سنواصل الخدمة قُدُمًا إكرامًا لأُمَّتنا وإكرامًا للإنسانية

الآذان شبعى والعيون جوعى.. كلمة قالها فضيلة الأستاذ فتح الله كولن لتعبر عن فهمه لروح الإسلام وممارسته له. فتح الله كولن اليوم مشروع حضاري تجاوز الحدود المحلية التركية ليمتد في أصقاع المعمورة كلها. مشروعه لم يبق حبيس الفكر، بل تجاوز لينزل على أرض الواقع. إنه مشروع بناء الإنسان وغرس القيم الأخلاقية السامية في جوانيته. فالإنسان قلب الأرض، إذا صلُح صلحت الأرض وإذا فسد فسدت الأرض، إذا انتصر على نوازع النفس في الداخل نجح في بناء العمران في الخارج.

حياة الأستاذ فتح الله كولن قصة طويلة من المعاناة والمكابدة في سبيل بناء الإنسان الصالح المؤهل لوراثة الأرض.. وقد شرُفت مجلة حراء منذ عددها الأول بمقالاته الملهِمة الحكيمة، كيف لا وهو الذي سمّاها “حراء”، هذا الاسم المعبر عن المعنى الذي ولدت منه أمة الإسلام برسالة إلى الإنسانية جمعاء.
شهدت تركيا في الآونة الأخيرة محنة من نوع آخر كان الأستاذ فتح الله كولن أكثر مَن أحس بوقعها الزلزالي في قلبه.. الأمر ليس سهلاً.. عمرٌ مديد من العمل والمكابدة والمصابرة من أجل إخراج نبت صالح واعد.. فإذا به يتعرض لأكبر حملة تشويه في تاريخه.. في الشهرين السابقين وسائل إعلام تركية وعربية وأوربية وأمريكية أجرت حوارات صحفية مع الأستاذ كولن، رسم فيها أهم معالم مشروع “الخدمة”، وأجاب على بعض التساؤلات ووضع النقاط على الحروف بصورة واضحة حول قضايا في غاية الأهمية؛ إنها جريدة زمان التركية، جريدة الشرق الأوسط، قناة بي بي سي (BBC)، صحيفة وول ستريت الأمريكية (The Wall Street Journal)، وجريدة الجمهورية الإيطالية (La Repubblica). ومجلة حراء عملت على هذه الحوارات بدقة قراءة وتلخيصًا وتحريرًا، واختارت أهم المحاور التي جاءت في هذه الحوارات لتقدمها لقرائها الأكارم، عسى أن تكون رافدًا مهمًّا في إنشاء رؤية ناضجة ملهِمة في بناء ذاتنا الحضارية ومشاريعنا الإصلاحية.

س: كيف تصفون حركة “الخدمة”؟ وكيف تعرّفون “أتباعكم”؟ وما الذي يجمعهم في مشروع واحد؟

أكّدتُ مرارًا أنه يؤلمني كثيرًا نسبة الناس إلى شخصي الضعيف وإلحاقهم بي تحت عناوين مختلفة كـ”الفلانيّين” و”العلانيّين”. كما أريد أن أؤكد أن هؤلاء الناس قد التقوا -بشكل طوعي- حول مشاريع وجدوها معقولة ومنطقية ومفيدة لكافّة الناس. ومع أن الحركة تستهدي بقيم الإسلام، فإن مشاريعها التي يقوم عليها المتطوعون العاملون في إطارها، متماشية مع القيم الإنسانية الهادفة إلى تعزيز الحريات الفردية وحقوق الإنسان والتعايش السلمي بين جميع الفئات؛ ومن ثم وَجدتْ ترحيبًا في 160 دولة حول العالم، ولقيتْ قبولاً صريحًا أو ضمنيًّا مباشرًا أو غير مباشر من جنسيات ودول وأديان مختلفة. لذلك من الصعب القول إن المتطوعين في الحركة يشكّلون بنية متجانسة، بل هي بنية متنوّعة. وحالة التنوّع هذه تمتد لتشمل ألوانًا مختلفة من التعاطف والتشارك؛ فبينما يعمل البعض معلّمين في مدارس بالخارج، يقوم آخرون بالتكفّل بالنفقات أو يخصصون جزءًا من أوقاتهم للخدمات التطوعية، وما إلى ذلك.
إذن هم أفراد التقوا طوعًا على قيم إنسانية سامية مشتركة، كالحرّيات، وحقوق الإنسان، واحترام المعتقدات، وتقبّل الآخر، والانفتاح على الحوار، وتنزيه الدين عن الأغراض السياسية الحزبية الضيقة، واحترام القانون، وعدم استغلال إمكانيات الدولة استغلالاً سيّئًا، وضرورة عدم التراجع عن المسار الديمقراطي، ورفض استخدام السلطة لإكراه الأفراد والمجتمعات على معتقدات معيّنة، والثقة في المجتمع المدني، وتوظيف التعليم لإحلال ثقافة السلام في المجتمعات، وابتغاء مرضاة الله في كل قول وفعل، ومحبة الخلق من أجل الخالق، وتعزيز منظومة القيم الأخلاقية لدى الأفراد بغضّ النظر عن قيمهم الدينية أو غير الدينية.

س: ما موقف “الخدمة” كعمل مدني من السياسة؟

لابد من التنويه بأن الخدمة منذ نشأتها لم تَسعَ إلى أي هدف سياسي، ولكنها سعتْ إلى خدمة الإنسان من خلال تنمية قدراته في المجالات التعليمية والاجتماعية والثقافية، واستثمرت كل وقتها وطاقتها في سبيل تحقيق هذه الغاية. وتصدّت لحل المشكلات الاجتماعية انطلاقًا من الإنسان عن طريق التربية والتعليم.
طالما ذكرتُ في دروسي أن لدينا ما يكفي من المساجد -التي كان أغلبها فارغًا في السبعينيات- ولكن ليس لدينا ما يكفي من المدارس. لذا حضضتُ الناس على فتح المدارس لسدّ هذه الثغرة. ولو كان لدينا أي هدف سياسي لكانت قد ظهرت بوادره خلال الأربعين أو الخمسين سنة الماضية كإنشاء حزب سياسي مثلاً. ولقد عُرض عليّ وعلى الكثير من إخواني -في أوقات مختلفة- العديد من المناصب السياسية، وتم رفضها جميعًا. ولقد كان بإمكان “الخدمة” -لو كان لديها طموحات سياسية- أن تؤسس حزبًا سياسيًّا كما فعل الآخرون، وتستثمر الظروف المواتية عام 2001م، في وقت كانت الأحزاب الأخرى تتهاوى واحدة تلو الأخرى… أو على الأقل لكان لها عدد لا بأس به من المؤيّدين داخل الأحزاب السياسية التي حكمت في الماضي أو الحزب الذي يحكم الآن، ولكنها لم تفعل ولم ترغب في ذلك أيضًا.
شخصيًّا لا أتبنّى قناعة ممارسة السياسية باسم الدين، أو توظيف الدين لتحقيق مكاسب سياسة، أو ممارسة السياسة بشعارات دينية، وهذا لا يعني أنني أرى أن الانخراط في مجال السياسة أمر غير مشروع. فمع أننا لا نشارك في السياسة ولا نقوم بإنشاء حزب سياسي، لكن لا نرى منع أحد من القيام بذلك؛ لأنه في الديمقراطيات لا يمكن ممارسة السياسة من دون أحزاب، طبعًا الخدمة ليس عندها هدف سياسي بمعنى تأسيس حزب، لكن القيم والمبادئ التي حاولتُ توضيحها آنفًا، والتي تشكل الديناميكية الأساسية للخدمة، لابد أنها تتلامس مع السياسة.
وأفراد الخدمة باعتبارهم مواطنين كان وما زال لهم مطالب من المؤسسات السياسية، شأنهم في ذلك شأن نظرائهم من المواطنين العاديين أو التربويين أو كل ناشط مجتمعي. وقد كانت هذه المطالب دائمًا تدور في إطار القوانين المرعية وتُطلَب عبْر السبُل والطرق المشروعة. ولم يحاولوا ألبتة اللجوء إلى أيّ وسيلة غير قانونية أو غير أخلاقية لتحقيق هذه المطالب.
وبطبيعة الحال، يتوقع المواطنون الذين تعلّقت قلوبهم بـ”الخدمة”، من القائمين على شؤون البلد، السعيَ إلى تعزيز سيادة القانون وحقوق الإنسان والحريات والسلام وحرية الفكر وبناء المشاريع ودعم الاستقرار والأمن في البلاد والحيلولة دون الانزلاق إلى الفوضى أو حدوث الأزمات، والتأكيدَ على تقبّل الجميع والاعتراف بوجودهم. كما يحق لهؤلاء الناشطين في الخدمة الاحتكام إلى الوسائل المدنية والديمقراطية المتاحة لهم، للإفصاح عن آرائهم حول أوجه القصور في هذا الصدد حال وجودها. إذ إن التعبير عن الآراء في هذا الصدد، ورفْعَ مستوى الوعي العام، هو واجبٌ وطني، وواحدٌ من أهداف المجتمع المدني أيضًا. ولا يلزم بالضرورة تأسيس حزب سياسي من أجل القيام بهذه المهمة، كما لا يمكن اتهام هؤلاء الذين يقومون بهذه المهام بأنهم يقتحمون السياسة، أو يريدون تقاسم السلطة، أو يعملون على تدخل غير المنتخَبين في عمل الـمُنتَخَبين ديمقراطيًّا. فما ذكرناه آنفًا، هو ما عليه الحال في أيّ نظام ديمقراطي حقيقي، وفي أيّ دولة من دول العالم المتقدّم من حيث الديمقراطية.

إنّ الأحزاب السياسية والانتخابات الحرة هي شروط أساسية للنظام الديمقراطي، ولكنها لا تكفي بمفردها، فالأداء الفعّال والسلس للمجتمع المدني هو أمرٌ مُهم كذلك. ومن الخطأ القول إن الانتخابات هي الطريقة الوحيدة لمساءلة السياسيين أمام عامّة الناس، حيث إنّ المجتمع المدني يستمر بمراقبة السلطة الحاكمة ليرى ما إذا كانت تفي بوعودها أم لا، وذلك من خلال الإعلام والمناشط المجتمعية المختلفة وفعاليات عديدة أخرى في إطار القانون، مثل عرائض الاكتتاب ورسائل شبكات التواصل الاجتماعية. وبالرغم من أن نشطاء الخدمة التقوا على مبدأ عدم الانخراط في السياسة الحزبية وعدم السعي نحو السلطة، لكن هذا لا يعني أن يتخلّوا كمجتمع مدني عن مسؤوليتهم وصلاحيتهم في مساءلة السلطة السياسية ورقابتها. وبما أن الخدمة ليست تكوينًا بنيويًّا ولا تنظيمًا مركزيًّا هرَميًّا، فليس هناك وجهة نظر سياسية واحدة يتبنّاها جميع المشاركين فيها، كذلك ليس من المعقول القول إن حركة كهذه، منحازة إلى حزب بعينه فضلاً عن أن تكون منخرطةً فيه، فللمتعاطفين معها اختياراتهم السياسية الخاصّة، ولا تفرض الحركة أي وجهة نظر معينة عليهم، ولا تتدخل في هذا الموضوع على الإطلاق.
كما أن برنامج الخدمة وتقويمها الزمني لا يتحدَّد وفق التغيّرات الانتخابية والسياسية، بل يتحدّد حسب المشاريع التي تدور في فلك القواسم الإنسانية المشتركة. كذلك، فإن الحركة لا تتدخل في الشؤون الداخلية أو التطورات السياسية في أي بلد نهائيًّا، فحيثما تتّجه تركّز جهدها على تنفيذ مشاريع مدنية تطوّعية في مجالات تعليمية وثقافية وإنسانية. ولكونها تتمسك بهذا المبدأ ولا تفرّط فيه، فهي اليوم تحظى بقبولٍ لأنشطتها في أكثر من 160 بلدًا حول العالم.
والمتعاطفون مع أفكار الخدمة والمحبون لها، لا شك أنهم موجودون اليوم داخل السلك البروقراطي في الدولة، شأنهم شأن بقية شرائح المجتمع الحاملة لأفكار أخرى. ومن ثم فليست انتماءاتهم مدوَّنة على جباههم، وبالتالي فإن محاولة تصنيفهم في تقارير أمنية حسب تعاطفهم، أمر غير قانوني وغير أخلاقي على حدٍّ سواء. وأيضًا فهؤلاء المتواجدون داخل السلك البيروقراطي -ممن يقال إنهم متعاطفون مع الخدمة- يخضعون خضوعًا صارمًا للقوانين واللوائح المنظمة لشؤون العمل داخل المؤسسات التي يعملون بها، ويمتثلون لأوامر رؤسائهم في مجال أعمالهم، أي إن واجباتهم محدَّدة حسب القوانين.
وأريد أن أكرّر التأكيد هنا على نقطة هامة؛ وهي أن في أجهزة الدولة قد يكون هناك مَن هم متعاطفون معي أو مع أي  شخص آخر، أو مع حركة فكرية، أو أيديولوجية ما، وهذا أمر طبيعي تمامًا. فليس لأحد التدخّل في قناعات الآخرين الشخصية أو معتقداتهم أو نظرتهم إلى العالم، والمتوقع ممّن يتخرجون من مدارس الخدمة أو ممّن يتعاطفون مع المثُل العليا التي تدعمها الخدمة، أن يتصرفوا بصدق واحترام تجاه سيادة القانون وحقوق الإنسان ومبادئ الديمقراطية، أيًّا كانت المناصب التي يشغلونها في الدولة.
ومن ثم إن كان هناك أشخاص داخل مؤسسات الدولة، بدلاً من الانصياع لأوامر رؤسائهم أو لوائحِ القوانين، يتلقّون الأوامر من جماعتهم التي ينتسبون إليها أو يميلون نحوها فكريًّا، فلابد من أن يُكشَف أمرهم، وينالوا العقاب اللازم بهم حتى وإن ادّعوا أنهم يعملون لصالحي. وإن كان هناك مَن يرتكب الجرائم من العاملين في الشأن العام ممن يدّعون التعاطف مع “الخدمة”، فينبغي أن تبدأ التحقيقات معهم بسرعة وأن يُحالوا للعدالة.

