علومنا الإسلامية والسياق الكوني المعاصر -1

منذ اكتمال نـزول الوحي والتحاق الرسول صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى، عكف المسلمون -خلفًا عن سلف- على كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم تدبرًا وتفكرًا واستنباطًا واستلهامًا، باعتبارهما مصدرَي التشريع اللذين ينبغي أن تدار أمور الحياة كلها وفقًا لهدايتهما وإرشادهما.

وقد اختلفت علاقة المسلمين بكتابهم وسنة نبيهم تمثلاً وتأسّيًا باختلاف العصور والأجيال، فلم تكن الحاجة قائمة على عهد الصحابة رضي الله عنهم إلى تدوين العلوم وضبطها وتقعيدها؛ إذ كان العلم سلوكًا والتزامًا، فلما دعت الحاجة إلى التدوين حين كثر اللحن وتجرأ أناس على النصوص، نهضت همم العلماء لتدوين هذه العلوم، فكانت الكتب والمدونات الأولى المؤسسة في كل علم، ثم تواتر التأليف بعد ذلك شرحًا واختصارًا واستدراكًا واستئنافًا للنظر، غير أنه حريّ بالذكر أن النشاط التأليفي المتصل باستئناف النظر، كان هو الأقل.

ولقد كان مدار كل هذه العلوم في البداية، على النص نشأة وتداولاً، حيث كانت في منطلقها متمثلة له علمًا وعملاً، مما جعلها تنفتح بهدايته على الكون وعلومه، وعلى الإنسان ومعارفه، وتشيّد عالميتها الرائعة الأولى، والتي تجلّت فيها فعلاً أبرز خصائص الوحي، وعكست -بقدر طيب- نوره وإشعاعه في الهداية والرحمة والعدل والحرية والأمن.. كما تجلت فيها أيضًا، كثير من القيم العليا المزكية للإنسان والبانية للعمران.

1- في ضرورة تمثل خصائص عالمنا المعاصر

إن النظر في موضوع “علومنا الإسلامية في ظل المقتضيات المستجدة المستحدثة التي أضحت تؤثث عالم اليوم، تفرض علينا استحضارًا تامًّا لمقتضيات تسعة باتت من خصائص العالم المعاصر، وهي:

المقتضى الأول: ظاهرة “التبلور” و”التجوهر” لكوكبة من اللغات الحية التي أصبحت بمثابة ما يمكن تسميته بـ”المفاعل” اللغوي والتواصلي لعالم اليوم؛ وفي صلبها اللغة العربية، والإنجليزية، والصينية، والفرنسية، والإسبانية. فقد بدأ العالم يخرج من واقع برج “بابل” إلى واقع آخر جديد يتفاهم فيه البعض مع البعض الآخر.

المقتضى الثاني المتمثل في الموجة التطويرية الثالثة التي هي “النانوتكنولوجيا” التي نقلت إدراكنا من الاقتصار على العالم متناهي الكبر، إلى العوالم متناهية الصغر، مما فتح إمكانات هائلة في مجال الفاعلية والتسخير لم يتَبين مداها بعدُ، وكذا القيم الكونية التي بدأت تتشكل، والبعد الحقوقي الموحد، حيث أصبح من الممكن اختراق الجمعيات والخصوصيات بشكل غير مسبوق.

أما المقتضى الثالث فيتمثل في الهم البيئي المشترك، الذي جعلنا -بدافع الاحتباس الحراري والكوارث الطبيعية الأخرى- نعي لأول مرة في تاريخنا البشري وبشكل واقعي، أننا فوق مركبة موحدة يتحتم علينا أن نشتغل بطريقة مشتركة للحفاظ عليها.

أما المقتضى الرابع فيتمثل فيما أفرزته تكنولوجيات الاتصال والإعلام الحديثة التي انبثقت من صلبها جملة من الظواهر؛ كظاهرة “المواقع الاجتماعية” التي نحتت نحوتًا ناتئة في الجوانب الهوياتية، بسبب الإيقاع السريع والفاعلية الكبيرة اللذين فرضا على عالمنا.

