيعة العقل بصرف النظر عن أي صفة حقيقية في الشيء محل الإعجاب(10).

ومع أن الجمال غير مقصور على عالم الأحياء، لأن عالم الجماد حافل بصور عديدة للجمال، إلا أن فرويد يحصر الجمال في إطار واحد فقط هو إطار الجنس فهو يقول: “من دواعي الأسف أن التحليل النفسي ليس عنده ما يقوله عن الجمال، وكل ما يبدو مؤكدا أنه مستمد من مجال الشعور الجنسي”. أي: ليس هناك شيء اسمه الجمال، بل إن الطبيعة اخترعت هذا الشعور من أجل التكاثر الجنسي.

ولكن هذا الكلام قاصر وغير مقنع بل هو شديد السطحية. فما علاقة جمال غروب الشمس وهي تعكس أشعتها على السحب بالجنس؟ وما علاقة جمال البحر والنجوم بالتكاثر الجنسي؟ ومن قال بأن الرجل لا يرى الجمال إلا في المرأة، والمرأة لا ترى الجمال إلا في الرجل؟ ولماذا لا يستطيع رؤية الأنواع العديدة من الجمال المبثوثة في الطبيعة؟

إن الذين يرون الطبيعة عبارة عن المادة فقط معذورون عندما لا يدرجون الجمال ضمن خواص الطبيعة؛ لأن المادة ليست لها سوى خواص كمية كالوزن والحجم والشكل والعدد.

هذه النظرة للطبيعة وللجمال أصبحت نظرة قديمة، ذلك لأن للعلوم -ولاسيما الفيزياء الحديثة-الآن رأيا آخر تماما. والغريب أن هذا التحول في النظرة إلى الجمال تم على يد العلم وليس على يد الفلسفة؛ لأن الفكرة السائدة سابقا كانت ترى أن العلوم باردة المشاعر ولا تتعامل إلا مع النتائج المختبرية ومع الأرقام والمعلومات التي يكون الدور الأول والأخير فيها للعقل وللمنطق الصارم، ولا تتدخل في مجال الأحاسيس والمشاعر. وهذا دليل آخر مضاف على أن العلوم أصبحت منذ زمن ليس بالقصير هي التي تقود الفلسفة وتوجهها.

هذه النظرة الجديدة تعد انقلابا عظيما حدث في هدوء شديد ودون ضجة كبيرة… إنه انفتاح لعصر جديد أكثر تقدما وشمولا وأرحب ساحة وأوسع أفقا.

أجل!.. لقد لاحظ العلماء أن الجمال صفة من صفات الكون، بل صفة من صفات قوانين هذا الكون وهذه الحياة كذلك،  إلى درجة أنه -أي: الجمال- أصبح اليوم أداة يمكن الاستعانة بها من أجل الوصول إلى الحقيقة ومن أجل معرفة وتمييز النظرية الصحيحة من بين ركام النظريات المختلفة في موضوع ما. لقد اكتشفوا أن الطبيعة جميلة لذا حدسوا أنه لا بد وأن تكون قوانينها جميلة أيضا. وقد أيدت التجارب صدق هذا الحدس.

والجميل يختلف عن النافع، فليس كل نافع جميلا. فالأنف الكبير نافع لأنه ينفع في إدخال كمية أكبر من الهواء من الأنف الدقيق الجميل، ولكنه لا يعد جميلا. ولكن كل جميل نافع، في الأقل من الناحية النفسية وما يثيره من غبطة ولذة عند المشاهد له.

لقد ثبت هذا عند اكتشاف الكثير من النظريات ومن القوانين… ثبت هذا عند اكتشاف النظرية النسبية العامة، وعند اكتشاف النظرية الكمية، وعند اكتشاف قوانين التفاعلات الضعيفة، وعند اكتشاف التركيب الجزيئي لـ”A.D.N” الحاملة لصفات الوراثة في الأحياء.

