رَيُّ السعادتين: السالكون إلى الله في رمضان

يدنو رمضان ومعه تزدحم آمال النابهين المشتاقين، أولئك الذين رفعوا من شعبان أشرعة مواجيدهم يرجون انغماسًا بفيوض الرحمة والمغفرة عسى عتقًا ينالهم فتتحقق لهم الفرحتان.
رمضان فيض تحفيز الله للمتقربين المتخلِّصين وتهيئة المسالك لهم بتصفيد الجواذب التي ليست منهم صفدت الشياطين، حتى يواجهوا ذواتهم كما هي فيتعرفوا عليها إذ تتعرى أمامهم من كل قيد سوى أوزارها.
رمضان فيض كرم الله للقُربانيين المخلِصين، وهم المتقربون وقد نالتهم الرحمة إذ عزموا العمل ودخلوا مقام التوبة من إهمال ذواتهم ونسيان رعونات أنفسهم التي طالما اشتغلوا عنها بغيرها، وها هم قد بادروا إلى مقاريض التشذيب يهذبون نشازها ويصلحون عوَرها.

رمضان فيض تحفيز الله للمتقربين المتخلِّصين وتهيئة المسالك لهم بتصفيد الجواذب التي ليست منهم صفدت الشياطين، حتى يواجهوا ذواتهم.

والعتق فيض نور الله للمقربين المخلَصين، وهم القُربانيون وقد نالتهم المغفرة إذ أرادوا وجه الله ففازوا بتقريبه لهم لما تجلت أنواره فيهم فصاروا أولياءه بما جاهدوا فيه وأخلصوا.
ولأن هؤلاء السالكين جمعوا بين أنين الأسحار وسبح النهار فقد باتت خلواتهم معين جلواتهم، وبذلك أضحت فرحة أحدهم فرحتان؛ فرحة عند إفطاره إذ عاد ظافرًا بذاته في نور ربه كمشكاة فيها مصباح، وفرحة عند لقاء ربه وقد اشتاق إليه إذ ذاق فأحب لقاءه ومن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه.
وليس هاديهم في التحقق بتلك المنازل إلا الكتاب في إبان تنزله: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) (سورة البقرة 185)، وكأنهم يشهدونه غضًّا نديًا، بل وكأنه عليهم يتنزل، فها هم قد صفوا الأقدام خاشعين برشفون من تراتيل التراويح ما به تحيا أرواحهم (وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا) (سورة الشورى 52)، فتقشعر جلودهم ثم تلين إلى وصل الأسحار إذ تستيقظ قلوبهم لتشهد الأنوار حيث أبواب الحضرة مشرعة لمن أراد أن يدلف مع الأولياء، ينهلون أنوار المسير في الحياة كفاحا وجهادا لحياة هي الحياة.. بل فيض الحياة؛ (وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (سورة العنكبوت 64).

وليس حاديهم في سلوك تلك المنازل إلا محمد -صلى الله عليه وسلم- يَؤُمُّهم من خلوات حراء إلى الاعتكاف بمسجده عليه الصلاة والسلام، جامعًا قلبه على ربه، والروح الأمين جبريل على عهد به لا يتخلف، يدارسه القرآن مذ نزل به عليه، كذلك كان -صلى الله عليه وسلم- يشد مئزره ويوقظ أهله، يخشى عليهم فوات شهود الأوقات، كل ذلك لا يصرفه عن جلوات الجهاد إحسانًا إلى الخلق وجودًا كما الريح المرسلة، ونفرةً في سبيل الحق لم تلن أو تتخلف من بدر إلى الفتح، فما بين الخلوة والجلوة ختم محمد -صلى الله عليه وسلم- الدين وجعل رمضان بابًا ريّانًا للسعادتين، فهل من متنمذج به سالك بالله إلى الله في شهر الله؟