قصة الأساطيل الإسلامية قصة شائقة وممتعة، تشعرنا بالفخر، وتذكرنا بالأمجاد، وتثبت أنه بالإرادة القوية والعزيمة تتذلل العقبات والأهوال. فلم يكن للمسلمين أسطول قبل عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه الذي يُعد أول حاكم مسلم يهتم بصناعة الأساطيل. والعجيب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه الفاتح العظيم والشجاع الكبير، لم يحب ركوب البحر، ولم يشجع عليه؛ فقد ألحَّ عليه معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه حينما كان واليًا على الشام، أن يأمر بركوب البحر وغزو الروم في حمص، إلا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبى وأقسم بالله الذي بعث محمدًا بالحق أن لا يحمل فيه مسلمًا أبدًا. وفي عهد “عثمان” رضي الله عنه كرر “معاوية” رضي الله عنه الإلحاح في طلبه بركوب البحر، حتى استجيب لطلبه، حيث وجه الخليفة إليه الأمر ومعه عبد الله بن أبي السرح رضي الله عنه بالتعاون لتوفير كل الإمكانات اللازمة لبناء أسطول بحري إسلامي، لصدِّ هجمات الروم على سواحل مصر والشام لتأمين حدود الدولة الإسلامية برًّا وبحرًا. وقد صدَّ هذا الأسطول هجمات الروم ومنها موقعة “ذات الصواري” عام 34 هجريًّا، التي جمع الروم فيها جيشًا بلغ عدد سفنه خمسمائة سفينة لمحاربة المسلمين؛ فأمر معاوية رضي الله عنه قائدَه عبد الله بن أبي السرح بالتوجه إليهم، فالتقى بهم في عرض البحر، ودارت بينهم معركة عظيمة هُزم فيها الروم ودُمر أسطولهم وقُتل منهم الآلاف، وتأمنت حدود الدولة الإسلامية بهذا الانتصار، وحببهم في ركوب البحر، وأوحت لهم بفكرة بناء أسطول كبير تكون له السيادة على البحر المتوسط. وقد استحالت الإسكندرية إلى دار عظيمة لصناعة السفن، واستُخدِم فيها العمال المصريون ممن أتقنوا الصنعة على أيدي الروم، وأخذت السفن الإسلامية أشكالها من سفن الروم التي استولى عليها عمرو بن العاص رضي الله عنه في واقعة الإسكندرية، وأبلى المسلمون بلاءً حسنًا، وأثبتوا أنهم في البحر -كما في البر- قوة وعزيمة وحب في نصر دين الله.

ويُعدُّ معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه أول خائض غمرات البحار. ويبرز اسم عبد الله بن قيس الفرازي في هذا المضمار، فقد استعمل أميرًا على البحار، وغزا أكثر من خمسين غزوة ما بين شاتية وصائفة.

وكلمة أسطول ليست عربية الأصل، ولكنها يونانية معرّبة، ولا أحد يعرف بالتحديد الوقت الذي استُعملت فيه تلك اللفظة، ولا أول من استعملها، ولكن الشواهد تشير إلى أن الكلمة اليونانية دخلت إلى اللغة العربية بعد اتصال العرب بالروم، واستعملت في كتب المؤرخين المسلمين، وزاد استعمالها عند المتأخرين منهم.. وذكرها المقريزي في مواضع كثيرة من كتابه “الخطط والآثار في مصر والقاهرة والنيل”، وورد ذكرها كثيرًا في تاريخ ابن خلدون في عدة مواضع. وقد تغنى شعراء العرب والمسلمين بالسفن، وتفننوا في وصف الأسطول، وبلغوا في ذلك شأوًا بعيدًا، لا سيما شعراء الأندلس والمغرب منهم، واستعملها ابن هانئ الأندلسي شاعرُ المعز لدين الله الفاطمي وواصف أساطيله. وورد وصفها أيضًا في مدائح أبي نواس للخليفة الأمين بن الرشيد، وقال البحتري:

يسوقون أسطولاً كأن سفينه

سحائب صيف من جهام وممطر

وتعتبر قصيدة علي بن محمد الأيادي التونسي، من غرر القصائد في وصف الأساطيل ومطلعها:

أعجب لأسطولِ الإمام محمدٍ

ولحسنهِ وزمانــــــــــــــهِ المستغرب

لبست به الأمواجُ أحسنَ منظرٍ

يبدو لعينِ الناظرِ المستعجب

وفي عهد بني أمية، بعث عبد الملك بن مروان إلى عامله على إفريقيا حسان بن النعمان يأمره بإنشاء دار لصناعة الأساطيل في تونس على غرار ما حدث في مصر. ثم يأتي عبيد الله بن الحبحاب واليًا على إفريقيا سنة 114 هجريًّا، فيوسع دار الصناعة التي أنشأها حسان بتونس ويغزو صقلية سنة 122 هجريًّا. ولم يهتم خلفاء بني العباس بهذه الصناعة إلا حين نزل الروم إلى دمياط المصرية؛ فقد كان “المتوكل” خليفة و”عنبسة بن إسحاق” واليًا على مصر، وكان الروم واقفين للمسلمين بالمرصاد، فانتهزوا يوم عرفات سنة 238 هجريًّا وغزوا دمياط، وقتلوا وسبوا عددًا من المسلمين. فاهتم “المتوكل” بصناعة الأساطيل التي كانت قد أصابها الإهمال زمنًا.