يقول “هايزنبرغ Heisenberg” الذي يعد من أكبر العلماء الذين عملوا في ساحة النظرية الكمية:

(إن الجمال في العلوم الدقيقة وفي الفنون على السواء هو أهم مصدر من مصادر الاستنارة والوضوح).

وانظروا إليه وهو يصف النظرية الكمية حيث يقول: (لقد ثبت أن النظرية مقنعة بفضل كمالها وجمالها التجريدي)(12).

ويعترف علماء الفيزياء أن النظرية النسبية العامة لأينشتاين هي أجمل النظريات الفيزيائية على الإطلاق. يقول: “إيرون شرودنغر Erwin Schr.dinger”: “إن نظرية اينشتاين المذهلة في الجاذبية لا يتأتى اكتشافها إلا لعبقري رزق إحساسا عميقا ببساطة الأفكار وجمالها(13) ويشيد اينشتاين نفسه بجمال هذه النظرية إذ يقول في خاتمة مقالته عن الجاذبية: لا يكاد أحد يفهم هذه النظرية تمام الفهم يفلت من سحرها”(14).

ليس هذا فحسب، بل المدهش أن الجمال أصبح معيارا أساسيا في الفيزياء يقدم أحيانا حتى على التجربة. وفي هذا الصدد يقول الفيزيائي الانكليزي المعروف “بول ديراك Paul Dirak”: “إن وجود الجمال في معادلات العلم أهم من جعل هذه المعادلات تنطبق على التجربة”(15).

ولكن كيف يمكن هذا؟

يشرح العالم الفيزيائي “جورج طومسون George Thomson” هذا الأمر الذي يبدو غريبا  للوهلة الأولى فيقول:
(إن المرء يستطيع دائما أن يقدم نظرية، أو عددا كبيرا من النظريات لتفسير حقائق معروفة، بل للتنبؤ بحقائق جديدة أحيانا. والجمال هو الفيصل. فالنظريات بعضها صعب المأخذ ومحدود النطاق وتعسفي. وقلما تدوم هذه طويلا(16).
ويقوم مؤلفا كتاب “المنظور الجديد للعلم” في الفصل الثالث بتقديم شرح واف حول هذه النظرة الجديدة للعلم إذ يقولان:
“… بل إن الجمال يتحدى “الحقائق”. ومن الأمثلة التوضيحية على ذلك واللافتة للنظر ما نجده في بحث علمي قدمه الفيزيائيان “ريتشارد فينمان ومري جيل-مانMurry Gell-Mann” عام   1958 وعرضا فيه نظرية جديدة لتفسير التفاعلات الضعيفة. وكانت النظرية تناقض بشكل صارخ عددا من التجارب. أما الجانب الرئيس الجذاب فيها فكان الجمال. وقال العالمان فينمان وجيل-مان “إنها نظرية عالمية ومتناسقة وهي أبسط الإمكانات، مما يدل على أن تلك التجارب غير صحيحة”.

إن الذين يرون الطبيعة عبارة عن المادة فقط معذورون عندما لا يدرجون الجمال ضمن خواص الطبيعة؛ لأن المادة ليست لها سوى خواص كمية كالوزن والحجم والشكل والعدد.

ويعلق جيل-مان على ذلك بقوله: “غالبا ما يطرح العالم النظري مقدارا كبيرا من البيانات على أساس أنها إذا كانت لا تنسجم مع خطة أنيقة فهي غير صحيحة”. وقد حدث هذا معي مرات عديدة، كما في نظرية التفاعلات الضعيفة: لقد كانت هناك تسع تجارب تناقض النظرية وكلها بلا استثناء غير صحيحة. فإذا كانت لديك نظرية بسيطة تتفق مع سائر قوانين الفيزياء، ويبدو أنها تفسر فعلا ما يحدث، فلا عليك اٍن وجدت كمية قليلة من البيانات التجريبية التي لا تؤيدها. فمن المؤكد تقريبا أن تكون هذه البيانات غير صحيحة(17).