س: ما دور الإسلام في السياسة والمجال العام؟

إن الإسلام -كدِين- هو مجموعة من المبادئ والممارسات التي تستند إلى الوحي الإلهي، وترشد البشر إلى الخير المطلق من خلال إرادتهم الحرة، وتُبيّن لهم كيف يسعون جاهدين ليجعلوا من أنفسهم “أشخاصًا يتّسمون بالكمال”. يمكن للناس أن يمارسوا دينهم بالطريقة التي يشاؤون في بلدٍ ديمقراطي يتيح لهم التمتع بمعتقداتهم الدينية بحريّة. في بلدٍ كهذا، يتم إجراء الانتخابات الحرة بما يتوافق مع المبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان العالمية والحريات، ويمكن للناس أن يعبّروا عن اختياراتهم عبر الإدلاء بأصواتهم في الانتخابات، وتقديم مطالبهم لممثّليهم بحرية تامة واستخدام الحقوق الديمقراطية الأخرى المتاحة لهم، يمكنهم القيام بذلك بشكل فردي أو جماعي من خلال المشاركة في أنشطة منظمات المجتمع المدني.
إنني أرفض دائمًا فكرة التعامل مع الدين باعتباره أيديولوجيا سياسية (Politic). كما أرى أن على المسلم أن يتصرف وفقًا للأخلاق الإسلامية سواء في البعد المدَني والمجتمعي، أو في الشأن العامّ والمجال الإداري. أي يجب أن يلتزم بقيم الإسلام الأخلاقية في كل مكان وُجد فيه؛ فالسرقة والرشوة والنهب والكسب غير المشروع والكذب والنميمة والغيبة والزنا والانحطاط الأخلاقي… هي ذنوب وأمور غير شرعية في كل السياقات. ولا يمكن ارتكاب هذه المعاصي لأي غرض كان، سياسيًّا أو غيره، ولا يصحّ لأحد الإفتاء بارتكابها. ثم إن هذه المعاصي تُعتبر جناياتٍ حتى في إطار المعايير المتعارف عليها عالميًّا. وإذا فقد الفرد نزاهته الأخلاقية في هذا الجانب، فإن دوره في الشأن العام أو في أي حزب سياسي، عديم الجدوى. وكأي إنسان عادي، يُسعدني أن أرى هذه المبادئ الأخلاقية وقد تحوّلت إلى سلوك لدى جميع مَن يشغلون مناصب في الشأن العام أو في المجال السياسي. في الواقع إن المشاكل المذكورة أعلاه هي المصدر الرئيسي للشكاوى في المؤسسات الإدارية والسياسية في كل مكان حول العالم.
واسمحوا لي أن أقول بكل وضوح؛ إذا كان المسلمون في بلدٍ ما يمارسون شعائرهم الدينية بحرّية، ويتمكّنون من إنشاء مؤسساتهم الدينية بلا عوائق، ويستطيعون أن يلقّنوا قيمهم الدينية لأبنائهم ولمن يرغب في تعلّمها، ولديهم الحرّية الكاملة في التعبير عنها في النقاشات العامة، ويعلنون عن مطالبهم الدينية في إطار القانون والديمقراطية، فإن حاجتهم إلى إقامة دولة دينية باتت غير ضرورية. والتاريخ يشهد على أن حركات التمرّد والثورات والانقلابات وأحداث العنف دائمًا ما تجرّ البلاد إلى الفوضى والمآسي، وتجعلها في نهاية المطاف تفقد كل مكتسباتها في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان، وتكبّد الشعوب أضرارًا وخسائر لا يمكن تلافيها. والحقيقة أنه إذا تمّت السيطرة على سلطة بلدٍ ما قسرًا وأُجبِرَ الناس على التديُّن، فإن هذا سيجعل منهم مُنافقين، يراؤون السلطة داخل بلدهم ويتظاهرون بالتديّن لتحقيق منافع شخصية، ولكن ما إن يسافروا إلى الخارج حتى ينغمسوا في حياة مناقضة للدين ومفتوحة على ألوان شتى من الذنوب والآثام. ففي مثل هذا البلد يضعف احترام القانون وينتشر النفاق والرياء.
وفيما يتعلق بالرؤية التي نحاول أن نسير عليها فيمكن تلخصيها على النحو التالي؛ تقديم حفظ الدين والنفْس والعقل والنسل والمال على تقديس الدولة.. وامتلاك الإنسان لحرية الاختيار وحرّية المبادرة.. والاعتراف بدور العقل والمصلحة العامة وحتى التجربة المجتمعية إلى جانب النقل في فهم الوحي الإلهي.. وتفعيل مؤسسة الاجتهاد في المجالات الدينية القابلة للتأويل والاجتهاد، دون النصوص الصريحة.. والسعي إلى ترسيخ حرية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. والسماح للمتديّنين بالتعبير عن شعائرهم الدينية بكل حرّية وممارستها، ليس على المستوى الفردي فحسب، بل في المجالات والأمكنة العامة أيضًا.. واحترام القانون والنظام والأمن والاستقرار، واعتبار الإرهاب وقتل الأبرياء جريمة ضدّ الإنسانية.. والترويج لروح المنطق والعقل باعتباره وسيلة لإقناع المتحضرين بدلاً من الإكراه.. والوعي بأن 98% من الإسلام عبارة عن روح ومعنًى وأخلاق وآخرة وعبادة وعبودية وكمالات وتسامح وسلوك وتحبيب وتبشير.
ومن وجهة نظر سوسيولوجية، هكذا فُهم الإسلام ومُورِسَ في الأناضول منذ أكثر من ألف سنة، إن هذا التصور عن الإسلام يتحدى كل أشكال العنف والتطرف ومحاولات تسييس الدين، كما يعزز الحب والتسامح والقبول المتبادل والتواضع ونكران الذات وسعة الصدر واحتضان الجميع.. ويعطي الأولوية للحق والعدل والحرّية والسلام في المجالين الاجتماعي والعام؛ وبعبارة أخرى يسعى إلى بناء نسيج اجتماعي مفتوح إلى كل الاتجاهات.

س: هل فاجأتكم أحداث التمرد الأخيرة في العالم العربي؟

إلى حدٍّ ما.. حسب معرفتي فإن العديد من الخبراء المختصّين في شؤون المنطقة ممن يكتبون في السياسة والإستراتيجية الدولية، لم يتوقّعوا اضطرابات من هذا القبيل على نطاق واسع. أعتقد أنه لا ينبغي إطلاق اسم التمرد على المساعي المطالِبة بسيادة القانون والديمقراطية في المنطقة، باستثناء تلك التي تستخدم العنف من أجل هذا الغرض. إن الوضع القائم في هذه البلدان، والمعاناة المستمرة للناس والمظالم التي يتعرّضون لها أمرٌ يدمِي القلب، ولا يبدو على المدى القريب حلّ لهذه المعضلات؛ وللأسف أقصى ما يمكننا فعله الآن كأفراد حيال ذلك، ليس شيئًا سوى الدعاء.
عندما اندلعت الأحداث في بادئ الأمر، قلتُ بناءً على حدسي وتوقعاتي المستقبلية: “ترى هل ما يحدث ربيع أم خريف عربي؟”، فهذا للأسف هو الواقع الإنساني، التدمير سهل، أما البناء فصَعْب؛ لأن الطاقة التي تحتاجها لبناء نظامٍ جديد يتوافق عليه المجتمع كله، هي عشرة أضعاف الطاقة التي تحتاجها للإطاحة بنظام قائم. للأسف لم نصل بعد إلى هذا المستوى من النضج الاجتماعي. كما أن التاريخ يحدثنا بأن التموّجات الاجتماعية قد تنجرف وتغير مسارها في اتجاهات مفاجئة غير محسوبة، لذلك فالعبرة بتلك الديناميكات الداخلية التي تدفع وتحرّك تلك الأمواج. ما الذي يحرّك ويقود تلك التموّجات؟! وما الذي يسري في الشُّعَيرات الدموية؟ ينبغي النظر إلى ذلك.. إذا لم تضعوا ذلك في الحسبان، فإن الأمواج قد تنفلت وتنساق في اتجاهات غير متوقّعة. إن الاعتماد على الحماس الجماهيري والحراك الجماهيري فحسب، لا يولّد نتيجة سليمة. في تلك الفترة كنتُ أقول دائمًا: “علينا أن ننظر إلى “الأمواج المنبثقة من القاع”، وإلا فإن الضرر الناتج قد يخيّب آمالنا وتوقعاتنا”. عندما كنتُ أنظر لما يحدث مراقبًا من الخارج، لم أتوقّع قط بأن تفضي تلك الأحداث إلى تغييرات جذرية ونتائج كبيرة في المدى القريب. كنا نشاهد تقلبات كبيرة، وتحولات ضخمة في الشارع العربي، ولكن بدا من الواضح مع الحسابات قصيرة المدى، أنها ستكون عديمة الجدوى. إن المجتمعات العربية مجتمعات مكابِدة، وأنا واثق من أنهم سوف يقيمون ما وقع بالصبر والمصابرة والبرامج بعيدة المدى.
إن حراك البحث عن الحرية بكل ألوانه، سيبقى في الذاكرة أحد أعظم إنجازات هذا العصر. ولكن الزمان أثبت لنا أن التغييرات الراديكالية أو محاولات التغيير الراديكالي دائمًا ما تؤدي إلى ضرر ودمار أكبر من المتوقع، وأن عودة الاستقرار والهدوء إلى المجتمع في أعقابها تستغرق زمنًا طويلاً. وكما يقول بديع الزمان سعيد النورسي، هناك ثلاثة أعداء كبيرة للأمة: الجهل والفقر والفرقة، ومن خلال مشاريع متوسطة وطويلة الأمد تقوم بتدعيم التعليم والعلوم والثقافة والفنون والتجارة والتسامح والحوار، يمكننا أن نكافح هذه الأعداء الثلاث. هذه المشاريع المهمّة قد لا تبدو ثمارها في المدى القريب، لكنها سوف يكون لها أثر في المدَيَيْنِ المتوسّط والبعيد. علمًا بأن أيّ مسعى نحو الديمقراطية سوف يبوء بالفشل ما لم يؤسَّس على أرضية كهذه. وحركة “الخدمة” كانت وما تزال منذ عقود، تسعى إلى تحقيق ذلك من خلال تأسيس المدارس وإنشاء الجامعات، وتكوين جمعيات واتحادات رجال الأعمال، وافتتاح المؤسسات الإغاثية، وتفعيل دور مراكز الحوار ووسائل الإعلام في استخدام لغة بنّاءة تُسهم في دعم التواصل والتحاور وتحقيق العيش المشترك. كما نأمل أن تعمل هذه المشاريع، التي تدعمها شرائح واسعة من المجتمع، على مساعدة الجميع -بمن فيهم الرؤساء والمرؤوسون- لتأسيس مجتمعات أكثر رفاهًا وأوفر سلامًا واستقرارًا. ونحن في سبيل تحقيق هذه الغاية، نضرع إلى الله بالدعاء القولي والفعلي عبر هذه المشاريع. ويمكن في هذا الإطار، أن تشرع المجتمعات العربية والإسلامية في الانطلاق نحو هكذا مشاريع حتى قبل أن تتأسس في بلدانها أنظمة حكم ديمقراطية متكاملة بكل معنى الكلمة.

س: ما تعليقكم على التوتر السنّي الشيعي الحاصل في الشرق الأوسط؟

لا يصح تمييز الناس على أنهم سنّة أو شيعة. ويجب أن يُعامل الأفراد بناء على كونهم بشرًا بالدرجة الأولى أيًّا كانت دياناتهم أو معتقداتهم أو مذاهبهم. الإنسان -بما أنه إنسان- يمتلك حقوقًا أساسية، وبما أنه مواطن يمتلك حقوقًا ديمقراطية.
لا ينبغي أن يكون هناك إشكال لدى عالَم السنة إزاء المجتمعات الشيعية التي تكنّ حبًّا خاصًّا لآل البيت. ومع ذلك فإن مبادئ ديننا لا تجيز لأي دولة أن تمارس القمع والإساءة على أساس الفروق الطائفية في محاولة للظهور كقوة إقليمية. ولقد كانت هناك جهود لتقريب المذاهب عبر التاريخ القريب لعب فيها -غالبًا- زعماء الشيعة دور المحرك. ولكن للأسف، فقد كان قادة الشيعة يميلون إلى توظيف هذه الجهود لأغراض توسعية خاصة بهم، حتى إن فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي الذي كان متعاطفًا مع الفكرة في البداية، قد اشتكى من مواقف علماء الشيعة خلال السنوات القليلة الماضية وعاتبهم على ذلك.
والمشكلة وإن بدت في الظاهر على شكل توتر بين السنة والشيعة، إلا أن الحقيقة مرتبطة بأهداف سياسية أخرى؛ مثل الهيمنة على المنطقة وتوسيع النفوذ والتحول إلى قوة إقليمية. لذلك تُستَخدم الانتماءات الدينية والمذهبية والطائفية كوسيلة لتحقيق هذه الأهداف. لا أحد يستطيع أن ينكر أن إيران اليوم، تسعى إلى تحقيق غايات قومية فارسية تحت ستار التشيّع. بالطبع يحق للدول أن تعزز مصالحها الوطنية وتحاول حمايتها عبر وسائل مشروعة في الساحة الدولية، لكن إثارة التوتّرات الدينية والطائفية والعرقية، لا ينبغي أن تكون إحدى هذه الوسائل. هذا خطأ، وعلى جميع المنظمات الدولية أن تكافح هذا الخطأ.
وللأسف قام بعض الأفراد والجماعات بتقديم تفسيرات مضللة عن المدرسة السنية، وذلك عبر الترويج للعنف والإرهاب باسم أهل السنة. ومثل هذه الجماعات تتسبب بالخراب والضرر الأكبر للإسلام نفسه. فالعالم الإسلامي بحاجة إلى الوئام والوفاق والتسوية السلمية للقضايا السياسية أكثر من أي وقت مضى.