ويعد هذا أول انتعاش للبحرية الإسلامية، فقد وضعت قوانين للبحارة، ورتبت لهم الأرزاق، وانتخب لهم القواد العارفون بالمحاربة، وتنحى عنها الجهلاء الجبناء، وأصبح الشرف الأسمى أن ينتسب المرء إلى الأسطول الذي كان لرجاله مكانة مميزة. وكانت الإسكندرية وتونس قاعدتين مهمتين من قواعد الأسطول الإسلامي، تخرج منهما السفن للغزو، وتُوقِع بملوك الإفرنج، وتثخن ممالكهم كما يقول ابن خلدون.

ويروي المقريزي في خططه أن أساطيل الإسلام كانت كثيرة الهجوم على بلاد العدو، وكانت تسير من مصر ومن الشام ومن إفريقيا. وتفوَّق الأسطول الشامي -في القرن الرابع الهجري- على الأسطول الفاطمي في شمال إفريقيا في الكفاية والعدد. وعلى الرغم من أن الأسطول الفاطمي غزا جنوبي فرنسا ومدينتي “جنوه” و”بيزا”، فإن الأسطول الشامي استطاع هزيمة الأسطول المصري، فانهزمت ثمانون سفينة فاطمية أمام خمس وعشرين سفينة شامية في سنة 301 هجريًّا. وعلى كل حال، لا يُنسى فضل الفاطميين على الأسطول المصري وعنايتهم به؛ فلقد واصلوا إنشاء المراكب بالقاهرة والإسكندرية ودمياط، وسيّروها إلى بلد الساحل مثل صُور، وعكا، وعسقلان، وأكثروا من بناء دور لصناعة الأساطيل.

وكانت الأساطيل الإسلامية -كغيرها من الأساطيل حينذاك- تسير بالشراع والمجاديف، ولا يدخل الحديد في بنائها. وكانت البندقية تمدّ المسلمين بالخشب اللازم لهياكل السفن وصواريها، ولكن الإمبراطور الروماني احتج على دوق البندقية فتوقف “البنادقة” عن بيع الخشب الصالح لصناعة السفن للمسلمين، مما أثر في الإنتاج البحري عند المسلمين. وزاد الأمر سوءًا ذلك الحريق الهائل الذي وقع في أسطول الفاطميين في زمن العزيز الفاطمي، واعترف صناع الروم بأنهم هم الذين أحدثوه. وحدثت أزمة في صناعة الأساطيل ظهر أثرها فيما صنعه الوزير عيسى بن نسطورس في مصر من خشب السقائف ودور الحكومة لإعداد أسطول آخر.

ولقد فطن صلاح الدين الأيوبي إلى أهمية الغابات في صناعة الأساطيل، فراقبها مراقبة دقيقة، وعيَّن الحراسَ عليها حتى لا يستعمل الناس خشبها في شؤؤنهم الخاصة، واستنبت نوعًا من شجر السنط، وبلغ عدد الأسطول الإسلامي شأنًا عظيمًا في عهده. وكان المسلمون في حاجة مُلحة إليها؛ لاستيلاء الصليبيين على أكثر السواحل الشامية، وبلغت السفن حدًّا عظيمًا من ضخامة الهيكل وارتفاع الجُدر في ذلك العصر. ويذكر المؤرخ الإنجليزي “جون كارنوك” أن “قلب الأسد” ملك إنجلترا، لما استولى على قبرص وغادرها إلى الشام في مائتي سفينة، لاقى في طريقه سفينة ضخمة للمسلمين تحمل ألفًا وخمسمائة بحار -وهو عدد لم يشهد الفرنجة مثله في زمانهم- وهذا يدل على مبلغ ما وصلت إليه صناعة الأساطيل الإسلامية من تقدم. وبعد عصر صلاح الدين، قلّت العناية بالأسطول إلى أن جاء الملك “الظاهر” في منتصف القرن السابع، فاهتم بصناعة السفن وأشرف عليها بنفسه، حتى استرد بعضًا من القوة في هذه الصناعة، إلا أنها لم تبلغ ما كانت عليه في عصور التوسع والفتح. وقد غزا “ابن حسون المصري” قبرص في القرن السابع، واستخدم المكر والدهاء الحربي، حيث كان يرفع على مراكبه الصُلبان فيظنها العدو من سفنهم فتدخل الحيلة عليهم، وهو بذلك يتخذ شعار الحرب خدعة، منهجًا له.

بعد هذا المرور السريع على قصة الأساطيل الإسلامية، نأمل أن تعود أمجادنا في هذه الصناعة إلى سابق عهدها، متخذين من العلم والتكنولوجيا سبيلاً لتقدمها ورفعتها.

 

(*) كاتب وباحث مصري.