يعترف الباحثون اليوم بصعوبة الوقوف على تعريف موحد للإبداع، ولعل أول أوجه هذه الصعوبة تكمن في درجة التعقيد التي ينطوي عليها الإبداع، مما دفع “ماكينون” للاعتراف بأن الإبداع لا يمكن وصفه بتعريف محدد، على اعتبار أنه ظاهرة متكاملة ذات وجوه متعددة، إلا أن معظم الباحثين يذهبون إلى عدِّه ضربًا مفارقًا من ضروب الذكاء، إذ إن الإبداع يتطلب في أبسط أشكاله نوعًا من تجاوز المألوف.

فالخيال الواسع يمكنه من اكتشاف علاقات جديدة بين الأشياء أو العناصر لم تكن موجودة من قبل، كما يساعد هذا الخيال النشط على تصميم نماذج جديدة، وصياغة أطر مبتكرة.

فإذا كان الذكاء يعرّف بأنه القدرة على حل المشكلات، فإن الإبداع يتجاوز هذه القدرة إلى قدرة أخرى ترقى إلى استبصار طرق ومناهج جديدة في إيجاد الحلول على نحو غير معروف من قبل. كما وضع البعض شروطًا أخرى للتفكير الإبداعي، ومنها أن يتضمن هذه التفكير قدرًا من الدافعية والحماس لتحقيق الأهداف، وإيمانًا عميقًا بجدواها العملية.
ولا يقتصر الإبداع على مجال واحد من مجالات التفكير، بل يتعداه أيضًا إلى مجالات الفن والموسيقى والجمال التخيلي، إذ يتميز المبدعون عادة برهافة الحس، والقدرة على الإدراك العميق لكل ما يدور من حولهم. والإبداع أيًّا كان -فكريًّا أو أدبيًّا أو فنيًّا- يحتاج إلى عوامل مهيئة تساعد على نموه، فهو يتطلب تربة خصبة وصحية، لتنبت فيها بذوره التي لو لم تجد رعاية وعناية خاصة فلن يُكتب لها الحياة. فالمبدع بحاجة إلى أجواء نفسية صحية تتناسب وصفاته الشخصية، من رهافة الحس وسعة الخيال والذكاء والحرية، فلا يعقل أن يحيا المبدع في بيئة تسودها العقد النفسية، والضجيج والأمراض النفسية، ويسيطر عليها الروتين، والمنافع الشخصية، والمحسوبيات، وتسودها الأحقاد.
ونؤكد هنا على شخصية المبدع؛ إذ المبدع من طراز خاص، يمتاز عن غيره من البشر بصفات خاصة تجعله جديرًا بأن يكون مبدعًا، وأولى هذه الصفات الإحساس المرهف، ذلك الإحساس الذي يجعله يشعر بما لا يشعر به الآخرون من غير المبدعين، وينتبه إلى ما لا ينتبه إليه غيره. ويتصف المبدع -كذلك- بالخيال الواسع والذكاء والحرية، بالإضافة إلى ما حباه الله به من موهبة الإبداع.
فالخيال الواسع يمكنه من اكتشاف علاقات جديدة بين الأشياء أو العناصر لم تكن موجودة من قبل، كما يساعد هذا الخيال النشط على تصميم نماذج جديدة، وصياغة أطر مبتكرة، ولا يتأتى له ذلك إلا بالذكاء والفطنة. وباختصار، فالمبدع شخص عبقري من طراز خاص، إذن فالمبدع شخص مرهف الإحساس متمرد على واقعه، يدفعه طموحه وخياله الواسع إلى ارتياد آفاق جديدة وإنتاج شيء جديد مبتكر، بما وهبه الله من موهبة وذكاء وفطنة.
إن المبدع في الأصل شخص موهوب، لكنه لا بد أن ينمي موهبته ويصقلها بالتجارب، وهو في حاجة ماسة إلى حرية حقيقية، لينفلت من إسار الواقع والتقليد، ويحلق إلى آفاق جديدة، وليبحر صوب المجهول، ولذا فإن التقاليد الصارمة، والموروثات النمطية والحدود المصطنعة والروتين، كلها مواد سامّة تصيب المبدع في مقتل وتقضي على إبداعه، بعد أن تكبله وتسجنه وتشل تفكيره وخياله.

إن المبدع في الأصل شخص موهوب، لكنه لا بد أن ينمي موهبته ويصقلها بالتجارب، وهو في حاجة ماسة إلى حرية حقيقية، لينفلت من إسار الواقع والتقليد.

