كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم مليئان بما يدعو إلى الأمل، وترقب الفرج، والتفاؤل بكل ما هو قادم. فالله عز وجل أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم سورة الشرح وهو والمسلمون في أشد الأحوال من الضنك، مما يحل بهم من أذى قريش وتضييقها، فقال سبحانه مخاطبًا رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ * فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا)(الشرح:1-6).
ويلاحَظ في هذه الآيات أن الله عز وجل قدَّم تذكير رسوله بالنعم التي تفضل بها عليه، ثم انتقل منها إلى البشارة باليسر بعد العسر. ولعل ذلك -والله أعلم- كي نستفيد من دلالة الاقتران بينهما أن النعمَ المصاحبة للشدائد داعيةٌ للعبد إلى ترقب الفرج من الله تعالى، وعدم اليأس والقنوط من رَوْحِه عز وجل.
وقد قال ابن عباس رضي الله عنه في تفسير هذه الآية: “لن يغلب عسر يُسرين”؛ وهو يشير بذلك إلى كون “العسر” جاء مُعَرَّفًا بـ”أل” في الآيتين، وهذا يعني أن المُشار إليه في المرَّتين عسرٌ واحد ولا يعني تكررُ اللفظ هنا تكررَ معناه، كما جاء “اليسر” في الآيتين مُنَكَّرًا غير مُعَرَّف وهذا يعني أن المشار إليه في الآيتين من “اليسر” متعدد وليس واحدًا. والفائدة التي ابتغى ابْنُ عباس تقريرها، هي تعدد دواعي اليسر ومصاحبتها لكل ما يصيب العباد من عُسر، وأن هذه الدواعي هي الغالبة، وإليها المنتهى بإذن الله.
لكن سورة الشرح لا تتوقف ههنا، بل تختتم بأمرين عظيمين من الله عز وجل، الخطاب في سياقهما موجه للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن حكمهما منصرف إلى كل أمته تبعًا؛ فهي(الأمة) مكلَّفة به، لا سيما حين تكتنفها المصائب وتتطلب الفرجَ والنصرَ من ربها الذي يقول: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ)(الشرح:8)؛ أي إذا فرغت من صلاتك فاتعبْ في دعائه ومساءلته، مستصحبًا الرغبة والضراعة، فإن محافظة الأمة على صلاتها وكثرة ضراعتها إليه وحده، هما سبيل النجاة من ابتلائه.

إذا كان أعداء اليوم يُدْلُون باجتماع كلمتهم وامتلاكهم سُبُل الانتصار المادية كما كان من سبقهم من المجرمين يفعلون، فإن الله وعد بهزيمة الجمع وانتصار عباده المخلصين.

وقد جاءت آيات غير هذه، خُوطِبت الأمة بها أصالة لا تبعًا: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)(الأعراف:55).
وهناك أيضًا أحاديث تدعو إلى الأمل والرجاء، منها قول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي وحسنه: “مَثَلُ أمتي مَثَلُ المطر لا يُدرى أولُه خيرٌ أم آخره”، وهذا الحديث لا يُعارض الثابت من تفضيل أهل القرون الثلاثة من حيث الجملة على من بعدهم، لكنه -كما يقول أهل العلم- يؤكد عدم انقطاع الخيرية عن هذه الأمة، وفي هذا بشارة عظيمة تدعو إلى استصحاب التفاؤل والرجاء.
وفي ذلك الحين الذي كان فيه المسلمون بـ”مكة” يقاسون ما يقاسونه من كفار قريش، نزل قوله تعالى يخبر أن من سُنَنِه الكونية هلاك المجرمين وبطلان كيدهم: (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ * أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ * سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ)(القمر:43-45).
فإذا كان أعداء اليوم يُدْلُون باجتماع كلمتهم وامتلاكهم سُبُل الانتصار المادية كما كان من سبقهم من المجرمين يفعلون، فإن الله وعد بهزيمة الجمع وانتصار عباده المخلصين.
