حوار مع د. أحمد عبادي حول كتاب “ونحن نبني حضارتنا”

في ليلة صافية من ليالي الرباط الجميلة في المغرب الجميل وبعد صدور كتاب “ونحن نبني حضارتنا” للأستاذ “فتح الله كولن” جاء حوار الأنس هذا مع الأستاذ الدكتور “أحمد عبادي” حدثنا فيه عن قصته مع الكتاب ومكابداته الفكرية والروحية أثناء كتابة المقدمة. إنها رحلة أفق فكرية عرفانية شارك فيها كوكبة من الأساتذة من أمثال الأستاذ جمال ترك، والدكتور محمد باباعمي، والأستاذ نوزاد صواش، والأستاذ شفيق الإدريسي، وكانت في اليوم الثالث من شهر فبراير من عام 2012م.

جمال تُرْك:

منذ أن نوينا السفر، كان غرضي الأول، أن أستمع من حضرتكم أستاذنا قصة التقديم لهذا الكتاب، أو بعبارة أخرى، لهذا السفر: “ونحن نبني حضارتنا”. هل يمكن أن تتكرموا علينا بالحديث عن قصة تقديمكم للكتاب “ونحن نبني حضارتنا” للأستاذ فتح الله كولن؟

* أ.د. أحمد عبادي:

الحاصل أن هذا الخبر؛ خبر ترشيحي لهذا التشريف العظيم والجمّ، أن أقدِّم هذا السفر المبارك، الـمُغني عن جملة أسفارٍ في بابه، بلغني عن طريق أخي الأستاذ نوزاد حفظه الله، فشق علي الأمر كثيرًا، أن أرشَّح إلى هذا المقام، (مقام تقديم كتاب الأستاذ فتح الله كولن حفظه الله)، فاعتذرتُ عن ذلك؛ إلا بشرط أن يكون الإذن من الأستاذ نفسه.

فعلاً، بعد فترة، أخبرني فضيلة الأستاذ نوزاد صواش أنه حصل الإذن، فدخلتُ مرحلة تشبه المخاض، فما كان مني إلا أن اصطحبت معي الكتاب إلى بيت الله الحرام، في الحج، الذي يسّر الله تعالى الاجتماع به، شبحًا وروحًا. كان يتراءى لي الكتاب كما لو كان جبلاً أشم؛ أو بحرًا خضمًّا، أدخل إلى عبابه، ولكني أجدُ أن الدفق والكثافة الموجودة في الكتاب غامرة فعلاً دفق كبير، وكثافة غامرة.

لم أستطع أن أستوعب هذا الذي في الكتاب؛ أما الكلمات فهي ذات الكلمات التي نألفها، ولكن كنت أشعر أن الزخم من المعاني ومن المشاريع الموجودة في هذا الكتاب، يتأبَّى على الاستيعاب حقيقة. فكنت أستجمع الجأش، لكي أدخل إلى غمار الكتاب مرة أخرى؛ لأن القضية التي يحملها ليست قضية عادية، ولأن الكتاب نفسه ليس كتابًا عاديًا، فيه معمارٌ لبناء الإنسان فردًا ولبناءِ الإنسان اجتماعًا، وفق منهج محدَّد، أبدى جوهرَه سيِّد الخلق صلى الله عليه وعلى آله وسلم، في سياق مخصوص، ثم قبَس الأستاذُ هذه القبسة، وهو يريد أن يستأنف هذا البناء بأدوات في غاية الفاعلية، ولكن في أسيقة متنوِّعة ومتعدِّدة وشاملة؛ في إطار من التنافس الشرس والفاتك على هذا الإنسان.

المسألة هي مسألة فيها نوع من الظفْر لكل أبعاد هذا الإنسان، وليس لبعد واحد، فكري مثلاً، أو اقتصادي، أو روحي، أو بعد من الأبعاد المفردة الأخرى، لكنَّ هذه الأبعاد كلها متضافرة متواشجة، ويراد منها أن تمثل في هذا البناء.

فلمَّا تراءى لي أن هذا الأمرَ جلل، كنتُ أشعر أن النفَس ينقطع، وأنا لا أستطيع المجاراة؛ لأنَّ الدفق الموجود في الكتاب ليس دفقًا عاديًا. فكنتُ ملزمًا إلزامًا أن أجلس وأنتظر، حتى تتبلور عندي الأنزيمات لتمكنني من هضم هذا الذي أخذتُه، إذ القضية الأساس في هذا الكتاب ليست قضية قوة معنوية فقط، ولكنها تنضح بالسعة، والشمولية، والأخذ بتلابيب الإنسان في كلِّ أبعاده، فردًا واجتماعًا.