وما من شك في أن دور الأهل هام وحيوي في اكتشاف مواهب أطفالهم في مرحلة مبكرة من عمرهم ورعايتهم لها وتنميتها، وهناك مثالان فقط من أمثلة عديدة أُذكّر بها الأهل بدورهم في صنع العباقرة والمدعين ورعايتهم؛ وهما الموسيقي العبقري “موتسارت” والعالم الفذ “آينشتاين” الذي قامت اختراعات القرن الماضي على اكتشافاته. فقد لاحظ والدا الطفل “موتسارت” أن ابنهما البالغ الثالثة من عمره، وأخته التي تكبره والتي توفيت فيما بعد، يعشقان الموسيقى، فماذا فعل الأب الذي تعلم في المدارس حتى سن العشرين، وتخرج في المدرسة ليعمل موسيقيًّا؟
بدأ يعلم أولاده العزف على البيانو، وعندما بلغ “موتسارت” الخامسة، صحبه أبواه في جولة في أوروبا، وكان “موتسارت” يعزف على البيانو أمام الجمهور في هذه السن الصغيرة، ورفض والده أن يلحقه بالمدرسة العادية حتى لا يقتل موهبته هو وأخته، وحتى عندما مرضت أخته، كان “موتسارت” يدخل عرفته ويعزف أروع الألحان الحزينة ولم يمنعه أبواه أبدًا عن ذلك.
كان “موتسارت” موسيقيًّا موهوبًا، يمتلك كل أدوات الموهبة والتي يمكن أن تجعله موسيقي عصره والعصور التالية حتى يومنا هذا. فقد كان يسمع اللحن أو السيمفونية التي يكتبها في عقله وبداخله قبل أن يخط حرفًا واحدًا منها على الورق. وكانت لديه مقدرة فائقة على تخيّل رد فعل المستمعين، وحالتهم النفسية عند سماع موسيقاه، على الرغم من أنه لم يكن يذكر سوى في موسيقاه فقط، والتي لمست القلوب وحلقت بالأرواح من سحرها وجمالها، ولولا وجود هذا الأب الواعي والأم المتفهمة لـ”موتسارت”، ربما ماتت موهبته بالسكتة القلبية أو بجلطة مفاجئة من أستاذ فاشل في المدرسة لا يعرف قيمة هذه الموهبة ولا يقدرها.
أما المثال الآخر فهو العالم “ألبرت آينشتاين” الذي لم يكن يتوقع أحد يوم أهداه والده “بوصلة” وهو في سن الرابعة من عمره، أن تكون هذه البوصلة هي كلمة السر التي أخرجت ماردَ حب الاستطلاع العلمي بداخله، وأن تستحث قدراته ومواهبه على التخيل والابتكار والسباحة مع الخيال، حتى أنه كان يتخيل نفسه بعد أن كبر قليلاً، شعاعًا من الضوء يسير بسرعة الضوء، ثم تخيل ما يمكن أن يراه ويرويه لوالده الذي كان يعمل بائعًا للأدوات الكهربائية ويعيد تركيبها، ويتخيلها بشكل آخر وإمكانيات أخرى.
وعندما بلغ آينشتاين الثانية عشرة من عمره، أهداه عمه كتابًا في الهندسة، وكان ذلك الكتاب بالنسبة له مثل “مصباح علاء الدين السحري” الذي أدخله إلى عالم الرياضيات والحيز والفراغ. ثم أهداه أحد أقاربه الذي كان طالبًا في كلية الطب بعض الكتب الطبيعة لـ”فرويد” “كانت”، فأصبح على الطبيعة وهو عشه الأول والأخير إلى جانب الرياضيات.
وكان “آينشتاين” في ذلك الوقت في المدرسة، إلا أن مدرسيه كانوا يعاملونه على أنه تلميذ عادي أو أقل من المتوسط، باستثناء مادتي الرياضيات والطبيعة التي كان يحصل على الدرجات النهائية. وعندما وصل “آينشتاين” إلى المرحلة الثانوية رأى مدرسوه أنه طالب عنيد وجامح باستثناء مدرسه اليوناني الذي كان يدرس له الفيزياء أو الطبيعة، الذي نصحه بأن يترك هذه المدرسة التي لا تتناسب مع طموحه وقدارته في العالم.
وبعد عام التحق “آينشتاين” بمدرسة أخرى تعتمد على الفهم والرؤية والعقلية أكثر من الحفظ، وبعد عام آخر التحق “آينشتاين” بالأكاديمية متعددة الفنون في “زبورخ”، والتي قبلته فورًا، بناء على اختبارات تم إجراؤها له في الرياضيات والطبيعة. وبدأ يمارس داخل هذه الأكاديمية حرية التفكير والإبداع والتخيل والاختراع وحب الاستطلاع من خلال الإمكانيات المتخصصة الموجودة بها. وأصبح “آينشتاين” أبرز علماء القرن الماضي بعد سلسلة من النجاحات والإخفاقات والصعاب، من خلال الوصول إلى نظرية النسبية وغيرها من الفتوحات العلمية الهائلة.

(*) رئيس قسم الفلسفة والاجتماع، كلية التربية، جامعة عين شمس / مصر.