وهناك حديث عن المصطفى صلى الله عليه وسلم يُسَاق دائمًا للدلالة على أحد أسرار ما فيه الأمة الإسلامية من ضعف وذل، لكنه يتضمن أيضًا بشارة تبعث الأمن والأمل، وذلك هو قوله صلى الله عليه وسلم: “إذا تبايعتم بالعِينَة وأخذتم أَذْناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد، سلَّط الله عليكم ذُلاًّ لا يَنْزِعه حتى ترجعوا إلى دينكم” (رواه أبو داود)؛ والحديث جاء في مساق الإخبار، وكما أن ما ورد فيه من الذل المتسلط وقع على الأمة باقترافها أسباب وقوعه التي أخبر بها الحديث، فلا محالة أن انتزاع هذا الذل سوف يتحقق بإذن الله تعالى بتحقيق الأمة لأسبابه، وهي مراجعتها دينها. فهذا الرجوع إلى الدين واقع لا محالة، وكثيرًا ما يكون تقدير المصائب والبلاءات على الأمة لحكمةٍ لا يعلم حقيقتها إلا هو، لكن التدبر والتأمل فيها قد يوصلك إلى أن إلجاء الناس إلى ربهم هو من جملة تلك الحكم، كما قال تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلاَ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(الأنعام:42-43).
فالأخذ بالبأساء رجاء أن تتضرع الأمم وترجع إلى ربها وتتخلى عما ابتليت به من معصيته، إنما هو من جملة سُنَنِه الكونية سبحانه وتعالى، وكما قال سبحانه: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ)(محمد:31).
ولا ريب أن العمل الدؤوب في الجوانب المادية من سياسية وصناعية وتقنية وزراعية واجتماعية لا يُشاحّ أحد في مسيس الحاجة إليها في بعث الآمال ومن ثم تحقيقها، لكن يجب أن يبقى رجوع الأمة إلى ربها ومراجعتها دينها العامل الأول في أسباب تغلبها على مصاعبها، ويجب أن لا يُنظر لهذا العامل على أنه واجب دعوي أو جهد مشايخي وحسب، فإن هذه النظرة -في تقديري- من الأسباب القوية في تأخر استجابة الأمة لمراد ربها منها ومن ثم تأخرها في تحقيق آمالها، بل الواجب أن يُجعَل هذا العامل قالبًا لجميع إستراتيجيات الإصلاح في جميع البلاد الإسلامية. فإن جميع مشاريع الإصلاح التي لا تدخل ضمن سياق إعادة الأمة لحقيقتها الدينية، سوف يكون الإصلاح الناتج عنها جزئيًّا لا يلبث أن يؤدي إلى مفاسد أكبر وأضر من التي كانت من قبل، هذا إذا لم يفشل قبل أن يتحقق منه أيّ أثر.
وعلى عكسه كل إصلاح مادي يوضع في سياق إعادة الأمة إلى التزامها الديني، فإن حظه من الانسجام مع تاريخ الأمة ودينها وآمالها، سيجعله بعيدًا عن إثارة المتناقضات التي هي غالبًا أساس فشل كل مشاريع الإصلاح في العالم. فإن المخططين الإستراتيجيين يعلمون بالتجربة أن سرَّ فشل مشاريع الإصلاح المتنوعة، هو ظهور تناقض بينها وبين بيآتها، ومشروع الأمة الذي يجب أن تقدمه للعالم، هو مشروع لا ينفصل فيه الهدف الأسمى للأمة وهو استعبادها لربها عن غايتها الأرضية، وهي الاستعمار في الأرض كما قال تعالى: (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ)(هود:61)؛ ففي الآية من اقتران الاستعمار في الأرض بالاستغفار والتوبة، ما يفضي التدبر فيه إلى تقرير كون الإصلاح الدنيوي يجب أن يكون ضمن السياق الصحيح لتعبيد الإنسان لله على هذه الأرض.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) أستاذ في أصول الفقه، جامعة أم القرى / المملكة العربية السعودية.