إن الجمال في الفيزياء هو السمة الغالبة. فالتجربة تخطىء في الغالب والجمال قلما يخطىء. فإذا اتفق أن وجدت نظرية أنيقة للغاية لا تنسجم مع مجموعة من الحقائق فهي لا محالة واجدة لها تطبيقا في مجال آخر. فخلال العشرينات من هذا القرن، مثلا، أصبح الرياضي والفيزيائي       “هرمان فيلHerman Weyl” مقتنعا بأن نظريته في القياس لا تنطبق على الجاذبية، ولكنه نظرا لكمالها الفني لم يرد التخلي عنها كليا. وقد تبين بعد ذلك بوقت طويل أن نظرية “فيل” تلقي ضوءا على ديناميكا الكم الكهربائية، فجاء ذلك مصدقا لحسه الجمالي(18).
هل معنى هذا أن العلم ترك مناهجه الدقيقة الصارمة، ودخل في ساحة عاطفية وحسية لا توجد فيها معايير دقيقة ولا مقاييس مضبوطة؟

كلا طبعا!.

فعلماء الفيزياء يشيرون في هذا الخصوص إلى الأسس والعناصر الجمالية التي يجب توفرها في القوانين التي يكتشفونها أو في النظريات العلمية التي يقدمونها. ولعل اينشتاين هو أفضل من أوضح هذه العناصر إذ لخصها في ثلاثة عناصر هي:
1.    البساطة.
2.    التناسق.
3.    الروعة.

فهو يقول: “النظرية تكون أدعى إلى إثارة الإعجاب كلما كانت مقدماتها أبسط والأشياء التي تربط بينها أشد اٍختلافا وصلاحيتها للتطبيق أوسع نطاقا”(19).

فالبساطة إذن هي العنصر الأول من عناصر الجمال. ويقصد بعبارة “الأشياء التي تربط بينها أشد اختلافا” الطريقة التي تنسق بها النظرية بين أمور متباينة. وهكذا نستطيع أن نطلق على العنصر الثاني اسم “التناسق”. واتساع نطاق تطبيق النظرية يراد به روعتها، أي  مدى وضوح النظرية بحد ذاتها وإلقائها الضوء على غيرها من الأشياء. إن العبارة التي استخدمها جيل-مان والتي وردت آنفا نظرية بسيطة تنسجم مع سائر قوانين الفيزياء، ويبدو أنها تفسر فعلا ما يحدث

ويتطلب كل من هذه العناصر شرحا موجزا:

البساطة

“توجد اليوم نظريات أخرى في الجاذبية إلى جانب نظرية اينشتاين، ولكن ما من نظرية من النظريات تؤخذ مأخذ الجد لافتقارها إلى البساطة. ويلاحظ عالم الفيزياء الفلكية (روجر بنروزR.ger Penr.se) أن “معظم النظريات المنافسة ثبت بطلانها بالحجج المقنعة. أما القلة القليلة الباقية فهي على الأغلب مستنبطة مباشرة بحيث تنسجم مع تجارب سبق إجراؤها بالفعل. وليس هناك أي  نظرية منافسة تداني النسبية العامة في أناقتها وبساطة افتراضها”.

ومبدأ البساطة يستلزم شيئين اثنين: الكمال والاقتصاد. ويقول لنا عالم الرياضيات والفيزياء هنري بوانكاريه Henri P.incare: “لأن في البساطة والضخامة كلتيهما جمالا فنحن نؤثر البحث عن حقائق بسيطة وعن حقائق كبيرة”. والنظرية بهذا المعيار لابد لها أن تأخذ في الحسبان كل الحقائق، وألا تشمل إلا على ما هو ضروري. فلا تفريط ولا إفراط. أجل إنه معيار يصعب اٍستيفاؤه. ويقول هايزنبرغ عن نظرية الكم: “لقد اتضح على الفور أنها مقنعة بفضل كمالها وجمالها التجريدي”.