س: الإسلام والديمقراطية هل ينسجمان؟ وكيف تقيمون الممارسة الديمقراطية في تركيا؟

نظام الحكم القائم في تركيا منذ الخمسينيات هو نظام ديمقراطي بالرغم من كل ما يعانيه من تعثّرات، فالديمقراطية هي نظام يتّجه إليه العالم اليوم. لقد بدأت البوادر الأولى نحو نقل بلادنا إلى الديمقراطية منذ أواخر الدولة العثمانية عام 1876م من طرف السلاطين العثمانيين الذين كانوا في الوقت نفسه خلفاء العالم الإسلامي، حيث شكّل النوّاب من غير المسلمين في أوّل برلمانٍ مُنتَخَب ديمقراطيًّا نسبةَ الثلُث تقريبًا. ولذا فمن الخطأ أن ننظر إلى الإسلام وكأنه متعارض مع الديمقراطية، والعكس صحيح. ويمكن القول إن الديمقراطية هي النظام الأنسب لمبادئ الحكم في الإسلام لكونها تتيح الفرصة للنّاخبين أن يُحاسِبوا الحكّام المنتخَبين ويسائلوهم، ولكونها نقيضًا للاستبداد الذي يعتبره الإسلام شرًّا وفسادًا في الحكم. فليس للإسلام مشكلة مع الانتخابات الديمقراطية والمساءلة وسيادة القانون وغيرها من المبادئ الديمقراطية الأخرى. وعندما صرّحتُ عام 1994م بأنه “لا ينبغي التراجع عن الديمقراطية”، قُوبلت هذه التصريحات بالاعتراض من بعض الفئات. والحقيقة أن هناك العديد من التطبيقات والأنماط للديمقراطية لا يمكننا القول إنها بلغت حدّ الكمال، بل هي في طريقها إلى الاكتمال.
إن البلد الذي يتم فيه حفظ الدين والنفْس والعقل والنسل والمال، ولا تُقيَّد فيه حقوق الأفراد وحرياتهم إلا في الحالات الاستثنائية القصوى كالحروب مثلاً، وتُعامَل فيه الأقليّات بالتساوي مع باقي المواطنين ولا يتعرضون لأي تمييز، ويُتاح للجميع التعبير عن وجهات نظرهم الشخصية والاجتماعية والسياسية بكل حرية والعمل بها؛ هو بلد مُناسب للإسلام. وإذا كان الناس في بلدٍ كهذا يمكنهم التعبير عن آرائهم ومعتقداتهم بحرّية ويؤدّون واجباتهم وشعائرهم الدينية، ويتمتّعون بحريات مثل الملكية الخاصة، فليسوا مطالَبين -مسلمين كانوا أو أتباعَ ديانات أخرى- بتغيير نظام الحكم في ذاك البلد. أمّا البلدان التي لا يتمتّع فيها الناس بهذه الحريات، فعليهم أن يحاولوا الحصول عليها من خلال وسائل ديمقراطية دون اللجوء إلى العنف بتاتًا.
أعتقد أنه بإمكان الإسلام والديمقراطية أن يتعايشا سلميًّا ليس فقط في تركيا، بل أيضًا في البلدان المسلمة، وفي البلدان ذات الأغلبية والكثافة الإسلامية. للأسف يلاحظ أنه في البلدان التي يتم فيها شيطنة الديمقراطية، تكثر انتهاكات حقوق الإنسان، والاضطرابات الأخلاقية والقانونية، والنزاعات والصراعات الدينية والعرقية. إن الديمقراطية حاليًّا تتطور لتصبح -إن جاز التعبير- عرفًا وقيمة مشتركة للجنس البشري بأكمله. ففي البلدان التي تتوافق مع معايير الاتحاد الأوروبي، يحق للمسلمين من خلال مؤسسات المجتمع المدني ممارسة دينهم وتطبيقه وتمثيله بل ونشره وتعليمه أيضًا. ومن ثم فإن وظيفتنا الأساسية أن نمارس قيمنا الإسلامية ونتمثلها حيّة سواء أفرادًا كنّا أو مجتمعًا مدنيًّا.
لا يمكن وصف تركيا بأنها دولة ديمقراطية بشكل كامل. فالمتدينون الذين كانوا يتعرضون للاضطهاد في الماضي، مثل الطالبات اللواتي مُنِعْنَ من ارتداء الحجاب في الجامعات، قد نالوا مؤخَّرًا العديد من حقوقهن نتيجةً لمساعي الانضمام للاتحاد الأوروبي؛ ومن ثم فإن عملية الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي قد عادت بالكثير من الفوائد على تركيا من هذه الجهة، وتم إدخال إصلاحات ديمقراطية جدّية للبلاد في إطار هذه المساعي. وإذا استمرت هذه الإصلاحات واستطاع النظام الديمقراطي في تركيا تحقيق معايير الاتحاد الأوروبي فيما يتعلق بسيادة القانون واحترام حقوق الإنسان والحريات، فباعتقادي لن تقف هوية تركيا المسلمة حجر عثرة أمام عضويتها الكاملة. حتى لو قام متعصبون كارهون للإسلام في أوروبا بمنع انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، فإن المكاسب التي حقّقتها تركيا أثناء محاولتها الحصولَ على العضوية تبقى انتصارًا مهمًّا للديمقراطية فيها. إلا أن تركيا -مع الأسف- قد بدأت مؤخّرًا تتراجع عن تحقيق تلك المعايير الديمقراطية للاتحاد الأوروبي.

س: ما هي المشكلات الملحة والعاجلة في تركيا من وجهة نظركم؟

لعل المشكلات الأكثر عاجلية، هي الموضوعات التي ما زالت تحافظ على أهميتها حتى الآن؛ النزاعات والخلافات والتفرقة. ولقد تَطرَّق إلى النقاط ذاتها ذلك الإنسان العظيم (بديع الزمان سعيد النورسي) في بداية القرن العشرين. إننا نعاني من ثلاثة أمراض: الأول خلافات لا تستند إلى معنى معقول أو منطقي، ولكنها تُثِير الناس ليأكل بعضهم بعضًا. هذا مرض ينبغي إزالته. فإذا كانت إزالته ستتمُّ عن طريق مبادرات مثل “المسجد مع دار الجَمْع” فعليكم أن تفعلوا ذلك، وإذا كانت إزالته في النزاع التركي الكردي ستتم من خلال أنشطة التربية والتعليم، ومن خلال فعاليات أخرى تنقذهم من أيدي مَن يريدون أن يمزِّقوا تركيا ويقسِّموها، فستفعلون ذلك.
ثم إشكالية الفقر.. هذه الإشكالية أيضًا ذكرها الأستاذ النورسي، وينبغي إزالتها، فهي مرض آخر. ثم هناك إشكالية الجهل. إذن هي ثلاثة أمراض أكّد ذلك الرجل العظيم (النورسي) ضرورة إعلان الحرب ضدَّها منذ ذلك الوقت. وأعتقد أن الوضع اليوم لا يختلف عن ما كان عليه سابقًا. نزاعات، وجهل، وفقر.
شخصيًّا أيقنت دائمًا أن التعليم هو أفضل وسيلة لتنشئة الأفراد وبناء قاعدة صلبة مستقرة للمجتمع. كل مشكل اجتماعي يبدأ من الفرد، ولا يمكن حَلّه على المدى الطويل إلا من خلال حله على مستوى الفرد. أما الحلول التي تعتمد على منطق التغيير الفوقي فمصيرها يكون دائمًا الفشل، خصوصًا إذا أَهملتِ الفرد. ولذلك كانت دعوتي في الأول والآخر للتعليم. وهذا ما شجّع كثيرًا من الناس الذين التقت أفكارهم مع أفكاري على إنشاء مؤسسات تعليمية مختلفة. فكانت هناك بيوت الطلبة، ومراكز تحضير للامتحانات، ومدارس خاصة، ومراكز دعم مجانية. وقد مكّنت هذه المؤسسات شرائح مجتمعية واسعة من الحصول على تعليم رفيع الجودة، الشيء الذي كان -ولحدّ الآن- متوفرًا فقط لقلة محظوظة.
أجل، يمكننا استخدام أساليب متنوعة ومناهج شتى حسب اختلاف الأوضاع وتغيُّر الظروف. قديمًا لم يكُن يخطر على بال أحد تأسيس مدارس تقوية ومراكز ثقافية ومؤسسات أخرى، فالأصل أن يُنظَر إلى ظروف اليوم وما تقتضيه الحاجة، ثم أن يُسعَى في ذلك الاتجاه. أما هذا الفقير فدوري لا يعدو أن يكون تشجيعًا. مثلاً عندما تَفكَّكَت روسيا (سنة 1989)، وجدنا أن في أسيا الوسطى كثيرين من أبناء أمتنا، فقلنا نشمل هؤلاء الناس برعايتنا. في البداية ذهب ربما خمسة رجال أو عشَرة، ثم تَحوَّل ذلك إلى طريق مسلوكة، فذهب على أثرهم آخرون، ثم آخرون، ثم أعقب ذلك هجرات إلى أنحاء العالم كله يحملون مشاعل المحبة. وبإذن الله وعنايته، وعلى غرار ما يقول مولانا جلال الدين الرومي: لا يَنقُص نورُ الشمعة إذا أشعلت شمعة أخرى؛ أي إذا كنا نملك قِيَمًا طيبة تفيد الآخرين فلنأخذها إليهم، وإذا كان لديهم قِيَم طيبة فلنأخذها منهم، فبابنا مفتوح للأخذ والعطاء. فرَحَّب بهذه الفكرة كثيرون ممن ينتمون إلى اتجاهات فكرية شتَّى. وجدوها معقولة، ووجدوها منسجمة مع المنطق، حتى إنه تَطوَّع كثيرون وتَقدَّموا بمقترَحات باهرة عجيبة. بعضهم قال: “سأُسهِم ببناء جامعة”، وبعضهم قال: “سأبني مدرسة”، وهكذا سارت الأمور.
س: في الآونة الأخيرة لاحظنا غلوًّا في توجيه افتراءات إلى فضيلتكم من قبل السيد رئيس الوزراء تفوق تصور العقل. ورغم ذلك آثرتم الصمت؟
بالتأكيد تألمتُ كثيرًا وحزنتُ.. في حقيقة الأمر لم أجد تفسيرًا معقولاً -حتى اللحظة- لِما يدّعون. فبناء على أي دليل يتحدثون بهذه الثقة، لم أفهم. تلك العبارات القبيحة، وتلك الجرائم التي أسندوها إلينا، لا أذكر أن مثيلاتها قد وُجّهت حتى من قِبل أهل الكفر إلى أهل الإيمان طوال التاريخ الإسلامي. أُصبتُ بإحباط كبير، لأنها لم تكن لائقة على لسان قائليها. أتأدب من القول إنهم يكذبون، بل أفضّل أن أقول يضلّلون الناس بقضايا مناقضة للواقع.
ولكن واسيتُ نفسي على النحو التالي، قلتُ: في كل زمان -ولا سيما في زمن الفتن- تعرّض الأبرياءُ لتشويه سمعتهم، وأهينت كرامتهم، كما أن بعض الناس الذين لم يستوعبوا حقيقة ما يحدث، كانوا شركاء في ذلك الإثم بعلم أو بغير علم. مَن نحن أصلاً حتى نشكو؟ فقد افتروا على أمِّنا عائشة  في العهد النبوي السعيد، بل وأكثرُ من ذلك، فقد افترى الملحدون على الله كذبًا. فإذا ارتُكتبت هذه الجرائم في حق الله، ورسوله، وفي حق العلماء والصالحين عبر التاريخ، فلماذا ينزعج -هذا القطمير- عندما يتعرض لشيء مماثل من قِبل بعض أهل الإيمان؟ نعم، بمثل هذه الأفكار أحاول أن أسرّي عن نفسي.
في الحقيقة، كلٌّ يعمل على شاكلته. مَن مَلك قابليةَ الظلم، ظَلَم. وبما أننا لا نملك نواجذ للعضّ، فلا يمكننا أن نعضّ أحدًا. ولكن لا نشكو.. فهم يظلمون ويتمادون في الظلم، أما نحن فسنبقى صابرين يقظين حذرين، وسنضرع إلى الله تعالى من أجلهم، نسأله أن يعامِل بالرحمة والمغفرة من كان عنده قابلية للرحمة والمغفرة، ونرجوه -سبحانه- أن ينجيهم من السير في الطريق الخطأ. ولا شك أن التعرض لألوان شتى من الافتراءات والمؤامرات، هو قدر السائرين في هذا الدرب في كل عصر، وسيبقى كذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وحينما تسود البصيرة والفراسة -مع مرور الوقت- فإن الغبش والضبابية وكافة السلبيات ستزول تلقائيًّا. فليس ثمة افتراء ولا مؤامرة قادرة على الصمود أمام الحكمة والبصيرة. وكم كنتُ أرجو من هؤلاء الذين انجرفوا وراء هذه الأوهام والمؤامرات، أن يحاولوا إعادةَ النظر -في ضوء الكتاب والسنة- في الطريق التي سلكوها.
وها نحن نعلن للعالم أجمع، أننا متسامحون في حقوقنا الشخصية، فقد أحللنا حقوقنا. ولكن إن كان هناك تجاوزات في حق الدين.. تجاوزات في حق هذه الأمانة المقدسة، فتلك لها صاحبها، وصاحبها يحاسب عليها دون شك.

