سورة الأنعام عمارة البناء القرآنـي

تمتاز هذه السورة الكريمة بمزاياها الخاصة، كما تمتاز كل سورة من سور التنزيل الحكيم بما حباها الله تعالى من مزايا. وبذلك تكتمل أركان عمارة البناء القرآني، حيث تتكامل مزايا هذه السور مع نسيج بعضها البعض لتنتج عن ذلك مزية القرآن المجيد كوحدة متكاملة.
تستمدّ من ثنايا هذا التكامل مَعالِم التجدّد القرآني مع كل حقبة بشرية جديدة، فيُتاح لها أن تستكشف وتستشرف في القرآن ما لم يستكشفه وما لم يستشرفه غيرُها، وتقرأ في القرآن مالم يقرأه غيرُها، حتى يُتاح لها أن تنجز ما لم ينجزه غيرُها. وبذلك فإن المُنجَز البشري الجديد، يستند إلى المُستَكشَف القرآني الجديد، ذلك أن الإنسان لا ينفصل عن الله، ولا يبتعد عنه مهما مضى الزمن، ومهما تعاقبت الأجيال البشرية وما دام ثمة جديد في الإنسان. فإن الله -عز وجل- يمدّه بمعارف جديدة حتى يُقدّم من خلالها منجزات جديدة لمقتضيات سيرورة إيقاع الحياة وفق كل عصر بشري جديد. ذلك أن التنزيل الحكيم فيه هذا الحساب، حساب كل جيل في استكشاف وإنجاز ما هو جديد، وبذلك تتجدّد الحياةُ برمّتِها، وتلبث قابلة وجديرة بالعيش، لأن عجلة الحضارة الإنسانية، تكون في عملية تقدّم وازدهار.

إن كل آية تجعلك ترفع نظرك لتنظر إلى آيات الكون، وتنهض لتسير في الأرض كي ترى قبسات من جمال الله في مخلوقاته.

إشراقات ليلة النزول

بعد خمس سور مدنية -وفق ترتيب المصحف العثماني- تأتي سورة ُالأنعام التي أُنزلت ليلاً على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكّة. وهي السورة الخامسة والخمسون، وفق ترتيب النزول، حيث أنزلت بعد سورة الحجر، وقبل سورة الصافات.
وهذا يعني بأننا مع آيات هذه السورة الكريمة، سنكون في أجواء بدايات نشر الدعوة الإسلامية، تلك البدايات الصعبة التي مرّ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومرّ بها صحابته الكرام رضوان الله عليهم حتى تمكّنوا من وضع اللبنات الأساسية لهذا الدين.
وهذا يُتيح لنا أن نقف على عين الواقع، نتغلغل في تفاصيل وقائع الحياة اليومية التي كان العرب يعيشونها قبل بزوغ فجر الإسلام عليهم. إننا نتعرّف على كل شيء ككتاب مفتوح دون حرج، وهذا ما يتميّز به القرآن الكريم، ذلك أنه كِتاب مفتوح على كل الآفاق دون حرج.
فالقرآن هنا يكون حائلاً بين العرب، وبين ذاك الماضي الذي وثقته، وصوّرته الآيات القرآنية، وهم سيلبثون على ما كانوا عليه في أي زمان أو مكان. إن تجنّبوا العمل بهذا القرآن، فالنزعات هي هي والعرب هم هم. والمغيِّر الوحيد هو القرآن، والتخلّي عن هذا المغيِّر، يعني أن كل شيء يعود إلى ما كان عليه. ولا يعني حضور القرآن كظاهر، بل حضوره كمضمون، ولا يعني مجرّد قراءة المبنى، بل العمل بالمعنى، فدومًا يقترن الإيمان بالعمل الصالح الذي يُفعّل هذا الإيمان ويجعل له معنى.