التناسق

“يعلن أينشتاين أنه “لا علم من غير الاعتقاد بوجود تناسق داخلي في الكون”. ويصف هايزنبرغ التناسق بأنه “انسجام الأجزاء بعضها مع بعض ومع الكل”. والنظرية الجيدة في أي  علم من العلوم هي التي توفق بين حقائق عديدة لم تكن فيما مضى تربط بينها صلة. كما أن التناسق يدل ضمنا على التماثل. إن في جميع قوانين الفيزياء تماثلا سارا. يقول ويلر: “إن كل قانون من قوانين الفيزياء مرده إلى شيء من التماثل في الطبيعة”.

لقد لاحظ العلماء أن الجمال صفة من صفات الكون، بل صفة من صفات قوانين هذا الكون وهذه الحياة كذلك.

ويضيف هايزنبرغ “إن خواص التماثل تشكل على الدوام أهم سمات النظرية”. وقانون نيوتن الثالث مثال معروف على التماثل في الفيزياء: “لكل فعل رد فعل معاكس ومساو له”. وهذا التماثل التام موجود على المستوى دون الذري حيث يقابل كل نوع من الجسيمات جسيم مضاد له الكتلة نفسها، ولكن بخصائص معاكسة. بل إن التنبؤ الصحيح بوجود العديد من الجسيمات دون الذرية تم في المقام الأول على أساس هذا التماثل”.

الروعة

“للنظرية التي تتسم بهذه الصفة وضوح شديد في ذاتها. وهي تلقي ضوءا على الكثير من الأشياء الأخرى، موحية بإجراء تجارب جديدة. إن نيوتن، مثلا قد أدهش العالم بتفسيره للأجسام الساقطة، ولظاهرتي المد والجزر، ولحركة الكواكب والمذنبات بثلاثة قوانين بسيطة. ويعلن جورج تومسون: “أنه لأمر جميل في الفيزياء كما في الرياضيات أن تستطيع نظرية من النظريات الجمع بين ظواهر تبدو شديدة الاختلاف، وتبين اتصال الظواهر بعضها ببعض اتصالا وثيقا، أو أن تجمع بين مختلف عناصر الظاهرة الواحدة”. وهذا بالضبط ما تفعله نظرية النسبية العامة بطريقة أنيقة ومدهشة كما يشير إلى ذلك عالم الفيزياء الفلكية “س. تشاندراسيكاS. Chandrasekhar” بقوله: “إنها تكمن أساسا في الربط بين مفهومين جوهريين بوضع أحدهما بجانب الآخر، وهما مفهومان ظلا يعتبران حتى ذلك الحين مستقلين تمام الاستقلال: المكان والزمان من جهة، ومفهومي المادة والحركة من جهة أخرى”. وعلاوة على ذلك، أثبتت النسبية العامة روعتها غير العادية بإلقائها الضوء على علم الكونيات، وميكانيكا الكم.

والنظرة القديمة تذهب إلى أن البساطة وغيرها من عناصر الجمال ليست من قوانين الطبيعة، ولكنها على أبعد تقدير من قوانين العقل البشري. ونيوتن لا يوافق على هذا الرأي، بل يعزو الجمال إلى الطبيعة، لا إلى الإنسان، فيقول: “الطبيعة تسرها البساطة وهي غير مولعة بأبهة الأسباب الزائدة على الحاجة”. وشهادة علماء الفيزياء جلية في هذه المسألة. يقول فينمان: “في الطبيعة بساطة ومن ثم جمال عظيم”. وهو لا يعزو الجمال إلى المشاهد. ويؤكد “ويلر” أن “كل قانون من قوانين الفيزياء مرده إلى شيء من التماثل في الطبيعة”، لا إلى تماثل عقولنا. ويؤكد ماكس بورن أن “الفيزيائي الحقيقي يؤمن إيمانا راسخا ببساطة الطبيعة وبوحدتها رغم أي  ظواهر معاكسة”. وقد قال هايزنبرغ ذات مرة في حديث جرى بينه وبين أينشتاين: “أعتقد مثلك تماما أن لبساطة القوانين الطبيعية صفة موضوعية، وأنها ليست مجرد اقتصاد في التفكير. وإذا كانت الطبيعة تقودنا إلى صيغ رياضية على جانب عظيم من البساطة والجمال فنحن لا نملك إلا الاعتقاد بصحتها، وبأنها تكشف عن سمة حقيقية من سمات الطبيعة.