س: يردّدون الانتقادات التي وجهتموها إلى حكومة نجم الدين أربكان وإلى طريقة تسييرها لأزمة 28 فبراير 1997، ويدّعون أنكم آزرتم الانقلاب حينئذ؟

عندما أتى حزب الرفاه في المركز الأول بعد الانتخابات التي جرت في ذلك الوقت، بدأت بعض التحركات المناوئة داخل القوات المسلحة التركية بشكل واضح، والجميع لاحظ ذلك. أخذتْ غيوم سوداء تتجمع في سماء تركيا، ولكنها لم تتحول بعدُ إلى عاصفة. أذكر أنني كنت في جلسة مع بعض الصحفيين في أنقرة مثل المرحوم “ياووز جوكمان” والسيد “فهمي (كورو)”، وكان أيضًا السيد “فاتح (شكيركه)”. أفصحتُ لهؤلاء الأصدقاء عن قلقي وما بلغ مسامعي من أنباء حول الموضوع. ولكن واجهوني بردود أفعال سلبية. لم أكن الوحيد الذي يرى الخطر القادم، بل كان آخرون أيضًا يرون الخطر نفسه. وإثر فضيحة “سوسرلوك” استغلّتْ الطغمة العسكرية ردود أفعال المجتمع لحسابها، وهيأت المناخ لانقلاب عسكري. وعندما شرعوا في تفعيل خطة الانقلاب كان الأوان لإيقافها قد فات. ثم فجأة أضافوا في اللحظة الأخيرة اسم هذا الفقير إلى التقرير الذي أعدته المخابرات التركية حول فضيحة “سوسرلوك”. فيما بعد علمتُ مَنْ فعل ذلك، إلا أني لم أفش أسماء أهل الإيمان هؤلاء، ولم أطعن فيهم أبدًا، وفضّلت أن أدفنها في أعماق قلبي.
ثم جاءت قرارات 28 فبراير. كانت المادة الثانية من بيان تلك القرارات تنص على ضرورة تأميم المدارس وفق قانون “توحيد التعليم”. وعندما بلغ التوتر في البلد حدًّا خطيرًا طرحتُ -ككثير من الناس- فكرة الإعلان عن انتخابات مبكرة كحل للخروج من هذه الأزمة بأقل أضرار ممكنة. كما أكّدتُ على ضرورة إصدار قانون انتخابات جديد ينقل البلدَ إلى انتخابات مبكرة. لستُ أنا الفقير فقط مَن قال ذلك؛ إنما كثير من الأسماء أيضًا -وعلى رأسهم “كوركوت أوزال”- شاركوني في رأيي هذا. حتى إن بعض وسائل الإعلام الموالية للحكومة، أيّدت هذه الفكرة ونقلتها إلى مانشيتاتها، وإذا رجعتم إلى الأرشيفات فسترون كل ما كُتِب وقيل في تلك الأيام.
في هذا الصدد، نبّهتُ السيد “نجاتي جليك” وزير العمل في تلك الأيام إلى بوادر قدوم الانقلاب، وحذرته من المناخ الانقلابي الذي بدأ يتشكّل في البلاد، ولديّ شهود على ذلك، قلتُ له “يخططون لإحداث انقلاب ضد الحكومة…”. كنتُ أبذل قصارى جهدي لمنع وقوع ضربة مقوّضة للديمقراطية. السيد نجاتي استمع إلى مخاوفي بحماس وانفعال ثم قام وذهب. نقل الأمرَ إلى الأستاذ المرحوم أربكان، ولكن لم تأت أيُّ مبادرة تشير إلى نيةٍ للحيلولة دون وقوع الكارثة.
كذلك حاولتُ أن أحذّر السيدة “تانسو تشيلّر” من الخطر القادم أيضًا، ونبهتُها إلى التطورات السيئة، لكنها قالت “أدعوكم إلى التوازن”، تألمتُ كثيرًا وحزنتُ.. لذلك لم أدخل معها في التفاصيل. عندما رأيت أنني لم أستطع إقناع أحد، شعرتُ بضرورة قول شيء مّا يمنع التدخل في المسيرة الديمقراطية.
ليس من أدبي أن أقول لأحد “فشلتم”. والكلّ يشهد أنني أكنّ احترامًا للجميع، وبخاصة لمن يشغل مناصب تمثيل الشعب. في تلك الأيام حاولتُ من خلال التذكير بنماذج سامقة في تاريخنا كسيدنا أبي بكر وعمر، أنْ أشرح أنّ الانسحاب من السلطة في مثل هذه الظروف الحرجة ليس مذلّة وليس مَدعًى لمذمّة، أي إذا كان الرجوع إلى الشعب سيمنع وقوع كوارث أكثر فظاعة، فمن الحكمة اختيارُ ذلك. الأمر نفسه ينطبق على انقلاب 27 مايو 1960، وانقلاب 12 سبتمبر 1980 كذلك. وقد لجأت حكومةُ العدالة والتنمية إثر المذكرة العسكرية في 27 أبريل 2007 إلى هذا النهج، حيث اتخذت -خلال أسبوع واحد- قرارًا بالخوض في انتخابات مبكِّرة، ومن ثم تمكّنت من اجتياز هذه العقبة. أي إن الحكومة عندما قررت الرجوع إلى الشعب، وأحالت الأمر إلى صناديق الاقتراع، أفشلت اللعبة التي أسقطوا بمثلها حكومة فبراير 1997. هذا ما كنتُ أقوله: “غيّروا قانون الانتخابات، واذهبوا بالبلد إلى انتخابات مبكرة”.
ولابد أن ألفت الانتباه هنا إلى نقطة غاية في الأهمية.. وهي أنه إذا أمعنتم النظر في تقرير فضيحة سوسرلوك وقرارات 28 فبراير، ستجدون أن الطغمة العسكرية آنذاك، استهدفت بالدرجة الأولى حركة “الخدمة”. وما عشناه لاحقًا من مآسٍ، كان تنفيذا لتلك المخططات السوداوية. وكلّ ادعاء يناقض ذلك بعيد عن الإنصاف، بعيد عن الحقيقة، بل هو الظلم بعينه.

س: هل تشعرون بأنكم تعيشون اليوم المآسي نفسها؟

لقد تعرضنا لمثل هذه المآسي والضغوطات مرارًا؛ ففي انقلاب 12 مارس 1971 سُجنتُ 6 أشهر ونصف. كانت المادة 163 في تلك الأيام تعمل مثل المِقْصَلة فوق رؤوس المسلمين، حتى جاء “تورغوط أوزال” وألغى هذه المادة. وفي انقلاب 12 سبتمبر 1980 طاردني الأمن 6 سنوات كما يطارَد المجرمون. وداهموا بعض الأماكن بحثًا عني، وتعرّض إخواني لمضايقات شديدة. أما ما نعاني منه اليوم، فهو يزيد على ما كنا نعاني منه أيام الانقلابات العسكرية بعشرة أضعاف. رغم كل شيء، لستُ شاكيًا. الفرق في هذه المرة أننا نتعرض للمعاملة السيئة نفسها من قِبل مدنيين كنا نحسب أننا نتجه وإياهم إلى قبلة واحدة، لذلك أصدُقك القول بأن إحساسي بالألم مضاعف هذه المرة. ولكن ما باليد من حيلة سوى أن نقول “فصبر جميل”، لابد لهذه الكربة أن تزول كما زالت شقيقاتها الأخرى، والسلام.
س: لقد وردت مزاعمُ في بعض وسائل الإعلام المحسوبة على الحكومة، بأن الخدمة هي التي نفّذت عمليات الفساد في ١٧ ديسمبر ٢٠١٣. كيف تقيّمون ذلك؟
إن البعض يصرّ على اتهام “الخدمة” على الرغم من أننا نشرنا مرارًا العديد من البيانات للتكذيب والتوضيح والتصحيح. وكما قلتُ سابقًا، فإن بعض النوابِ العامّين وقواتِ الشرطة المكلّفة بتنفيذ القانون، قد أدّوا المهمة التي يطلبها القانونُ منهم دون أن يعلموا أن ترصّد ومطاردة المجرمين صار يُعتبر جريمة! أي إنهم لم يتخيّلوا أن أضرارًا ستلحق بهم جراء أداء وظائفهم. والذي حصل أن الذين أشرفوا على تحقيقات 17 ديسمبر، بل الآلاف من الموظفين الذين لم يكن لهم أيّ صلة بتلك التحقيقات، تعرّضوا للنفي والتشريد دون مراعاة حقوقهم وحقوق أفراد عائلاتهم أبدًا. ثم بادر أعضاء الحكومة إلى اتهام “الخدمة” ومهاجتمها وكأنّ شيئًا لم يحدث وكأن فسادًا لم يقع. وعمدوا إلى اختلاق أكاذيبَ ونشرها واحدة تلو الأخرى، وما زالوا يفعلون ذلك.
قبل كلّ شيء، فإن تحقيقات الفساد والرشوة لم تأت فجأة، فجهاز المخابرات قد أعدّ قبل نحو 8 أو 9 أشهر تقريرًا قدمه لرئيس الوزراء، وأكد فيه أن بعضًا ممن يحتمل أن يكونوا جواسيس لإيران، قد سيطروا على وزراء في الدولة وبعضًا من أبناء الوزراء، بل حتى تسلّلوا إلى مجلس الوزراء للقيام ببعض الأشغال الغامضة، ولكنه تم التجاهل والتغاضي عن هذا التقرير تمامًا. فضلاً عن ذلك، فإن وسائل الإعلام المقربة من الحكومة قد نشرت أخبارًا في صفحاتها بهذا الشأن، إلا أنها لم تلقَ اهتمامًا كذلك. لم يفكّروا في منع وقوع أعمال الفساد. ولما بدأت تحقيقات الـ17من ديسمبر، لم يجدوا مخرجًا من هذا المأزق، فقرّروا التخلّص منها عن طريق كيل الاتهامات واختلاق الجرائم لأناس أبرياء. وكما بيّنتُ سلفًا، فإن هؤلاء المشرفين على هذه التحقيقات لا أعرفهم شخصيًّا، ولم يكن لي أيّ صلة بهم. وقد ردّدتُ ذلك مرارًا وقلتُ “لا أعرف واحدًا في الألف منهم…”، إلا أنهم استمروا في ربط هؤلاء بشخصي.
أما الذي حزّ في نفسي وأشعرني بالإحباط أصلاً، فَهو صمت السياسيين الذين عرفتُهم شرفاءَ صادقين. إذ كنتُ أتوقّع من هؤلاء الذين أعرفهم منذ القديم، وأعتقد بصلاحهم وعدم مخالفتهم لضمائرهم، أن لا يبقوا صامتين أمام أعمال الفساد والعلاقات المبنية على الرشوة. كنتُ أظنّهم هكذا. كنتُ أنتظر منهم ردّ الفعل الذي أبداه المرحوم “تورغوط أوزال” الرئيس التركي الأسبق -أسكنه الله فسيح جناته- إزاء مثل هذه الأعمال القبيحة، ولكنهم لم يفعلوا. ولما سكتَ هؤلاء لم يتجنّب مَنْ ارتكبوا “جريمة واحدة” ارتكابَ “ألف جريمة” أخرى، وابتدعوا طريقة لم يُسبَق إليها طوال تاريخ الجمهورية التركية. فبدلاً من إطلاق حملة ضد الضالعين في ممارسات الفساد، أطلقوا حملة ضد أولئك القائمين على تحقيقات الفساد.
إن الإسلام حرّم أعمال الفساد وفرض عليها عقوبات زاجرة، واعتبرها من مساوئ الأخلاق وحضّ على الابتعاد عنها. فلا يمكن تسويغ وتصويب أيّ نوع من أنواع الفساد، ولا يمكن أن يُترك مرتكبُه دون عقاب. فالذنب أو الخطأ إن كان فرديًّا، ولم تكن أضرارُه راجعة إلى المجتمع، فالإسلام في هذه الحالة يَطلب التجاوزَ والصفح عن ذلك الإنسان، ولا يَسمح أبدًا بالتلاعب بكرامته وشرفه. لذا ينبغي عدم الخلط بين هاتين النقطتين؛ أيْ إن الإسلام يحثّ على إبداء حساسية فائقة للغاية، ويضع عقوبات محددة إن كانت المسألة متعلقة بأكل حقوق الناس أو متعلقة بأعمال فساد مختلفة.. فعلى سبيل المثال، عزل عمر بن خطاب – رضي الله عنه – عياض بن غانم، كذا عزل واليًا، وحاكمَ إقليمٍ، وعزل أيضًا عمرو بن العاص من منصبه. كذلك عزل واحدًا من الولاة المشهورين، وكان غازيًا وفاتحًا في غزوة القادسية ضد الإيرانيين، عزله ثم استدعاه إلى المدينة المنوّرة. في الحقيقة، لم يكنْ له أيّ ذنب، ولكن ذاعت في حقه إشاعات.. ولا يمكن لإنسانٍ انتشرت في حقه إشاعات أن يكون واليًا، لأن الناس لن يسمعوا له ولن يطيعوه. بناء على ذلك، فإن كانت هناك رشوة وجرائم ترتكب، ومحسوبية، وممارسة فساد في المناقصات، وأمور أخرى تتعارض مع مصالح الأمة، ويتمّ التستّر عليها، فإن الله جل وعلا سيحاسِب عليها لا محالة.
إن القرآن الكريم يسمّي مثل هذه الممارسات الفاسدة بـ”الغلول”. وهو يأتي بمعنى الاستيلاء على شيء دون وجه حق، والانتفاع به، واختلاس شيء من المال العام، وخيانة الأمانة وما إلى ذلك. كما تُعَدّ إساءة استعمال أموال الدولة ذنبًا وجريمة من هذا النوع. وقد تكون إساءة الاستعمال هذه ببضعة قروش حينًا، وبأكياس مليئة بالنقود المملوكة لخزينة الدولة أحيانًا أخرى… وقد تكون عن طريق الحصول على منصبٍ عبر الوساطة والمحسوبية لا بالكفاءة والجدارة والأهلية. فكل شيء تملّكه الإنسان دون وجه حق، وكذلك كل إمكان حصل عليه من خلال وسائل غير مشروعة، فهو غلول.
والطامة الكبرى هي أننا بأحوالنا هذه نفتح جرحًا غائرًا في قلب الإسلام دون أن نشعر. فإذا ما خرقنا قيم الصدق والإخلاص في حياتنا الشخصية، نكون قد أحدثنا شرخا في الدين وفي فكر من يشكّل قناعته عن الإسلام من خلال سلوكنا ومواقفنا. أظنّ أن الرغبة في المناصب السياسية تزداد نظرًا لأنها تشكّل مصدرًا لمثل هذه الغنائم والعمولات. أجل، إذا لم تنتبهوا إلى تزكية قلوبكم على الدوام، فقد تجدون أنفسكم تائهين في متاهات مظلمة حتى لو انتشرتم -أصلاً- مع إخوانكم في أنحاء العالم بقصد نشر قيم الإسلام السامية من صدق وإخلاص. والأدهى من ذلك والأمرّ هو خيبة الأمل التي سيصاب بها هؤلاء الذين علّقوا آمالهم عليكم.

