عند قدمَي الحبيب صلى الله عليه و سلم

أَسناءُ الشّوق تتعالى من قلبي لتعانق سماءَ محمد صلى الله عليه وسلم … وفيضُ الحنين الذي يملأ روحي سلالِمُ ضوء تأخذني نحو آفاق روح محمد صلى الله عليه وسلم . وخيالُ فؤادي العميد سحابة نور تَحملني إلى قِمَم الصفاء حيث ألتقي سماوات محمد صلى الله عليه وسلم وأحتويها في صدري وأَضُمُّ عليها حنايا روحي، فإذا أنا مرتفع على الوجود كُله بموضعي من قدمَي محمد صلى الله عليه وسلم … وإذا بالروح المحمديّ العظيم يتمثل لي نوراً ساطعاً كأسياف الفجر، يشقُّ سُدفة القلب المظلم، ويَسطع في جنبات النفس كشهاب يتلهّب، خارقاً هشيم الضعف البشري، عاصفاً بِخَوَرِ الروح، صاهراً قيودَ النفس المكبّلة بأغلال رَغائبها، باعثاً الحماس في الذات المنسحقة تحت وطأة همومها، ومَضَضِ أفكارها، وقد سكب في أُذُن روحي هذا النشيد الهادر، وهذا الهُتاف الذي يُذكي نضال الروح، ويُؤجّج كفاح القلب من أجل انعتاقه من قبضة الظلام، وتَحرره من عبوديات الزمن، وهذا هو الهتاف الذي وَعَتْهُ روحي، وهتف به لساني:
أبداً أردتكم يا أحبّاء قلبي أحراراً طلقاء من كل قيد، لا يستعبدكم إنسان، ولا يكبلكم فكر، ولا تستذلكم طواغيت الأرض؛ لأنكم أنتم الوعي العالي للإنسانية، والروح الأمين القوّام على عوالم فكرها وروحها وقلبها.
فقد تساميتُ بكم فوق عبوديات المكان والزمان، ورفعتكم فوق حتميات التاريخ، لترصدوا من آفاقكم العالية تحولات الإنسان وتصححوها، وتراقبوا صيرورات الزمن وتوجهوها، وتخططوا لمسيرة البشرية، وتقودوا مسار الحضارات عبرَ العصور والأزمان، فأنتم -لو عرفتم أنفسكم كما أردتكم وأرادكم الله- أقوى من كُلِّ تيار، وأسمى من كل فكر، وأعظمُ من كل حضارة.
ولكنكم اليوم تتوارون خارج الزمن، وتقبعون في زوايا النسيان، وتتفيأون ظلال الموت، وكأني لم أفجّر في قلوبكم يوماً عِزَّ العبودية لله، ولم ألهب في دمائكم وهج السمُوِّ والارتفاع، ولم أَحملْ إليكم يوماً السماء بكل أنوارها وأشواقها ورحمتها لتكون نافذتكم في جدار الوجود، والقِمَّة التي تراقبون منها انسياب نور الإيمان، ودبيب ظلام الكفر على أرض العالم.
أوَّاه -يا أشقّاء قلبي- لقد لامس نواح أرواحكم المدحورة في معارك الضمير مصاريع أبواب السماء،
ورَشَّتْ دماء قتلاكم في معارك الروح أجنحة الملائكة، وأنا رسولكم -محمد بن عبد الله- خسرتُ بعض معارِكي، وذقتُ مرارة الانكفاء والانحسار، ولكني أبداً لم أعرف خَوَرَ الروح وانسحاق النفس، وأبداً لم تنطفئ شعلة الجهاد في قلبي.
وعندما نتفيأ ظلال النصر تحت غابةٍ مِن سَنا سيوفنا المشرّعة بالحق من أجل حماية الإنسان الربّاني المتفوّق، حلم الأجيال، وشوق خيال البشرية، فلتُزَمْجِر إذن في ذواتكم أُسُود التحدي لأقفاص العالم، ولتتسعر نفوسكم بأقباس من روح «بلال» إمام المتحدِّين، وسيّد الرافضين، الذي كان إذا تنفس أحرق بأنفاسه اللاهبة كل ما وضعته أباطيل العالم من قيود للروح والفكر والوجدان، والذي أشعل بنار «أَحَد.. أَحَد» كل ركامات البشرية من أوهام الدهور، وخرافات السنين والأحقاب، وأضاء بنور «أَحَد… أَحَد» جوانب الإخاء الإنساني المطمور تحت رماد من فوارق المال والجنس والسلطان بين بني الإنسان.
أيُّ طاقات هائلة تكمن في نفوسكم يا أتباع رسالتي، وأيُّ قوىً عظيمة تختفي في طيَّات ذواتكم، وأيُّ بحار وَضَّاءة من الإدراك الروحي قد هدأتْ أعماقُها في أعماقكم وهي تنتظر مَنْ يهيجها بعواصف روحه، ويُحركها بقاصف من رعود سمائه.
لقد أودعتكم أثمن كنوزي، وصَبَبْتُ في أرواحكم مُذابَ روحي، وسكبتُ في قلوبكم معصور قلبي، وأضواء فكري، وأورثتُكم حياتي، نبعاً إنسانياً فيّاضاً ترفده ينابيع السماء، وتمازجه أنوار الوحي، لتكون سلّماً للطامحين إلى السموِّ وقِمَّةً للمتشوقين إلى القمم، ومناراً للتائهين في بحار ظلمات الحياة.
حَطِّموا زِنزانات نفوسكم.. اهدموا جُدران أرواحكم.. سَرِّحوا ضمائركم من قيودها، وارتفعوا بها طليقة من كل ما يُخْلِدها إلى الأرض ويَدُّسُها في التراب، لتتعالى في سماء الله حيث مَغاصُ الحرية، وسلالم الانعتاق من كل عبوديات الأرض.
يا أمتي، يا خير أمة أُخرجت للناس! إنَّ دموعكم تتساقط في قلبي، وأشجانكم تهزُّ عوالم غبطتي، وليالي عذابكم تُدمي سماوات أفراحي. فَمَن غيرُ القرآن يكفكف دمعكم، ويغسل جراحاتكم، ويمسح عذاب أيامكم، ويفتح كوى النور في جدران وجودكم؟!
لا تَفزعوا من تبعات وجودكم، ولا تَخافوا من أفكار قلوبكم، فإن القلب المفكر أجدى على البشرية من ألف عقل مُظلم لا ينفث إلا غِسلين حُمقه وشكّه وظلماته.
لا تُشفقوا -يا صِحاب الإيمان- من أثقال كلمة «لا إله إلا الله» فإنّها الكلمة التي أذن لها الله أن تكون العقل لجنون كل قلب، والفكر لاضطراب كل نفس، والمحرك الذي يدير محركات التحليق في أجنحة الإنسان، والمفتاح الذي يُفتحُ به كلُ بابٍ مغلق في الطبيعة والكون والحياة.
ألا هل بلغت…؟ اللهم فاشهد…