ويقول الفيزيائي ديفيد بوم David Bohm إن “كل ما يمكن العثور عليه في الطبيعة يكاد يتكشف عن شيء من الجمال في الإدراك الفوري كما في التحليل الفكري على السواء”(20).

فالنظرة الجديدة، إذن، تطرح الجمال معيارا في العلوم؛ لأن الطبيعة جميلة. ومن وجهة النظر هذه فالعالم الذي يعمى عن رؤية الجمال هو عالم ضئيل الحظ من العلم.

إن الجمال في الفيزياء هو السمة الغالبة. فالتجربة تخطىء في الغالب والجمال قلما يخطىء. 

“ولأن الفيزياء في النظرة الجديدة تعترف بأن الجمال خاصية من خواص الطبيعة فهي بذلك تشق طريقا مشتركا بين العلوم والفنون الجميلة. والفيزيائي والروائي (ش. ب. سنو C P. Snow)، بعد خبرته في كل من العلوم والفنون، مؤهل بطريقة غير عادية للتحدث عن الجمال الموجود في كلا المجالين. فهو يقول: “كل من اشتغل في أي  وقت من الأوقات بعلم من العلوم يعرف مدى ما حصل عليه من لذة جمالية. أي: إن أحدنا، في ممارسته الفعلية للنشاط العلمي وفي مسيرته إلى اكتشاف ما، بالغا ما بلغ من التواضع، لا يملك إلا أن يحس بوجود الجمال. فالتجربة الذاتية، تجربة المتعة الجمالية، هي على ما يظهر عين المتعة التي يحصل عليها المرء من نظم قصيدة، أو تأليف رواية أو قطعة موسيقية”(21).

ولكي نعرف مدى أهمية الجمال في حقل الفلسفة أيضا نقول إن العالمين اللذين كتبا كتابا نفيسا حول النظرة الجديدة للعلم سواء في الساحة العلمية أو في الساحة الفلسفية اعتبرا وجود الجمال بهذه الوفرة في أرجاء الكون ولاسيما في أرضنا هذه من أهم البراهين والدلائل على وجود الله. لأن العلم، ولاسيما علم الرياضيات لا يستطيع قبول ظهور كل هذا الجمال وجريان الأمور بشكل غائي عن طريق المصادفات السعيدة(22).

وعناصر الجمال هذه، وهي البساطة والتناسق والروعة عناصر ضرورية في الآداب والفنون كذلك. خذ مثلا جمال الأسلوب في الأدب، أي البلاغة، نجد أن البلاغة في الأدب العربي تعرّف بأنها الكلام الفصيح الخالي من غريب اللغة في مفرداته، والبعيد عن التعقيد في تراكيبه، العاري عن الاستكراه والثقل وكل شيء يفوت على القارئ سهولة الفهم والإدراك.

القرآن الكريم يشير إلى العديد من صور الجمال الذي بثه الخالق في أرجاء الكون وفي الأرض خاصة. والملفت للنظر أن اسم “الجميل” هو من الأسماء الحسنى لله تعالى الذي يذكر أنواع هذا الجمال كآيات دالات على عظمته وقدرته وعلمه غير المحدود.

يقول الدكتور عبد الرزاق محي الدين في تعريف البلاغة: (… كما أن من أبجديات البلاغة العربية ومن المأخوذ في صلب “بلاغة الكلام” أن يكون الكلام مطابقا لإدراك السامع مناسبا لحالته مسايرا لقابلياته الثقافية)(23).