س: هل يمكن أن نقول بأن ثمة صراعًا بين حزب العدالة والتنمية، و”الخدمة”؟

المسألة ليست قضية صراع بين حزب العدالة والتنمية، والخدمة. في السنوات الأخيرة بدأ موضوع الحقوق والحريات الأساسية في تركيا يتقلص بشكل خطير. فلغة السياسة الهدامة المفتِّتة باتت تهدد وحدة المجتمع وتدفعه نحو الاستقطاب بكل حدّة. وخلال أحداث “كيزي” اعترضتُ على تسمية المتظاهرين بـ”الأوباش” وقلتُ “ينبغي ألا يُتلفَّظ بذلك”. ونفس الشيء ينطبق على العَلويين أيضًا، وهذا طبيعي في ظل عدم السعي إلى إيجاد حلول ديمقراطية تدافع عن حقوقهم الطبيعية، بل وربما عدم الرغبة في إيجاد تلك الحقوق. لقد أيّدنا “مشروع المسجد وبيت الجَمْع”، ولكنه لاقى انتقادات حادة مِن جهات غير متوقَّعة.
من ناحية أخرى، نحن لسنا حزبًا سياسيًّا ولن نكون أبدًا. بناء على ذلك فلسنا بصدد منافسةٍ مع أيّ حزب، ونقف من الجميع على مسافة واحدة. وعلى الرغم من ذلك، نتشاطر مع الرأي العام قلقَنا وآمالنا فيما يتعلق بمستقبل بلادنا. أعتقد أن هذا أمر طبيعي نمارسه بموجب حقوقنا الطبيعية والديمقراطية. ولذلك أجد غرابة فيمن ينزعجون من ذلك، فهل صار القول للمسؤولين “لديّ فكرة كذا…” تهمة؟ إن الأفراد في الديمقراطيات المتقدمة وكذلك مؤسسات المجتمع المدني التي تتشكل من هؤلاء الأفراد، يحق لهم توجيه الانتقادات وإبداء الآراء وتبادلها مع الرأي العام دون أن يسبب ذلك إزعاجًا لأي أحد.
إضافة إلى أن كل المؤسسات التي أقامها إخواننا تعمل وفق القوانين، وهي خاضعة لرقابة الدولة وتفتيشها، مما يعني أننا نتحدث عن عمل شفاف بكل معنى الكلمة. مشروع الخدمة عماده التطوع، وإنّ اتهام أناس لم يؤذوا في حياتهم أحدًا ولو نملة واحدة، ويراعون القوانين رعاية كاملة، بـأنهم “منظمة سرية” أمر باعث للأسف.
ولا يخفى عليكم أن مؤسسات الدولة فيها كل الأطياف والأفكار؛ يميني، يساري، علَوي، سُنّي، غير مسلم، كردي، تركي… كلٌّ يقوم بوظيفته التي كُلّف بها من قِبل الدولة. والأصل في ذلك أن يؤدي الموظفُ مهامه في إطار القانون. وأيًّا كانت الأفكار التي يعتنقونها، فإن تصنيف هؤلاء الموظفين أثناء عملهم في مؤسسة الدولة حسب أفكارهم وانتماءاتهم في قوائم سوداء، واتهامهم دون دليل، يمثل تجاوزًا في حقهم واعتداء على حقوقهم. وفي حال عدم وجود أي جريمة ثابتة، وادعائكم وجود دولة موازية، فإن أوهامكم هذه ستضع أمامكم ألف دولة موازية. وفي هذه الحال ستعرّضون كثيرًا من الأبرياء للظلم.

س: اتخذت الحكومة التركية قرارًا بإغلاق المعاهد التحضيرية للخدمة؟ فهل تعتقدون أن خطة الإغلاق جديدة أم كان يخطط لها من قبل؟

بدا واضحًا -بعد البيانات التي صدرت على لسان رئيس الحكومة- أن جذور قضية إغلاق المعاهد التحضيرية لا تعود إلى ما قبل شهرين أو ثلاثة أشهر؛ حيث قالوا في تلك الأيام مع ذكر أسماء وزراء التربية والتعليم: “هذا لم يستطع إغلاقها، وهذا لم يستطع، وذلك لم يستطع… أما الوزير الجديد فسيحقِّق ذلك” وما إلى هذا من الأقوال المشابهة، مما يعني أن هذه القضية تمّ التخطيط لها منذ فترة طويلة، ولعلها وعد قطعوه على أنفسهم لحساب جهات معيّنة. إذ وردت في وسائل الإعلام مزاعم بوجود مثل هذا الوعد لحساب جهات معيّنة. لقد تبيّن اليوم بصورة أكثر من السابق، أنهم لم يغلقوا تلك المعاهد انطلاقًا من نية رفع مستوى التعليم في المدارس إلى مستويات أعلى؛ إذ ظهر بشكل جلي أن النية هي منْع النشاطات التعليمية لحركة الخدمة. ها هم ينادون في الميادين أنْ “لا ترسلوا أولادكم إلى مدارسهم ومعاهدهم، بل قاطعوها”، أيْ إن نيتهم كانت البدءَ من إغلاق المعاهد ثم الانتقال إلى المدارس، ومن ثم الانتهاء بالسعي إلى إغلاق المدارس الموجودة في كافة أنحاء العالم. والملاحظات التي أبدتها السيدة “نازلي إيليجاك” في هذا المضمار، يبدو أنها تفسير منطقي لهذ الأمر؛ حيث قالت إنه من الممكن أن تكون الحكومة قد اطلعت على التحضيرات الجارية لإجراء تحقيقات الفساد تلك، وبحكم مسبق من عندها فكّرت بأنه يمكن لحركة الخدمة أن تَحول دون ذلك، فخطّطت لوضْعها كحائلٍ أمام الأمواج القادمة إليها عبر ابتزازها عن طريق المعاهد التحضيرية وشنِّ حرب نفسية ضدها. ليتهم أعلنوا عن نيتهم هذه وقالوا: “لا نريد أن تعملوا في مجال المعاهد التحضيرية” حتى لا يظلموا المعاهد الأخرى التي لا صلة لها بـ”الخدمة”. لأن الإنسان يحزن من أجل هؤلاء الناس الذين بنوا تلك المعاهد بعرق جبينهم ومحض أموالهم. وكما تعلمون إن ثلاثة آلاف من تلك المعاهد البالغ مجموع عددها حوالي 3800 ليس لها أي علاقة مع رؤية الخدمة. ثم من الضروري معرفة الأمور التالية:
أولاً؛ إن المعاهد التحضيرية ظهرت نتيجةً للعديد من جوانب القصور في النظام التعليمي التركي. فهي مؤسسات خاصة تدار من قبل أناسٍ ملتزمين بالقانون، ومؤسّسة طبقًا لمبادئ الحرّيات الخاصة التي كفلها الدستور.
ثانيًا؛ هذه المعاهد لا تتبع الخدمة بشكل مباشر، وإنما تدار عن طريق عدد من شركات القطاع الخاص المملوكة لرجال أعمال يؤمنون بأفكار الخدمة. وتخضع هذه المعاهد لرقابة الدولة من حيث مواردها المالية والمقرّرات الدراسية، كما تسدّد الضرائب المستحقّة عليها للدولة، شأنها شأن المؤسسات الأخرى. بالإضافة إلى أن هذه المعاهد المحسوبة على الخدمة، تمثل نسبة صغيرة فقط من عموم المدارس التحضيرية في تركيا.
ثم إن هذه المعاهد منذ عقود وهي تلبّي حاجة ملحّة لدى الطلبة في مجالي الرياضيات والعلوم على وجه الخصوص، بناءً على طلب أولياء الأمور في إطار القوانين المرعية، فإغلاقها بقوّة الدولة ضربة لقطاع النشاط الحر، وحرمان للطلاب من الحصول على تعليم أفضل.
ومن جهة أخرى، فالقائمون على التعليم في هذه المعاهد، يمتثلون للمبادئ الأساسية لرؤية الخدمة؛ مثل الإيجابية والاستقامة والصدق والعمل الجاد واحترام الآخر.. الأمر الذي يترك أثرًا إيجابيًّا لدى طلابهم؛ ومن ثم نستطيع أن نقول إن هذه المعاهد قد نجحت في مكافحة العادات السيئة لدى هؤلاء الطلاب، مثل التدخين، وإدمان الكحول، وحتى تعاطي المخدرات، التي تعد من التحدّيات الكبيرة التي تواجهها المدارس الحكومية في تركيا.
فإغلاق هذه المعاهد التي لم تخرق القانون والقيم الأخلاقية يومًا ما، ولم تخالف مبادئ الديمقراطية والقيم الكونية؛ ودون طلب من الرأي العام أو حتى مناقشة قرار الإغلاق نقاشًا مجتمعيًّا كافيًا، سيؤدّي بالضرورة إلى إهدار كل المكتسبات التي تحقّقت حتى اليوم.
واسمحوا لي أن أستطرد قليلاً.. ينبغي على الحكومة أن تركّز على مشاكل وقضايا أكثر جديةً وخطورةً. لقد قرأتُ منذ مدة مقالاً لواحد من أصدقائنا الأكاديميين يقول فيه إن حالات الانتحار زادت بنسبة 36% خلال 12 عامًا. كما أن انتشار عدوى تعاطي المخدرات على نطاق واسع في المدارس الثانوية آخذ في التزايد، حيث بلغت نسبة من يشربون الكحول من الطلاب 32%. ووفقًا لتصريحات طبية نفسية، ارتفع عددُ مَنْ يتلقون العلاج جراء تعاطي المخدرات 17 ضعفًا في 10 أعوام. هذه المعطيات مخيفة جدًّا تهدد أخلاقَ المجتمع وقيمَه. وإن كان الواقع هكذا، فَبأيّ شيء يمكنكم أن تفسّروا وتبرّروا إنقاذ التعليم بإغلاق المعاهد التحضيرية، بينما تشكّل هذه المشاكل الضخمة مخاطر كبيرة تهدّد نظام التعليم وحتى مستقبل البلاد؟ هل سيمنعون -بإغلاق المعاهد التحضيرية- حدوثَ هذا التشوّه والتحلّل؟
وإن هذه المعاهد، مؤسساتٌ تعليمية تمارس إلى جانب دورها التعليمي دورًا في مكافحة هذا التشوّه والتحلّل أيضًا؛ فضلاً عن ذلك، فإن قلبي يتفطّر عندما أفكّر في الفراغ المحتمل الذي يمكن أن يحدث نتيجة إغلاق تلك المعاهد في المناطق الجنوبية الشرقية من البلاد. ويصعب عليّ أن أفهم إقبال المسؤولين بهذه السهولة على تعريض وحدة البلاد للخطر في سبيل تحقيق مصالح صغيرة جدًّا.