وقد عرف عالمنا أيضًا، ظاهرة جديدة تتمثل في القدرة على بلورة مواقف، ورؤى وآراء وأذواق مشتركة، بسرعة كبيرة لم يعهدها العالم من قبل؛ حيث ظهرت موجة جديدة من الآراء المشتركة والتوجهات المتقاسمة، تنتج عن ذلك انبثاق قدرة على نحت تيارات مستوعبة ومستقطبة، كان من تجلياتها ما عرفه عالمنا العربي في السنوات الأخيرة. وهو ما كان يستلزم في السابق سنوات بل عقودًا.

المقتضى الخامس، وفي ظل هذا المقتضى الرابع، انبثق مقتضى خامس، يتمثل في أن البشر يوجد فوق كويكب يمر تيار التأثير والتأثّر بين جنباته بيُسر بالغ، حتى أضحت مشاكلُ الجميع مشاكلَ الجميع.

أما المقتضى السادس فيتصل بالمنظومة الحقوقية وبالحريات، مما أصبح له سريان في الدساتير والقوانين الدولية العامة والخاصة، وأصبح يمثل توجهًا متوافقًا عليه بين البشر، مما وجب استحضاره واستدماجه في كافة أبعاد الكسب الحضاري بمختلف تجلياته.

أما المقتضى السابع فيتجسد في المنظومة القيمية الكونية (Global Ethics)، وهي ظاهرة تواشج القيم مع بعضها البعض في أفق تشكيل منظومة قيمية مشتركة، مما سوف يكون له -بدون شك- أثره البالغ على أضرب التماسك الاجتماعي على الصعيد العالمي.

في حين يتمثل المقتضى الثامن في المحاولات الحثيثة الرامية إلى إيجاد نظام اقتصادي وثقافي وسياسي شامل، وهو نظام من شأنه أن يكون كُلّيًّا، حيث سوف يكون من الصعب جدًّا أن يتم إسهام أهل حضارة معينة فيه برؤية كلية مستبطنة من مرجعيتهم، دون أن يأخذوا بعين الاعتبار هذه المقتضيات.

المقتضى التاسع وهو ظاهرة انصهار الأنساق المعرفية، والأطر المرجعية، والمركبات المفاهيمية التي باتت تتبلور في شكل مجمعات مفاهيمية تشبه “أحياء المدينة” التي يتحكم وصلها بطرقات ودروب للعلاقات العضوية بين هذه المركّبات، ومن هنا انبثقت مرحلة “القبة المفاهيمية والمرجعية لـ “Christen Dom” و”Islam Dom” و”Budhist Dom”، أي تلك القباب المفاهيمية والمرجعية الشاخصة في عالمنا الجديد، والتي بتأثيرها وتوجيهها يتم التعاطي بين مختلف الحضارات في عالمنا.

2- انفكاك العلوم الإسلامية من النص المؤسس

حين تنفك العلوم الكونية من مصدرها الكون، يكون اندحارها. هل تتصور علم البيولوجيا (La Biologie) بدون الرجوع إلى الكون وإلى الكائنات الموجودة فيه؟! هل تتصور علم البوتانيكا (La Botanique) في انفكاك عن النباتات وعن الكائنات التي هي موضوع هذه العلوم؟!

هل تتصور علم فيزياء (La Physique) دون الرجوع إلى الكون؟! وللتذكير فإن هذه العلوم الكونية، ما أخذت بُعدها الحقيقي إلا بعد أن أحدث القرآن نقلة المقاربة الآياتية وتفكيك المجملات من خلال القدرة على تسمية الأسماء، ونقلة عرض العقل البشري باعتباره مكتشفًا ومستنبطًا ومنظّمًا للعلوم وللمعرفة، وليس مولِّدًا لهما من خلال قوله تعالى: (قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ)(العنكبوت:19)، وقوله سبحانه: (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً)(الإسراء:12)، وغيرها من الآيات التي تحض الإنسان على السير في الأرض، والنظر إلى المعطيات لصياغة العلوم، واكتساب المهارات والخبرات.