كَرامةُ الأنعام

حملت هذه السورة اسم الأنعام، وهي كلمة ينشرح لها الصدر، وتُذَكِّر أول ما تُذَكِّر بالنعومة والنِعمة واللّين. فعندما توافق على شيء، تقول: “نَعَمْ”. وذلك يعطي للسامع انطباعًا إيجابيًا، لأن نَعَمْ فيها إيحاء بالنِعمة. وتقول: “نِعمَ الرجل ونِعمَ المرأة”، وذلك يعني أنهما على نعمة الأخلاق، ونعمة القيم فتتوسم فيهما الخير.
أمّا الأنعام، فهي ما أنعَمَ الله تعالى به على الإنسان من: الإبل والبقر، والضأن والماعز. كي تُغني حياة الإنسان على الأرض، وينتفع بها، وهذه الأنعام تغتني بكثير من المنافع، وليس للإنسان غِنى عنها، فهي من المصادر الأساسية التي يتغذى بها الإنسان قبل كل شيء.
فالمواد الأساسية التي يحتاجها بدن الإنسان متوافرة في هذه الأنعام، فهي من المصادر الأساسية للحليب، وكل ما يُمكن أن يُشتقّ منه، ومِن مصادرِ الصوف، وكل ما يُمكن أن يُشتقّ منه، والإبل تُعدُّ مِن وسائلِ الركوبِ، وحمل ِالأمتعة ِفي الصحراء، والطرقات الوعرة. إضافة إلى كون هذه الأنعام من المصادر الأساسية للّحوم، حيث تحتوي على كميات كبيرة منها، وينتفع بها الناس في التجارة والتربية.
وهي تنتمي إلى صنف الحيوانات الناعمة القابلة للتربية، والاستئناس والألفة، حيث يألف لها الناس، ويستأنسون بها وحتى مظاهرها توحي بالسلم، وهي حيوانات مُسالِمة، لا تؤذي أحدًا، وكل ما فيها نفع في نفع، حتى الروث، فإنه يُستخدم كنوع من الأسمدة في المزروعات، فتكون مرغوبة، ويُقبل الناس عليها ولا يكاد يخلو بيت في الأرياف، والقرى والمناطق، بل حتى بعض الأحياء في المدن الكبيرة والصغيرة، من هذه الأنعام نظراً لِما تنتجه مِن فوائدَ جمّة، فهي تدر أشكال النِعَم على الناس، وهم ينعمون بما تدر عليهم من هذه النِعَم، وقد ذُكِرت كلمة الأنعام ست مرات في هذه السورة الكريمة، منها ثلاث مرات في آية واحدة هي: (وَقالوا هـذِهِ أَنعامٌ وَحَرثٌ حِجرٌ لا يَطعَمُها إِلّا مَن نَشاءُ بِزَعمِهِم وَأَنعامٌ حُرِّمَت ظُهورُها وَأَنعامٌ لا يَذكُرونَ اسمَ اللَّـهِ عَلَيهَا افتِراءً عَلَيهِ سَيَجزيهِم بِما كانوا يَفتَرونَ) (الأنعام:138)
وذُكرت ثلاث مرات في: (وَجَعَلوا لِلَّـهِ مِمّا ذَرَأَ مِنَ الحَرثِ وَالأَنعامِ نَصيبًا فَقالوا هـذا لِلَّـهِ بِزَعمِهِم وَهـذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِم فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّـهِ وَما كانَ لِلَّـهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِم ساءَ ما يَحكُمونَ)(الأنعام:136)، وقوله تعالى: (وَقالوا ما في بُطونِ هـذِهِ الأَنعامِ خالِصَةٌ لِذُكورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزواجِنا وَإِن يَكُن مَيتَةً فَهُم فيهِ شُرَكاءُ سَيَجزيهِم وَصفَهُم إِنَّهُ حَكيمٌ عَليمٌ)(الأنعام:139)، وفي قوله تعالى: (وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) (الأنعام:143)
فكرّم الله تعالى الأنعام بأن حملت هذه الآية الكريمة اسمها، وذلك بمثابة التذكرة للناس كي ينتبهوا إلى مدة نعمة الله عليهم من خلال هذه الأنعام، وهم ينتفعون بمنافعها، وألاّ يكون ذلك بشكل آلي، بل وهم يستخدمون هذه المنافع، عليهم أن يذكروا نعمة الله ويشكروه عليها.

حملت هذه السورة اسم الأنعام، وهي كلمة ينشرح لها الصدر، وتُذَكِّر أول ما تُذَكِّر بالنعومة والنِعمة واللّين.