س: هل سبق أن صوّتم في الانتخابات؟ وهل تُوجّهون محبيكم لكي يصوّتوا لحزب بعينه؟

شخصيًّا لم يُكتَب لي نصيب للتصويت إلا مرة واحدة طوال حياتي، لأنني كنت إمَّا في السجن، وإمَّا مطارَدًا، وإما محرومًا من استخدام حقوقي الشخصية، لذلك صوَّتُّ مرة واحدة فقط. لم أكُن ضدَّ الانتخابات أو التصويت قط، ولم أقصد مقاطعتها مُطلَقًا، بل إن ذلك حقّ ديمقراطي، وأحث الجميع على أن يمارس هذا الحق.
من جهة أخرى هناك غلوّ في الحديث عن الانتخابات. إن الإكثار من الحديث عن الانتخابات إلى حد الهوس، واختزال معنى الحياة في صندوق الاقتراع، حالة لا أراها تليق بالمؤمن. بالتأكيد صندوق الاقتراع مهم من أجل مستقبل البلد، ولكنه ليس كل شيء. إن إلقاء “صندوق العمل” جانبًا، والانشغال بصندوق الاقتراع فقط، مآله خروج البعض عن الجادة وانحرافهم عن الطريق، وهذا ما نشاهده اليوم.
في موضوع التصويت في الانتخابات، هذا الفقير يقول منذ القديم: “صوِّتوا حسب قناعتكم الوجدانية”. ذلك لأني أعتبر قولَ “لابد أن تصوِّتوا للحزب الفلاني” نوعًا من ممارسة الإكراه والضغط النفسي على الناس، كما أعتبر الارتباط بحزب معين نوعًا من الانفصال والابتعاد عن شرائح المجتمع الأخرى. أما موقفنا الواضح والصريح الذي أبديناه في استفتاء 12 سبتمبر 2010، فلم يكن انحيازًا لحزب بعينه، إنما كان دعمًا للمكتسبات الديمقراطية التي كان ينص عليها الاستفتاء. وإن كان لابد من قول شيء فأقول: “أيّدوا من سيقف وقفة رجولة في الدفاع عن الحقّ والحريات الأساسية والقانون والشفافية وروح التوافق والديمقراطية، أيّدوا من كان صادقًا مخلصًا سديدًا، أيّدوا من كان موقِّرا للديمقراطية، أيّدوا من يحسن التعامل مع الجوار، صوِّتوا لمن يحمل هذه الأوصاف، أي إن المعيار عندنا هي الأوصاف”. أما تعيين حزب ما باسمه، فإني أَعُدّ ذلك إهانة منِّي لفراسة الناس وعقولهم. الجميع يرى كل شيء بوضوح، لذلك لا يمكن أن أُكرِه أحدًا على أن يختار حزبًا بعينه.

س: بعد اتهامات رئيس الوزراء “الخدمة” بالمنظمة الإجرامية، هل يمكن أن نقول إن تحالفكم قد بلغ نهايته؟

إن تحالفنا كان حول القيم الإنسانية والمبادئ الكونية، ولقد دعمنا الإصلاحات الديمقراطية التي قام بها حزب العدالة والتنمية طوال مدة حكمه، لكننا كذلك انتقدنا وعارضنا الإجراءات اللاديمقراطية. ففي سنة 2005 مثلاً، انتقدنا مشروع قانون مكافحة الإرهاب، الذي كان غير واضح في تعريفه بجرائم الإرهاب، وكان سيلحق ضررًا ببعض الحريات.
لقد كان توجه حزب العدالة والتنمية العام خلال المدة ما بين 2003 و2010 ينحو نحو الإصلاحات الديمقراطية، وقد أيّدت ذلك شرائحُ واسعة من الشعب التركي. كما أن هذا بدا واضحًا في استفتاء 2010 الذي حصل على موافقة 58%. وبالفعل فقد حققت تركيا نموًّا اقتصاديًّا وديمقراطيًّا خلال السنوات الماضية، لكننا نود استمرار هذه الإصلاحات الديمقراطية. فالشعب التركي الذي دعم التعديلات الدستورية لسنة 2010 برفعه شعار “هذا جيد، لكنه غير كاف” مُستاء اليوم لملاحظة تراجع التقدم الديمقراطي في العامين الأخيرين.
أكرر مرة أخرى فأقول إننا لم يسبق لنا أن كوّنّا أي تحالف أو شراكة مع أي حزب أو مرشح. فدعمُنا أو انتقادنا كان دائمًا من أجل القيم والمبادئ. ومثل هذا التحالف لن يكون في المستقبل أيضًا. وكفاعلين في المجتمع المدني، من الواجب علينا أن نبقى منفتحين على جميع مكوّنات المجتمع. والمهم أن قيمنا واضحة؛ الديمقراطية، حقوق الإنسان الكونية، الحريات، الحكومة الشفافة والمسؤولة أمام الجميع… إلخ، وعندما تتسنى الفرصة لهم، فسيقوم أفراد “الخدمة” كأيّ مواطن آخر باختيار الأنسب بناء على قيمهم.
س: يقولون لماذا تعارضون الآن حزبًا تحالفتم معه طيلة 12 سنة؟ ألم تكن بينكما مصلحة مشتركة؟
لم نتحالف مع أي حزب سياسي على أساس مصلحي أبدًا. حافظنا دائمًا على استغنائنا، لأن الدروس التي أفدناها من القرآن والسنة كانت تقتضي ذلك. دائمًا ما اعتبرتُ السعي إلى المناصب والمساومة من أجلها خيانة للمبادئ التي آمنا بها. لا أقول شيئًا حول اجتهادات الآخرين وأفكارهم، فلكلٍّ رأيه واجتهاده، ولكن دائمًا نظرت إلى طلب الدنيا ورغبة الحصول على الإعجاب والشهرة على أنها خطر على آخرتي، وكذلك إخواني. نحن لم نطلب قط إدارة عامة، ولا منصبَ محافظ، ولا وزارة… وإذا كان بيننا من طلبوا ذلك -إلا أني لا أتذكر شيئًا من هذا القبيل- فليسوا منّا، وإنْ وُجدوا سابقًا فلم يبق أحد منهم بيننا اليوم، وقد بيّنتُ رؤيتي هذه لرجال الدولة مرارًا. نحن حاولنا وبإخلاص تقديم الدعم اللازم لتطوير الديمقراطية، والحقوق والحريات الأساسية وما شاكل ذلك، علمًا بأننا ندعم كل حزب يسعى إلى إنهاء الممارسات غير الديمقراطية وإحلال ثقافة الديمقراطية التعددية. من هذا المنطلق نقول، إن التحزّب الأعمى شيء، ومؤازرة الإجراءات الديمقراطية شيء آخر. نحن نقف اليوم في المكان نفسه الذي وقفنا فيه بالأمس. أما من بدّل مكانه فهو مَن يجب النظر إليه. تركيا مع الأسف، بدأت تنفصم عن العالم وتنعزل. إن دولةً كتركيا، إذا فقدت ثراءها الديمقراطي وانكفأت على ذاتها، لا تضرُّ شعبها فقط؛ بل تضرُّ كلَّ مَن اعتبرها نموذجًا مثاليًّا له، وعلّق عليها آماله.

س: هناك من يقول إن “الخدمة” خرقت الطاعة لولي الأمر، فما تعليقكم؟

الطاعة لأولي الأمر، لا تعني السكوت حيال أخطاء الإداريين والتخلي عن الحق والحقيقة. ثم إن مهمة “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” لا تمارَس على المواطن العادي الذي يمشي في الشارع فقط، بل تشمل الجميع. إن مجال سياسة الشأن العام مجال اجتهادي، وليس من أصول الدين الثابتة التي لا تقبل الاجتهاد، وإن الاختلاف في مجال اجتهادي أمر طبيعي للغاية. وليس بالضرورة لجماعات خدمية أو لأبناء جماعة واحدة أن يفكروا بنفس النمط من التفكير في موضوع واحد، ويتحركوا بنفس النمط من التحرك في قضية واحدة. أما إذا كنتم تعيشون في نظام ديمقراطي، فلكم الحق في أن تعبروا عن وجهة نظركم بكل حرية، وإلا فإنه نظام لا يتوفر فيه الحد الأدنى من شروط الديمقراطية. وإن ممارسة ضغوطات سلطوية استنادًا إلى مفاهيم دينية، قد يؤدي إلى نتائج سياسية وقانونية لا تُحمَد عقباها. في واقع تركيا، هناك نمط سياسي يزداد سلطوية يومًا بعد يوم، أضف إلى أنه يمارس ضغوطات على الناس ويغلّف هذه الممارسات بأغلفة “دينية”.
للأسف الشديد كانت القضية في منتهى البساطة، حيث طُرحت للنقاش بعضُ التصرفات السلبية التي بدت في جانب السلطة التنفيذية، وكان بالإمكان مناقشتها وتلافيها، ولكن ضُخّمت المسائل، وفُسّرت خطأ، وحُمّلت من المعاني ما لا تحتمل، وتم إعلان حرب عقدية ضد جماعة معينة وأعلن نفير عام ضدها، حتى إنهم أوصلوا الموضوع إلى حملة إبادة جماعية وحملة تكفيرٍ منظَّمة ضدها.
هؤلاء الذين يهتفون في وجوهنا أن “لا تثيروا فتنة”، أليس من واجبهم أن يُسدُوا النصيحة نفسها إلى القائمين على أمر الحكومة والذين اعتادوا إمطار الأبرياء بالشتم والإهانة في الساحات العامة؟ إن أناسًا لا يجرؤون على إسداء أدنى نصيحة، بل لا يجرؤون حتى على أن يومئوا إيماءة نصح لرجال الحكومة، ناهيك عن توجيه انتقاد، لا تعني أقوالهم سوى ضربات مدمرة لهذه الحركة المباركة، التي أصبح -للأسف- تحقيرها وإهانتها أرخص بضاعة وأسهل عمل.

س: لقد دعمتم حكومة العدالة والتنمية سنوات عديدة، البعض يرى أن نزاعكم يعود إلى خلافات في حلّ الأزمة الكردية، هل أنتم ضد عملية السلام في المسألة الكردية؟ وكذلك موضوع سفينة “ماوي مرمرة”، فما تعليقكم؟

سبق أن قلتُ لم نكُن في خطّ واحد بالكامل مع أي حزب سياسي في أي وقت من الأوقات، مهما كان ذلك الحزب. لقد اعتبرنا تأييد الإجراءات الصحيحة -أيًّا كان صاحبها- واجبًا إنسانيًّا. بناء على ذلك في استفتاء (2010) أدليتُ بكلمات لم يسبق أن قلتُها حتى ذلك اليوم؛ قلت إنه استفتاء من أجل الديمقراطية، وعلى الجميع أن يقول “نعم” للتغيير، أي إن مجلس القضاء الأعلى والمدَّعِين العموميين ينبغي أن يتشكل وفق إطار ديمقراطي.
أجل، لكن لم أكُن أقول تلك العبارات لأول مرة، بل قبل 20 عامًا سبق أن قلت “الديمقراطية مرحلة ينبغي أن لا نرجع عنها”، فثاروا في وجهي وأقاموا قيامة أيضًا، هؤلاء الذين يكتبون اليوم ضدِّي، فاحتجُّوا قائلين: “ما معنى هذا الكلام؟ وهل من صلة بين الإسلام والديمقراطية”؟ ولكن فيما بعد قالوا أكثر مما قلت وذهبوا في ذلك بعيدًا، وقالوا إنه يمكن التفكير في أنماط أخرى كذلك.
من ثم فتشابُه المواقف مع حزب ما، لا يعني أننا في خط واحد، ولكن إذا رأينا أنهم يمثِّلون في إجراءاتهم جزءًا من المعقولية، المعقولية من الناحية الحقوقية، والمعقولية من الناحية الديمقراطية، والمعقولية من ناحية خدمة الأُمَّة، والإيجابية في بناء علاقات طيبة مع دول الجوار، فقد نبدو متشاركين معهم في هذه المواقف، وقد نظهر معًا في نفس الصورة. أما الأصل، فإنه لم يكُن لنا أي صلة مع أي حزب سياسي ما عدا التصويت في الانتخابات، ولم يكن لنا أطماع في السلطة، ولم ندخل في مساومات سياسية مع أحد أبدًا، وإلا فلو أردنا ذلك لوجَّهْنا أناسًا في ذلك الاتجاه، ولشكّلوا العمود الفقري لذلك الحزب، ولكانت هناك أصوات أخرى، لكننا لم نرغب في ذلك قَطّ، لم يكن لنا طموح سياسي أبدًا.