وحين حدثت هذه النقلة، ظهرت قضية الجبر والمُقابلة في الرياضيات، أي التسديد والتقريب، واكتشف الصفر كما اكتشفت اللوغاريتمات وغير ذلك مما لا يتسع المقام للإفاضة فيه، كل ذلك من خلال الارتباط بالكون الذي هو موضوع هذه المعارف والعلوم والردّ إليه، انطلاقًا من هذه النقلة التي أحدثها القرآن المجيد.

تصوّر معي، لو أن هذه العلوم انفكت عن الكون، ماذا كانت سوف تكون النتيجة؟!

الأمرُ لا شك بالخطورة نفسها حين يكون انفكاك العلوم الإسلامية عن الوحي، حين انفصل علم أصول الفقه عن الوحي من خلال توقّف الحوار مع الآيات ومع الأحاديث، كان من الآثار المباشرة لذلك، الانحسار فيما سبق من الاستنباطات باعتبارها مصدر هذا العلم، فأصبح اشتغال من تلا من العلماء منحبسًا في جهود من سبقهم شرحًا وتحشية وتذييلاً، عوض أن يكون هذا الاشتغال منصبًّا على الحوار مع النص المؤسس، استفهامًا واستلهامًا واستكشافًا واستنباطًا.

وحين انفصلت علوم التفسير عن الآيات المفسّرة وانحسرت في التفسيرات التي سبقت، دون تفكير في تطوير مناهج استنطاق الوحي والحوار معه، انطلاقًا من تمظهرات واقع الإنسان المختلفة التي تبرز معها حاجات متجددة، وتستدعي حلولاً مستأنفة من القرآن المجيد، حصل نوع من الجمود في علوم التفسير، وأصبح سقفها محددًا بسقف المجامع التفسيرية التي ألفها العلماء الأماجد السابقون الذين أدّوا الذي عليهم، وكان على الذين من بعدهم أيضًا تأدية الذي عليهم بدورهم.

وكذا الشأن في سائر العلوم الإسلامية، حيث آثار هذا الانفصال بارزة في المناهج والنتائج. فحين يكون انفكاك هذه العلوم، من المعطيات والآيات التي في الوحي، فإنها تصبح علومًا نظرية مبنية على التفريعات والتخريجات المهَوِّمة في التنظير. وجب أن تكون هذه العلومُ إذن، متصلةً بمصدرها الذي هو الوحي، كما أن العلوم الكونية متصلةٌ بمصدرها الذي هو الكون، وإلا فالسلبية والانحسار.

ومن هنا فإن ثلاث مشاكل رئيسة تعترضهم اليوم:

المشكلة الأولى: هي كيف يُفقه النص، وما هي آليات وضوابط فقه دينامي متجدد ووظيفي للنص؟ وكيف يمكن التمييز بين الثابت في اجتهادات السابقين وبين ما هو قابل للتحول والتغير؟ وقد سبق أن قال ابن القيم في كتابه “إعلام الموقعين”، فصل في تغير الفتيا بتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والعادات والأعراف، قال: وهو فصل عظيم النفع جدًّا قد دخل على الناس من فرط الجهل به ضررٌ عظيم. فما هي آليات وضوابط التمييز بين الجوانب الثابتة والجوانب القابلة للتجدد في الفقه الإسلامي؟ وكيف يمكن لفقيه الشريعة الإسلامية أن يطور آليات ومنهجيات التعامل مع هذه الجوانب كلها بنفس مقاصدي يروم جلب المصالح ودرء المفاسد باتزان؟

المشكلة الثانية: هي كيف يُفقه الواقع بكل سماته وبكل تمظهراته بالغة التعقيد والتركيب والتشابك، دون أن يكون هناك جور على أي سمة من السمات، احتذاء بقول من قال: ينبغي أن نجعل كل شيء، أبسط ما يمكن وليس أبسط مما يمكن، وبأية مناهج وبأية آليات؟ وما هي التكوينات التي يقتضيها كل ذلك؟