وفي كتاب (البلاغة الواضحة) لعلي الجارم ومصطفى أمين نجد تعداد عناصر البلاغة: (فعناصر البلاغة إذاً لفظ ومعنى وتأليف للألفاظ يمنحها قوة وتأثيرا حسنا، ثم دقة في اختيار الكلمات والأساليب على حسب مواطن الكلام ومواقعه وموضوعاته)(24).

ولكن لم يمنع هذا التعريف للبلاغة من ظهور أدباء في تاريخ الأدب العربي اهتموا بالزخرفة اللفظية وبغريب اللغة وبتكرار المعنى نفسه باستعمال المرادفات، من أمثال عبد الحميد الكاتب في العهد الأموي وبديع الزمان الهمذاني والحريري في العهد العباسي. ولكن البلاغة الحقة كانت في أسلوب الجاحظ وأبي حيان التوحيدي والإمام الغزالي. فقد ابتعد هؤلاء عن الزخرفة اللفظية واهتموا ببساطة الأسلوب وصفائه ووضوحه. وتبدو عبقرية الإمام الغزالي في أنه استطاع إيضاح المعاني الفلسفية العويصة والمعقدة بأسلوب سلس وواضح. وقد انتقد بعض المتمسكين بزخرفة الألفاظ أسلوبه هذا ووصفوه بأنه ضعيف فأجابهم الإمام: (أنه لم يُعن بالألفاظ وتنميقها، بل بالمعاني وتجويدها)(25).

بالنسبة إلى الجمال في القرآن فنقول إن أسلوب القرآن جميل وجليل ومهيب في الوقت نفسه وهو الذي يجعله أسلوبا فريدا يعجز عنه البشر. وقد كُتب العديد من الكتب والرسائل قديما وحديثا حول بلاغة القرآن وإعجازه وحول أسرار جمال أسلوبه وجلاله والجوانب الفنية في تصويره فمن عبد القادر الجرجاني في القرن الخامس الميلادي وكتابيه “دلائل الإعجاز” و”الرسالة الشافية” إلى سعيد النورسي في كتابه “دلائل الإعجاز في مظان الإيجاز” وسيد قطب في “التصوير الفني في القرآن”، ومن الزمخشري إلى مصطفى صادق الرافعي والدكتور فاضل صالح السامرائي وغيرهم وغيرهم… كلهم صنفوا العديد من الكتب في هذا الموضوع الذي لا يزال هناك متسع للكتابة فيه.

والقرآن الكريم يشير إلى العديد من صور الجمال الذي بثه الخالق في أرجاء الكون وفي الأرض خاصة. والملفت للنظر أن اسم “الجميل” هو من الأسماء الحسنى لله تعالى الذي يذكر أنواع هذا الجمال كآيات دالات على عظمته وقدرته وعلمه غير المحدود. وقد سبق أن ذكرنا بأن العلماء والفلاسفة يعدون وجود الجمال في العالم من أعظم الأدلة على وجود الله وعلى عظمته،لأن المدارس الإلحادية لم تستطع تفسير الجمال بنظرية التطور التي تؤمن بها. فهذه النظرية تقول إن التطور يحدث نتيجة الحاجات المادية ونتيجة الضرورات، وهذا لا يفسر نقشة واحدة على جناح فراشة، أو زخرفة واحدة على جناح طائر. وقد سبق وأن شرحنا هذا الأمر.

يتفق النورسي مع أفلاطون بأن الجمال شيء إلهي، وهو مرادف للخير وهو ظل خفيف من الجمال المطلق. فهو يقول بأن الجمال تجلي من تجليات الأسماء الحسنى في الكون وفي مرايا الموجودات. 

من هذه الآيات قول الله تعالى:
(وقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين) (الحجر: 16)، (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ، يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالاَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ ءلايَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (النحل: 10-11)، (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ ءلايَاتٍ لِقَوْمٍ يُومِنُونَ)(الأنعام: 100)، (وَالاَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَاكُلُونَ)(النَّحْلِ: 5)، (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الاَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ)(غافر: 64)، (وَالاََنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَاكُلُونَ، وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ)(النحل: 5-6)، (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً)(الْكَهْفِ: 7)، (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ ءامَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الاَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)(الأَعْرَافِ: 30).