عملية السلام في المسألة الكردية

أكدتُ مرارًا أن مكان المسلم إلى جانب الصلح دائمًا، فالمسلم رمز الصلح والسلام. الحقيقة أن مشاكل المنطقة (جنوبي شرقي تركيا) تلك قد تراكمت عبر عقود، وقد كان السعي لحلّها يتم بالسلاح دائمًا، وبطبيعة الحال، كبُرت المشكلة وتفاقمت. أما الآن، فقد دخلنا في مرحلة صلحٍ وتهدئة، ويجب أن لا نعطل هذه المرحلة، لأنها فرصة كبيرة لكي يعيد الطرفان النظر في الأخطاء التي ارتُكبت، وينسوا العداوة فيما بينهم.
نحن كمجتمع مدني دعمنا عملية السلام قبل الحكومة بزمن طويل. ما يقوم به هذا الفقير مجرَّد تشجيع. سبق أن قدمت للحكومة مقترَحات مكتوبة، قلتُ فيها إنه يجب بسْط أجنحة الرعاية على المنطقة؛ يجب رعاية المنطقة على الصعيد التربوي والصعيد الصحي والصعيد الديني والصعيد الثقافي… إلخ. عليكم أن تشملوهم برعايتكم، لأن الناس هناك تَعرَّضوا لمظالم كثيرة، بادِرُوا، وإلا فسيضخِّمون المشاكل هناك، ويورِّثونها الأجيال القادمة. ولكن للأسف لم يُولِ أيٌّ منهم الموضوع اهتمامًا. وعند ذلك شجع هذا الفقير الإخوة والأصدقاء والمحبين والمتعاطفين على العمل، فأسَّسوا مدارس عديدة ومعاهد كثيرة لإعداد الطلاب للجامعات والثانويات، وحاولوا أن يقطعوا طريق الصعود إلى الجبال عبر إقامة أنشطة تربوية. هذا ما حدث فعلاً.
ولكن الغريب أنه لجأ البعض إلى تشويه سمعتنا وروَّجوا أننا ضدَّ عملية السلام. كلاَّ، أبدًا، ولكن مقاربتنا لحل المسألة كانت مختلفة، فنحن ارتأينا أن يكون الحلّ من خلال التربية والتعليم، ومن خلال تأسيس روح التوافق والاتفاق، وكذلك من خلال استثمارات اقتصادية تساعد على إزالة الفقر في المنطقة، وسارت الأنشطة في ذلك الاتجاه بالفعل. ولم تقتصر هذه الأعمال على الداخل التركي، بل انتقلت إلى شمال العراق كذلك، والإخوة أقاموا هنالك نفس الخدمات. أنا لم أذهب ولم أرَ المنجزات شخصيًّا، ولكن ما تمَّ هناك عمل ملحميّ بحقّ.
إننا كأمة نعاني من ثلاث مشاكل كبرى، وقد أشار إليها الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي قبل قرن من الزمان، وهي: الجهل، والفقر، والتفرقة. وقد نتج عن هذه المشاكل؛ اليأس، والحيلة، والغدر، وعدم الثقة. وبالتالي يجب أن نتناول كل هذه المشاكل في منتدى مشترك وأرضية توافقية، ولا يمكن للمعالجات التكبّرية أو النظر من عَلٍ أن تحل هذه المشاكل أبدًا. وإذا كانت هناك رغبة في إيجاد حل وسط، فلن يتأتى ذلك إلا عبر مقاربة توافقية تشمل برعايتها كافة أجزاء المنطقة وكافة أبنائها مهما كانت أفكارهم واتجاهاتهم وانتماءاتهم. يجب أن لا نمارس الإقصاء على أحد، ينبغي أن نلتقي على أرضية توافقية مشتركة مع الجميع، السياسي منهم وغير السياسي. علينا أن نتيح الفرصة -لأبناء تلك المنطقة- لكي يتمكنوا من حلّ مشاكلهم بأنفسهم. وإذا ما وقع تباطؤ أو تهاون في هذه الأمور، فأخشى أن تتوقف مسيرة الحل وتثور المشاكل من جديد. ينبغي أن نعمل على إدخال الطمأنينة والأمن والسعادة والاستقرار في نفوس أبناء المنطقة. علينا أن نسعى إلى توفير مناخ آمن يتيح إمكانية التعايش السلمي لجميع أبناء المنطقة، بكردها وسنيّها وعلويّها وعربيّها وسريانيّها كأنهم أعضاء أسرة واحدة.
حقيقة الأمر أن افتراءاتٍ تُلصَق بالخدمة، وتَحدُث تجاوزات واعتداءات، ورغم ذلك فالصواب الذي آمنَّا به وارتأيناه، هو أن نقف كما وقف جلال الدين الرومي؛ إذ كانت إحدى رجلَينا في قلب عالَمنا الفكري وصُلْب ثوابتنا وغايتنا السامية، والرِّجْل الأخرى فتحناها للإنسانية كافةً واحتضَنَّا الجميع. هذه هي الفلسفة التي نؤمن بها، هذا خُلُقنا وهذه هي رؤيتنا إزاء الجميع، جميع الناس. ومن يعرفْ هذا الفقيرَ عن قُرب يشهد على ذلك يقينًا.
لو وقعت “ماوي مرمرة” اليوم لأبديت الموقف نفسه
فيما يتعلق بادِّعاءات سفينة “ماوي مرمرة”، فعَقِبَ حوار أُجرِيَ معي سألوني: “ما تقييمكم للموضوع؟” قلت: “حبَّذا لو استُخدِمَت الدبلوماسيةُ إلى حدِّها الأخير ولم يُلجَأْ إلى العنف، لأن ذلك سيؤدِّي إلى مشكلات اجتماعية ومضاعفات أخرى”. لا أدري كيف رَفعت الجريدة كلماتي إلى المانشيت، فكانت التفسيرات في تركيا مختلفة، أي كأنني وقفتُ إلى جانب آخرين ضد إخوتنا وإنساننا. ولكن لا، إنما أبديتُ قناعتي تلك حتى لا تحدث مشكلات أخرى. ولو حدث الشيء نفسه اليوم لأبديت نفس الملاحظات. في رأيي ينبغي أن تُستَخدَم الديبلوماسية حتى النهاية، وينبغي أن لا يُدفَع الناسُ إلى الجبهة لتُسفَك دماؤهم وتُزهَق أرواحُهم. هذا ما أردتُ أن أقوله حينئذ.

س: يتهمون حركة الخدمة بأنها عصابة إجرامية، بل هناك ادعاءات بأن المسؤولين يستعدون للقيام بتحقيقات ومداهمات ضد مؤسسات الخدمة.

مع الأسف، تقال أشياء كثيرة ضد الخدمة بغضب وعنف وكراهية. أعتقد، لم تبق إهانة في هذا الصدد إلا وقيلت، وفي الوقت نفسه، تم توجيه اتهامات جائرة وغير منصفة على شاكلة تنظيم، عصابة، ثم بعدها تُعطَى التوجيهات في محاولة للتأثير على القضاء. وقد صار هذا من الوضوح بحيث تم التصريح في الميادين الانتخابية بتحضيرات لفتح دعوى قضائية. حسنًا، إذا لم يكن هناك جريمة أصلاً، وإذا لم يثبت وجود جريمة رغم لجوئهم إلى كافة الوسائل للكشف عنها، فهل يمكن أن نتوقع عدالة في ظل حالة من التعسف الجائر لدفع سلطة القانون إلى اختلاق جريمة وأدلة لجريمة؟ إن الادعاء الوهمي والغامض بوجود “دولة موازية”، يمكن أن يوجَّه إلى كل شريحة أو طبقة في المجتمع. أعني، أن توجيه الاتهام إلى أفراد يعملون في أجهزة الدولة بسبب انتمائهم العقدي، أو الأيدولوجي، أو الطرائقي، أو الحزبي، عملٌ لا نهاية له. فإن أعلنتم اليوم جماعةً من الجماعات أنها “موازية” ووصمتموها بـ”العصابة”، فسيظهر في يوم آخر شخص آخر، ويدعي نفس الادعاءات على شرائح أخرى من المجتمع. نعم، يُحتمَل أن يُتَّهَم يومًا جميعُ الموظفين في الدولة بـ”الدولة الموازية”، بسبب تعاطفهم مع مجموعة اجتماعية، سياسية أو دينية. حتى هؤلاء الذين تلوك ألسنتُهم هذا الموضوعَ بكثرة اليوم، ربما غدًا سيتعرّضون إلى اتهامات مماثلة، لا ضمان لذلك. إذا تُرك الناس تحت الشبهة بمثل هذه الاتهامات، فعند ذلك لن يبق نظام، ولن تبق عدالة. وأؤكد وأقول إذا لم يُصغِ الموظَّف في الدولة إلى كلام مديره، فإن جزاء ذلك معلوم في القانون، إذ يعاقَب الموظف ضمن نطاق القانون. ولكن إذا حُرِّف الموضوع عن مجراه القانوني، وتم تصنيف آلاف الناس ونَفْيُهم إلى هنا وهناك بناء على قوائم سوداء زائفة، ثم رُفعت قضايا ضدهم ظلمًا، فهذا أمر لا يغفره التاريخ.
إن الضغط على القضاء، وفتح الدعاوى قسرًا، ظلم مضاعف لن يتركه الضمير المجتمعي بدون حساب. ثم إنه لَمن الواضح جدًّا، أنه لا يمكن الحصول على نتيجة قانونية من قضية ملفّقة. أضف إلى ذلك، إذا اتهمتم أبناء هذا الوطن -الذين جعلوا احترام القانون نمط حياتهم- بالعصابة، حينئذ تُسألون: منذ 12 سنة وأنتم تعملون مع هؤلاء الناس وتَصِفونهم بالطيبين.. فماذا حصل حتى انقلبوا في نظركم فجأة بعد تحقيقات الفساد والرشوة إلى أناس مجرمين؟ يجب أن لا ننسى قوله تعالى والذي يتردد كل جمعة في الخطبة: “إن الله يأمر بالعدل…”، أيْ يأمر بأن لا يؤكَل حقُّ العباد، يأمر بأن لا يُعتدى على حقوق الناس.

س: في مؤتمر عقده رئيس الوزراء في أنقرة مع السفراء الأتراك خاطبهم قائلاً: “اذهبوا وبيّنوا حقيقة هذه العصابة للعالم”، وصدرت أوامر للقيام بتشويه صورة مدارس الخدمة المنتشرة خارج تركيا. فما تعليقكم؟

كلما تردد إلى مسامعي شيء من محاولات تشويه صورة الخدمة في كافة أرجاء العالم، تفطّر قلبي ألمًا، وتوجّهتُ إلى الحق – سبحانه وتعالى- بالاستغاثة. مع الأسف، شهوة التخريب تجاوزت حدود الإنصاف. هذه المؤسسات أنشئت بتضحيات أهالي الأناضول الجسيمة. وقد شاهد معظم فئات الشعب التركي هذه المدارس؛ اليميني، واليساري، والقومي، والمتدين، واللاديني… مؤيدو حزب العدالة والتنمية، وحزب الشعب الجمهوري، وحزب الحركة القومية، وأنصار حزب الاتحاد الكبير، وحزب السعادة… معظم شرائح المجتمع… تابعوها بأم أعينهم، ولم أسمع يومًا مَن يقول مِن هؤلاء: “هذه المدارس مضرّة، ويجب إغلاقها”. إن محاربة هذه المدارس لا يمتّ إلى المنطق بشيء لا من حيث المعايير السياسية ولا الوطنية.
إخواننا الذين أسسوا تلك المدارس، أسسوها دون رغبة في منفعة مادية أو معنوية. استصحبوا معهم إلى تلك البلاد حبَّ أهل الأناضول وسخاءهم.. استصحبوا تسامحهم.. استصحبوا قيمنا الإنسانية وأخلاقنا السامية. لذا فإن تجاهُل خدمات هؤلاء الناس الذين حملوا قيمنا، وإيماننا، ولغتنا، وثقافتنا إلى كل أرجاء العالم، ليس إلا جحودًا للمعروف وإنكارًا للجميل. وإن السلام العالمي لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال تعارف الشعوب وفهم بعضها البعض.
في العام الماضي ذكروا 160 دولة فُتحت فيها مدارس، أي أقيمت معها جسور الصداقة وصلة المحبة. ورأينا ذلك في أولمبياد اللغة التركة والثقافة بصورة باهرة، ولا أحد يرفض هذه الخدمات، بل يقولون إنها رائعة. نصحيتي للمسؤولين هو لا تغلقوا هذه المدارس، بل خذوها واعتنوا بها، وإذا أردتم فاسحبوا المدرِّسين الحاليين منها. سبق أن قلت الشيء نفسه لـلجنرال “جويك بير” في انقلاب 1997، كما أرسلت إلى المسؤولين الذين يحكمون اليوم أخبارًا مماثلة مِرارًا. هذه المدارس رمز انفتاح تركيا على العالم، وقد سبق لأُمَّتنا في عهود مختلفة أن انطلقت في مثل هذه المبادرات لكي تنشر القيم الإنسانية النبيلة، وهذه واحدة من تلك المبادرات. ها قد نشأ أفراد في أكثر من 160 بلدًا يفعلون ما تفعله السفارات وممثلو الدول. هذه قضايا في غاية الأهمية، لا سيما في عالَم العولمة اليوم. فلا تغلقوا هذه المدارس بدافع الغيرة والحسد، أو لأن البعض ينسبها إلى فلان أو عِلاّن، بل اشملوها برعايتكم؛ أي خذوها، لتكن لكم، عيِّنوا أنتم المدرِّس والمدير، ولتواصل نشاطها. فكما أن العساكر لم يعودوا بجواب إيجابي قبل نحو 17 سنة، لم يعُد مسؤولو اليوم بجواب إيجابيّ كذلك. فنحن منفتحون للخيارات كافةً.. هذه الخدمات واجب ينبغي القيام به إكرامًا للمعنى الإنساني، وأيًّا كان القائم بها فمرحبًا به. هذه خدمة طيِّبة نثر بذورَها الأولى هؤلاء الإخوةُ والمُحِبُّون والمتعاطفون. وهي هي رؤيتنا، لم تتغير: “انثر البذور أنت، ثم اذهب، ودع أيًّا كان يقطف ثمارها، أيًّا كان يجني الثمرة. هذه هي فلسفتنا. لا نحمل سوى غاية واحدة؛ القيام بما ينبغي لإقامة علاقات طيبة بين أُمَّتنا والبشرية كافة. ولن نتخلف عن السير نحو هذه “الغاية الحلم”، سنواصل السعي قُدُمًا، إكرامًا لأُمَّتنا وإكرامًا للإنسانية.
إنه لَيحزنني أن أرى المساعي الملحَّة للقضاء على هذه الخدمات الطيبة، أو تشويه صورة هذه الخدمات أمام العالم. ولكن رغم كل شيء سنستمر في احترامنا للجميع، لأن هذا هو أدبنا وهذه هي أخلاقنا، هكذا كنا، وهكذا سنبقى. لن نؤذي أحدًا ابتغاء مكاسب دنيوية فانية ولن نجرح قلب أحد، بل سندعو الجميع إلى رحاب المحبة؛ سندعو، وسنبقى متمسكين في علاقتنا مع أمتنا بكلام الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي الذي يقول : “لقد سامحتُ وصفحتُ عن كل من كان سببًا فيما عانيت منه من أذى وإهانة وتعذيب. لم أذق طوال عمري البالغ نيفًا وثمانين سنة شيئًا من لذائذ الدنيا. قضيت حياتي في ميادين الحروب وزنزانات الأسر، أو سجون الوطن ومحاكم البلاد. لم يبق صنف من الآلام والمصاعب لم أتجرعه. عوملت معاملة المجرمين في المحاكم العسكرية العرفية، ونُفيتُ وشُرّدتُ في أرجاء البلاد كالمجرمين. وحُرمت من مخالطة الناس شهورًا في زنزانات البلاد.. تعرضتُ لإهانات متنوعة. مع ذلك أعلن أنني سامحت وصفحت عمن فعل بي ذلك”. نعم، لقد عاهدتُ نفسي كمؤمنٍ، أن أحمل هذه المشاعر؛ لن أقاطع أحدًا، ولن أحمل ضغينة في قلبي لأحد.. عاهدت أن أستقبل الموت باسمًا، عاهدت نفسي أن أعتبر الجفاء الصادر من الجلال، والوفاء الوارد من الجمال شيئًا واحدًا.
ووصيتي لجميع إخواننا الذين يبذلون الغالي والنفيس في المدارس المنتشرة في كل أنحاء العالم ألا يهِنوا، ولا يحزنوا، ولا يخالط اليأسُ قلوبهم. وإن هذه الخدمات الحيوية التي يقدمونها في سبيل هذه الأمة، في سبيل راهنها ومستقبلها، بل في سبيل كافة الإنسانية، سوف تواصل تقدّمها بإذن الله وعنايته، وسوف تستمر القافلة في مسيرتها إلى الأمام. ولا يمكن أن يوقف قافلةَ الأخيار -التي تسير بلطف الله وكرمه- لا الافتراءات ولا محاولات التشويه. وكل إنسان يحمل قلبًا صافيًا وضميرًا نقيًّا في أعماقه، سوف يرى ببصيرته حقيقة تلك الافتراءات.
إني أرى خطورة كبيرة في حدة خطاب أعضاء الحكومة؛ حيث يؤدي إلى التفريق بين شرائح المجتمع ويزرع الكراهية.. فهذا لعب بالنار.. فهل يعقل أن يحرّض الأب أفراد أسرته ضد بعضهم بسبب رؤاهم المختلفة؟ نحن أسرة كبيرة تمتد جذورها إلى مئات السنين، لا يليق بنا أن نتخذ من أفكارنا المتعددة وانتماءاتنا المتنوعة ذريعة لتفجير صراعات فيما بيننا. ينبغي على الجميع أن يحترم آراء الآخرين. لا يصح أبدًا احتكار حرية الرأي والتعبير في فئة بعينها لأنها تمتلك السلطة. فكما يحظى صوت الأغلبية بالاحترام والتقدير، فكذلك يجب أن تنال كل فئة شعبية -مهما كان عددها- نصيبها من الاحترام عينه. وإذا ضيّقتم الخناق على المجتمع، فهذا يعني أنكم تعملون على تفجير أحزمة الزلازل المجتمعية وتغتالون وحدة المجتمع، وهذا ثمن باهظ، يعزّ علينا انجرار البعض إليه مقابل مصالح سياسية آنية.