مِساحةُ الإيمان

هذا جانب من الجوانب التي تُعلّمك إياها قراءتك المتأنيّة لسورة الأنعام الكريمة، فلا يكون نظرك مقتصرًا على ظاهر الكلام فحسب، بل إن كل آية تجعلك ترفع نظرك لتنظر إلى آيات الكون، وتنهض لتسير في الأرض كي ترى قبسات من جمال الله في مخلوقاته. فعندما تقرأ، لا تكتفي بالقراءة فقط، وتغمض عينيك بل عليك أن تقرأ، وتنظر وتتفكّر وتستنير، وإلاّ لو أمضيتَ عمرك كله في القراءة، ما نفعك ذلك في شيء، واعلم أن القرآن أُنزِل ليُغيّر، والقراءة هي وسيلة للتغيير، وليست قراءة للقراءة قال الله تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ)(الإسراء82) وقوله تعالى (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)(محمد24)
فعلى القراءة النظريّة أن تُحيلك إلى الحياة العمليّة، وعندها يقوى نَظرُك، فترى ما لا يراه غيرُك، وكذلك تستمتع بما لم يستمتع به غيرك، وتستنير بما لم يستنر به غيرك. وكما أن القراءة تُحيلك إلى الخَلق، فإن الخلق أيضًا يُحيلك إلى القراءة، في علاقة تكاملية بين ما تقرأ، وما تنظر وما تستنتج.
لذلك سوف نرى أن السورة لا تقتصر على الأنعام فحسب، بل تتسع إلى جوهر العقيدة والتوحيد، والعلاقة بين الله والإنسان، وبين الإنسان والطبيعة. أي أنها سورة اكتشافية، تجعلك تكتشف ما لَم تكتشفه، وتنتبه إلى ما لم تنتبه إليه.
بمعنى تجعلك تتعرّف على الله أكثر مما تعرف، ونظرًا لأن هذه السورة أُنزلت في مرحلة مضطربة من المواجهة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين مشركي مكّة، ترى كيف أن الله تعالى يبيّن قدراته التي يتفرّد بها، ولا يقدر عليها أحد سواه. وفي ذلك حض للإنسان كي يتحرّك، ويسعى إلى التعرّف على الحياة، والإسهام في فعل الخير، شُكرًا لله المُنعِم، وأن الخسارة الأكثر فداحة والتي لا تُعوض بأي حال مِن الأحوال، هي أن يفوت الإنسان الانتباه إلى كل هذه الاشراقات الروحية، ويلبث يمضي عمره في عتمة الروح.
تُظهر لك السورة لمعات السطوع التي يتمتع بها المؤمن، فهو إنسان ساطع نَشِط، ممتلئ ببريق الحيوية، يعيش كل تفاصيل حياته بطولها وعرضها، وهو يستمدّ من ثنايا هذا السطوع مرتكزات الاعتدال، والرفق، والتوازن، والتهذيب، وبذلك يتجنّب عوامل الاضطراب، والعدوان، والكِبر، والتمادي، وتجاوز حدود كل ما هو إنساني. إنه يُشكّل بحضوره في الحياة، حالة ممن البطولة، وكل شيء من حوله يستأنس به ويسطع بسطوعه.
تُطلِعك السورة أيضًا على وقائع الأحداث التي جرت في مكّة، وكيف بدأ الناسُ يخرجون مِن وباء الأوثان إلى عافية التوحيد. وهذا من شأنه أن يُعزّز المناعة والحصانة لديك من كل آفات الريبة والوساوس والجور، والإعجاب بالنفس، والاستقواء بالمال أو السلطة أو الولد.
إنك تستمدّ من قراءتك معالِم الانضباط، والصبر، وتغدو أكثر تحكّمًا بما تجنح النفس إليه من أهواء، وشيئًا فشيئًا تفضي بك إلى الانفلات الذي ينتهي بك إلى الهلاك، فتتعلّم أن لا نهاية لاتّباع الأهواء، وهي تلبث تنخر في القلب حتى تتمكّن من إفساده.
تُعلّمك السورة أن مساحة الإنسان تتسع لديك وتنمو، على قدر ما تتسع لديك مساحةُ الإيمان، وأنك لن تستطيع أن تكون إنسانًا تتمتّع بمقوّمات الإنسان لديك، إلاّ إذا كنتَ مؤمنًا، فإن كنتَ مؤمنًا، أمِنَ الناس إليك، وأمنتَ إلى نفسكَ، وأمنتْ نفسُكَ إليك.