المشكلة الثالثة في كيفية تنزيل أحكام النص المطلق المتجاوز المهيمن، بطريقة متوازنة على هذا الواقع المتقلب المتغير العيني المشخص؛ موازنة بين الأفعال، وترجيحًا بين المصالح والمفاسد في ضوء وعي شديد بوجوب اعتبار المآلات والعواقب، حتى لا تُجلب مفسدة عوض المصلحة التي كانت مقصودة، أو تُفوَّت مصلحة أكبر من أجل مصلحة أدنى.

وهو ما يستنبط من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه إمامنا مالك من طريق عائشة رضي الله عنه، والذي فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لولا حَدَثَانُ قَوْمكِ بالكفر لَهدمْتُ الكعبةَ، ولَصيَّرْتُها على قواعد إبراهيم”(1). ففوت عليه الصلاة والسلام هذه المصلحة (إعادة إقامة الكعبة على قواعد إبراهيم) حتى لا يجلب مفسدة هي أرجح من هذه المصلحة (أي افتتان الناس)، لأنهم لا يزالون مرتبطين بعالم الأشياء على حد تعبير مالك بن نبي.

غير أن التعامل مع هذه المشاكل الثلاث في أفق حلها، لا بد له من مقتضيين منهاجيين:

المقتضى الأول: هو المنطلقات التي ينطلق منها الفقيه المسلم؛ أي الباراديغمات (Paradigmes) والنماذج المعرفية. فينبغي أن يكون من الواضح، أن الفقيه المسلم يريد تحقيق مرضاة الله، وتحصيل السعادتين العاجلة والآجلة للجنس البشري، ويريد إشاعة التكامل بين أفراد المجموعة البشرية، ويريد إشاعة التكامل بين أفراد المجموعة البشرية؛ هذه الأسرة الإنسانية الممتدة، لأنه قد سادت في أزمنة معينة نماذج أخرى، فيها من الانسحاق أو الانغلاق ما فيها.

وإن من الباراديغمات والنماذج المعرفية التي يحق للمسلمين أن يفخروا بها؛ النموذج التعارفي المنطلق من قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)(الحجرات:13)، وهو نموذج يسعى بوازعه الإنسان المسلم -ذكرًا كان أو أنثى- إلى تحقيق التعاون والتكامل بين أفراد الأسرة الإنسانية الممتدة. إنه نموذج يتجاوز النموذج المعرفي القائم على مجرد التسامح. فالتسامح يستدمج بين طياته، أن هذا الآخر في درجة أدنى ولكن أنا أتسامح معه، أو أخطأ وأنا أتسامح معه. بيد أن التعارف، فيه الحاجة المتبادلة والاحتياج المتبادل؛ مما يفسح المجال أمام التكميل والإثراء المتبادلين بين العالمين، عوض التنافي والصراع.

المقتضى المنهاجي الثاني: هو تحديد آليات التعاطي مع هذه المشاكل الثلاث، وتبين العلاقة الجدلية بين النماذج المعرفية التي تُشكل المنطلقات وبين الآليات المستعملة، من أجل تحقيق الغايات المستهدفة أو الأهداف المتغياة.

فالآليات، رغم ما قد يتبادر إلى الذهن من أنها محايدة، ليست كذلك، فلا يجوز الوقوف فقط مع شرط الفعالية في الآليات، وإنما وجب أيضًا، أن يتم التأكد من تماديها وتناغمها مع المنطلقات ومع النماذج المعرفية التي تشكل المنطلقات والمبادئ والقيم التي تحملها حضارة معينة ودين معين.

 

(*) الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء / المغرب.

الهوامش

(1) أخرجه مالك في الموطأ، كتاب الحج، باب ما جاء في بناء الكعبة، حديث رقم:104.