س: هل ستعودون إلى تركيا؟ هل من مخاوف؟

أشعر بأن بقائي هنا أفضل من الناحية الصحية. وأخشى من أن تستغل بعض الأوساط عودتي إلى تركيا ذريعة لرفع حدة التوتر السائدة حاليًّا إلى أسوء مما هي عليه الآن. لقد تعرضت لآلام كثيرة في انقلاب ٢٨ فبراير ١٩٩٧، تعرضت لمظالم عديدة على يد السلطات القضائية التي كانت تعمل بتوجيه من السلطات العسكرية، ثم تعرضت لافتراءات وتشويه. في الحقيقة كانت اتهامات لا أصل لها ولا سند ولا دليل.
للأسف الشديد الافتراءات نفسها توجَّه إليّ اليوم عن طريق الإعلام. ومن ثم في مثل هذه الظروف أفضّل البقاء هنا نزولاً عند نصحية الأطباء. لو علمتُ أن موتي سيكون حلاًّ لمشاكل تركيا لاخترت أن أموت في اليوم ألف مرة. ولكي لا أعطي مبررًا لمن يريد أن يغتال أمن تركيا وسلامها واستقرارها، فسأدفن أشواقي في أعماق قلبي وأبقى هنا مزيدًا من الوقت.

س: سبق أن وُجهت إليكم دعوة من رئيس الوزراء لكي تعودوا إلى تركيا، فهل كنتم تتوجسون من الدعوة؟

حاولت أن أحسن الظن بمن طلب مني أن أعود. وقد طُلب ذلك مرارًا من قبلُ. يومها لم أكنْ غافلاً عن النوايا الحقيقية لهؤلاء الطالبين. ولكن لم أتخل يومًا عن أدب اللياقة وحسن الظن بأهل الإيمان. قبل كل شيء، أنا فرد من الناس، مؤمن من المؤمنين. لم أحلّق عاليًا أبدًا، بل كنت أمشي -كأي إنسان عادي- على الأرض بتواضع. أمضيت جميع حياتي على هذا النحو. حاولت أن أكون عبدا لله. ولا أستبدل مقامَ العبودية بأي مقام آخر، وأرجو أن ألقى الله على هذه الحال. ليس لي أدنى علاقة مع أي جهة خارجية، ويستحيل أن يكون ذلك. ولكن الذين يلهثون وراء الجاه والسلطة والمقام والمناصب الدنيوية الفانية هم الواقعون في شباك القوى الخارجية أصلاً. هؤلاء الذين يحملون في دواخلهم روح الاستبداد وهوس الهيمنة على الدولة والتشبّث بالسلطة إلى حد الجنون، عندما قويت شوكتهم وازدادت سطوتهم، بدأوا يرون في كلّ مجموعة -ليس لها حسابات سلطوية، بل تفر من تلك الحسابات إلى التفكير بكسب مرضاة الله والفوز بالآخرة- خطرًا على أنفسهم وعلى سلطانهم. ومهما حاولوا أن يقنعوا الرأي العام بأن تلك المجموعات خطر على الدولة، ولكن غرضهم الأساسي أنهم يرونها تهديدًا لمخططاتهم الشخصية.
إنه حتى في أشد البلدان تخلّفًا عندما يُحكَم على الناس فإنما يحكم عليهم بناء على أقوالهم وأفعالهم. وجميع ما قلتُه وما فعلتُه طيلة خمسين عامًا قد تم على مرأى ومسمع من المجتمع والدولة. فلو كان لدى إنسان حسابات سرية، فهل يستطيع إخفاءها طيلة خمسين عامًا من دون أن تتسرب ولو عن طريق الإيماء والإشارة والتعبير الضمني؟
وفيما يتعلق بموضوع عودتي، فإنني سأقرر ذلك بعد التشاور مع إخواني الذين أثق بصدقهم وأمانتهم، وليس بناءً على أفكارِ مَن كان بالأمس شيئًا، وأصبح اليوم شيئًا آخر. وكما قلتُ سابقًا، إذا قررتُ العودة، فلن تكون عودتي مثل فلان أو علّان(1)، بل ستكون عودة تليق بابن رامز أفندي.. ابنه البسيط الذي كان يعمل إمامًا في مسجد “أُوجْ شَرَفَلِي”(2).

س: كيف تخرج تركيا من الأزمة الحالية؟

في مثل هذه الفترات، يجب اللجوء إلى المولى – عز وجل-، وطرْقُ بابه، والتضرعُ إليه. فمَن لا يخشى عاقبتَه، يُخشَى من عاقبته. إن الذين يحسبون أنفسهم قد ضمنوا آخرتهم واطمأنوا إلى عاقبتهم بينما يشككون في إيمان غيرهم، إن هؤلاء قد أوقعوا أنفسهم في خطر كبير. فسيدنا عمر – رضي الله عنه – كان يرتجف خوفًا على عاقبته، وعندما كان يوازن بين حسناته وسيئاته كان يقول “وددتُ أني سلِمتُ من الخلافة كَفافًا، لا عليّ ولا لي”.
إن تركيا اليوم في أمس الحاجة إلى مناخ جديد يساعدها على اجتياز الأزمة التي تعاني منها. وإنه لمن الضروري جدًّا إعداد دستور مدني جديد يضمن الحقوق والحريات الأساسية للجميع. ومن أجل تحقيق هذا الغرض، يجب أن تزداد المطالبات المجتمعية، كما يجب على الشخصيات المسؤولة والمؤسسات المعنية أن تزيد من إلحاحها في إخراج دستور يتوافق مع مبادئ الحقوق العالمية. ولكن مع الأسف الشديد يبدو أن مبادئ الدولة الديمقراطية وسيادة القانون اليوم قد أصيبت بجروح بالغة. وإن العديد من المثقفين والمفكرين ذهبوا في تحليلاتهم إلى ما ذهبت إليه. وإذا ما ابتعدت تركيا عن جوهرها وقيمها الذاتية وعن مجتمعها، فإن ذلك سيؤدي بها إلى عزلة فادحة عن العالم.
إن دور الأفراد والمجتمعات اليوم، لا يقل أهمية عن دور الدولة نفسها. وإنه لمن المستحيل أن تنفذوا مشروعًا بالإكراه من أعلى بتلقين فوقيّ أو بضغط سلطوي. ففي بداية القرن العشرين كان بديع الزمان سعيد النورسي يقول: “الغلبة على المدنيين تتم عن طريق الإقناع، لا الإكراه”. ومن ثم فإن الضغوطات التي تمارَس على المجتمعات لا يمكن أن تثمر نتائج باقية. علينا أن نعالج المشاكل بصبر وتروٍّ ويقظة وتبصّر وفراسة.

س: ما توصياتكم لمن يحبكم إزاء هذه الافتراءات والمضايقات؟ ماذا ينبغي أن يفعلوا برأيكم؟

أقول لإخواني إنكم إذا تعاملتم مع الأزمة الراهنة بالرزانة والجدية التي تليق بأدبكم، وصمدتم أمام العواصف صابرين متوكلين، فلابد أن يحل اليوم الذي ينتصر فيه العقل السليم. وحينئذ سيأتيكم بعضهم نادمًا لأنه اقترف إثم الغيبة في حقكم، والبعض الآخر خجِلاً لأنه كان مع المتورطين في الافتراء عليكم، ولكنكم ستقولون لهم “لا تثريب عليكم اليوم”، وستفتحون لهم قلوبكم على مصاريعها، ولن تتركوهم يشعرون بخجل الذنب الذي ارتكبوه. لقد حصل هذا في التاريخ مرارًا. ينبغي أن يكون شغلنا الشاغل -في هذه الفترة- أن نواصل في خدماتنا، وأن نزيد من سرعتنا، وألا نفكر بشيء آخر ونكتفي بالقول: “ستمضي هذه المحنة كما مضت شقيقاتها”.

علينا أن نلتزم بالصبر إزاء ما حلّ بنا من ابتلاءات، وعلينا أن لا نتخلى عن نزاهة أسلوبنا مهما حصل. كثيرون هم من تعرضوا لألوان شتى من المحن في فترات مختلفة من التاريخ. الإمام الرباني، أبو الحسن الشاذلي، مولانا خالد البغدادي وأمثالهم من الأفذاذ تعرضوا لمحن كبيرة. أما محنة الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي فهي ملحمة من ملاحم التاريخ. لم يبق أذى إلا ذاقه ولا مرارة إلا عانى منها. مقارنة مع هؤلاء العظام، لا نستحق أصلاً إلا أن نكون قطميرًا لهم. وبما أنكم اتخذتم سبيلهم سبيلاً لكم، ومنهجهم منهجًا لكم، فعليكم أن تستعدوا لكافة ألوان المحن والابتلاءات. لا يحق لنا أن نشكو أو نتذمر.. بل علينا أن نهتف ليل نهار ونقول: “رضينا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبسيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- نبيًّا ورسولاً”.. علينا أن لا نشكو ولا نعاتب القدَر في قرارة نفوسنا لما ألمّ بنا، بل علينا أن نتحرى مرضاة الله في قيامنا وقعودنا على الدوام. والمصائب مؤقتة تمضي وتزول. ولكن حتى لو جاءت المحنُ وجرفتنا مثل تسونامي وأودت بحياتنا، فإذا كانت علاقتنا مع الله وثيقة، فسنكون قد فزنا بآخرتنا في نهاية المطاف. ولا شك أن عشّاق هذه الدعوة المباركة، ما لم يكونوا قد استهدفوا منها غرضًا دنيويًّا، فسينالون ملكًا أبديًّا في العالم الآخر. لذا يجب على الجميع أن يثبت مكانه، ويراعوا الأوضاع والظروف، وأن لا يُلحّوا على السير في درب بعينه؛ بل حتى إذا سُدّت الطرق الرئيسية، عليهم أن يعملوا من أجل الوصول إلى المرتجى عبر طرق أخرى. أما المرتجى فهو خدمة القيم الإنسانية السامية وغرسها في القلوب. هؤلاء الرواد لم يقعوا في اليأس أبدًا، وعلينا أن لا نقع كذلك، علينا أن لا نفقد الأمل أبدًا. نحن على يقين بأن هذه الأجواء الكئيبة سوف تزول وتمضي بإذن الله وعنايته.

المصدر مجلة حراء العدد 42

الهوامش
(1) لقد روّج السيد أردوغان وبعض المنحازين المتطرفين أن الأستاذ عندما يفكر بالعودة فسيعود مثل عودة الخميني إلى إيران أيام الثورة الإيرانية. (حراء)
(2) هذا المسجد في مدينة أدرنة، حيث تولى الأستاذ وظيفة الإمامة لأول مرة أيام شبابه، ويشير الأستاذ إلى نكران الذات والتواضع. (حراء)