وقوله تعالى(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا اَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ اََلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ)(فَاطِرٍ: 27)، (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ وَالاَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ، وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ، وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ)(ق: 6-10)، (يَا بَنِي ءادَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الاَعْرَافِ:29).

إذن، فالله تعالى يسترعي انتباهنا إلى أنواع الجمال التي بثها في هذا العالم وزينه بها… من نجوم متألقات في السماء، ونباتات خضر وجنات من أعناب ونخيل وزيتون ورمان، وحيوانات بديعة الصنع والتركيب، وإنسان قد صور فأحسن خلقه وتصويره، وحب متراكب وطلع منضود، وجبال جدد بيض وحمر وغرابيب سود… إلخ. ويطلب منا أن نعتني بمظهرنا الذي يستحب أن يكون أنيقا، ولاسيما عندما نؤم الجوامع ليتحد هناك جمال العبادة والروح مع جمال المظهر.

ولا توجد إشارات الجمال هذه لا في التوراة ولا في الإنجيل، وقد لا توجد في كتب الأديان الأخرى أيضا. لذا يمكن عد القرآن فريدا في هذا الموضوع أيضا بين جميع الأديان.
ويعد بديع الزمان سعيد النورسي أكثر المفكرين المسلمين تناولا للجمال في العصر الحديث، لذا لا بد من الإشارة إلى نظرته عن الجمال بإيجاز:

يتفق النورسي مع أفلاطون بأن الجمال شيء إلهي، وهو مرادف للخير وهو ظل خفيف من الجمال المطلق. فهو يقول بأن الجمال تجلي من تجليات الأسماء الحسنى في الكون وفي مرايا الموجودات ولاسيما تجلي اسم ” الجميل” وحب الجمال إحساس فطري وضعه الله تعالى في نفس الإنسان. فهو يقول: “لقد جُبل هذا الإنسان على محبة غير متناهية لخالق الكون، وذلك لأن الفطرة البشرية تُكن حبا للجمال وودا للكمال، وافتتانا بالإحسان. وتتزايد تلك المحبة بحسب درجات الجمال والكمال والإحسان حتى تصل إلى أقصى درجات العشق ومنتهاه”(26).

وكل أنواع الجمال سواء في هذه الدنيا أو في الآخرة هي تجلي من تجليات جمال الله الذي لا يمكن للعقل الإنساني إدراكه حق الإدراك:

“نعم!… إن كانت الجنة الباهرة الرائعة مع جميع مظاهر حسنها وروعتها هي تجل من تجليات جماله سبحانه، وإن رؤية أهل الجنة جماله تعالى لساعة من زمان ينسيهم حتى تلك الجنة الجميلة، فلا شك أن هذا الجمال السرمدي لا نهاية له، ولا شبيه له، ولا نظير له، ولا مثيل له قطعا”(27).

والجمال على أنواع عنده فهناك الجمال في العالم المادي وهناك الجمال في العالم المعنوي والروحي والعقلي أيضا: “… فمثلا الجمال الذي تحس به العين لا يشبه حتما الجمال الذي تحس به الأذن. وإن حسنا عقليا يدركه العقل لا يشبه حسن الطعام الذي يحس به الفم ويتذوقه. كذلك الجمال الذي يستحسنه ويشعر به القلب والروح وسائر الحواس الظاهرة والباطنة… هذا الجمال مختلف كذلك كاختلاف تلك اللطائف والحواس”.

إذن، فهو يضيف الجمال المعنوي والجمال الروحي إلى قائمة الجمال: ومثلا: جمال الإيمان وجمال الحقيقة وحسن النور وحسن الزهرة، وجمال الروح وجمال الصورة وجمال العدالة وحسن الرحمة وحسن الحكمة… كل نوع من أنواع هذا الجمال مختلف عن الآخر. كذلك جمال الأسماء الحسنى للجميل ذي الجلال. هذا الجمال الذي هو جمال مطلق يختلف بعضه عن بعض، لذلك اختلفت أنواع الحسن والجمال في الموجودات.

فإن شئت أن تشاهد جلوة من أنواع حسن أسماء الجميل ذي الجمال المتجلية على مرايا الموجودات، فانظر بعين خيالية واسعة إلى سطح الأرض لتراها كحديقة صغيرة أمامك(28).

الهوامش :

———————————————————————————————-
1.    انظر: “العلم في منظوره الجديد The New Story of Science”،  تأليف:Robert M.Augros  وGeorge N.Staniu. ترجمة د. كمال خلايلي، من سلسلة “عالم المعرفة” ص 71-72.
2.    انظر: “مبادئ الفلسفة” تأليف ا.س. رابوبرت. ترجمة أحمد أمين، ص55.
3.    م. س.
4.    انظر:
Aristotle, On the Parts of Animals,  p. 657
5.    انظر:
Aquinas ,The Pocket Aquinas, ed.Vernon J.Bourke (New York: Poket Books, 1960), p.263
6.    انظر: “قصة الفلسفة الحديثة” تصنيف أحمد أمين وزكي نجيب محمود، ص381-384.
وانظر كذلك إلى “الموسوعة الفلسفية المختصرةConsise Encyclopeddia of Western Philosophy
ترجمها للعربية: فؤاد كامل وجلال العشري وعبد الرشيد الصادق وراجع الترجمة وأضاف إليها شخصيات إسلامية الدكتور زكي نجيب محمود، ص.
7.    انظر: “مبادئ الفلسفة” فصل “علم الجمال” تأليف ا. س. رابوبرت. ترجمة أحمد أمين. ص   49-60.
8.    انظر:
”  Newton, p. 399 “Rules of Reasoning”.
9.    انظر:
Baruch Spinoza, letter to H. Boxel, Sep. 1674, نقلا عن :Tartarkiewicz, Histiry of Aesthics,  الجزء الثالث، ص380.
10.    Charles Darwin, The Origin of Species and The Desent of Man (New York: Modern Library,nd), p. 147
11.    Sigmund Freud, Civilization and Its Discontents.trans. James Strachey (New York: Norton, 1962) P. 30.
12.    Werner Heisenberg, ”The Meaning of Beaty in the Exact Sience”in Across the Frontier(New York:Harper&Row,1974),p.183
13.    Erwin Schrodinger, Nature and the Greeks (Cambridge: Cambridge University Press, 1954) p. 23.
14.    المصدر رقم: 1، ص49.
15.    المصدر السابق، ص47.
16.    Sir George Thomson, The Inspiration of Sience (Oxford University Press, 1961) p. 17.
17.    المصدر رقم: 1، ص47.
18.    المصدر السابق، ص48.
19.    Albert Einstein, ”Autobiographical Notes” in A.Einstain: Philosopher- Scientist, ed. Paul Scilpp (New York: Harper & Row, 1959), p. 33.
20.    االمصدر رقم: 1، ص48-50.
21.    المصدر السابق، ص51.
22.    انظر إلى فصل (الله) وفصل (الجمال) أي إلى الفصلين الثالث والرابع من كتاب (العلم في منظوره الجديد) الذي تم ذكره أعلاه.
23.    نقلا عن كتاب (أسطورة الأدب الرفيع) للدكتور علي الوردي.
24.    انظر: (البلاغة الواضحة) تأليف علي الجارم ومصطفى أمين، ص9.
25.    (أسطورة الأدب الرفيع)، ص62.
26.    انظر: “المكتوبات” المكتوب التاسع والعشرون لبديع الزمان سعيد النورسي.
27.    انظر: “الشعاعات” لبديع الزمان سعيد النورسي، ص89.
28.    انظر: المصدر السابق، ص89-90.