ولقد حاولت أن أراعي الأنساق المختلفة أثناء عملية الهضم هذه، والتي كانت تأخذ زمنًا غير بسيط. فكنت أحاول أن آخذ بعض النقاط وبعض المعاني إلا أنني أمسك؛ لكن الله – جل وعز – قيّض لي من يساعدني في هذا العمل، وكان أشدَّ الناس مساعدة لي -حقيقة- المرحوم فريد الأنصاري، فما خطَّته يراعته في كتابه “عودة الفرسان” كان مدخلاً حقيقًا لي. نعم، لقد استعنت بالأستاذ فريد الأنصاري، فقلت له: “يا فريد، أخبرني عن هذا الذي استوعبتَه، أخبرني عن هذا الذي أدركتَه، عن هذا الذي استشففتَه”.

كنت أجلس إلى الأستاذ فريد الساعات الطوال، من خلال “عودة الفرسان”، فكان يخبرني، ويعطيني معلومات في غاية الأهمية؛ لأن رحلاتي التي يسرها الله – جل وعز – في كتابات الأستاذ فتح الله وفي آثاره المعنوية والبشرية والعمرانية، ولأن مجالستي لكل من فضيلة الأستاذ مصطفى أزجان والأستاذ جمال ترك، والأستاذ نوزاد صواش، ولسائر الإخوة الذين قبسوا من أنوار هذا المعين المبارك.. كل هذه أعطتني فكرة؛ ولكن وجدتُ نفسي حقيقةً غير قادر على أن أقدِّم لهذا الكتاب من خلال قراءته فقط؛ لأن مضمونه ــ كما قلت ــ مختلف أشدَّ الاختلاف عن غيره.

أمــا رحلاتي مع الأستــاذ فريـد -رحمه الله- وأجــزل مثوبته، وجلساتي مع الأستاذ فتح الله مــن خـلال الأقراص المدمجة، التــي حصـلتُ عليها أثنـــاء بعض الــرحلات إلــى اسطنبول؛ وكــذا نبضـات الأستــاذ، وطـريقة تصرُّفه، ثم إقامتي في الطابق الخامس، ودخولي إلى غرفة الأستاذ، وتعاملي مع فضائه الذي كان يتحرك فيه، هذه كلُّها كانت مساعِدات؛ ولكن مع ذلك كان يقصُر مني النفَس.

كنت أطيل الجلوس ولا أخط شيئًا؛ لأني لم أشأ أن أسيء إلى الكتاب بشيء لا يرقى إلى مضمونه الخطير، واستفرغ هذا الانتظار مني ما يقرب من عام كامل، وأنا في حال “الحالّ المرتحل” في ثنايا هذا السفر القيم. ولعل من الخصائص التي صعّبت الأمر علي، وجعلته شاقًا غير ميسور، أن محتواه ليس سردًا سجينًا لزمن معين، لكنه في غماره تشعر -إن صحَّ التعبير- أن “جدران الزمن تتلاشى”، فلا يبقى شيء اسمه القرن الفلاني، أو العصر العلاني، أو الحكم الفلاني… إنك تجد أن كل شيء تلاشى ولم يبق إلا الله تعالى، رب الإنسان؛ ولم يبق -على إثره- إلا الإنسان كما ينبغي أن يكون في كل مكان وفي كل زمان.

ورغم أن الكتاب يحلل دلالة التدافع في أبعاده المختلفة، ولكنك تجد أن الخيط الناظم لكل ما جاء في الكتاب، في تعالٍ مبهر، يرفض الانسجام أو الانحباس في فترة أو لحظة تاريخية مَا.

وفي الكتاب بحث عن “عيون الجمال” في الوجود الإنساني وعن منابع هذا الجمال، التي لا يمكن أن يتم الحديث فيها بالحفر من أجل استخراجها، إذا لم يكن الأنسان هو نفسه مستشعرًا لهذا الجمال، متصورًا لهذه المنابع.

والذي تبدَّى من خلال الكتاب -كذلك- أنه ليس بكاء على الأطلال، إذ لم يكن الأستاذ فتح الله كولن حفظه الله تكرارًا لنموذج معين، وإنما مقصده إطلاق النموذج القرآني في بناء الإنسان، فردًا واجتماعًا. هو نموذج لحضارة معتقة من كل أنواع العبودية والرهق التي يعيشها الإنسان، ولا يزال.

تستشعر وأنت تتعامل مع الكتاب أن هنالك أفقًا أنُفًا، لم يتمَّ رصده من قبل، فأنت تشعر أن الأستاذ، حتى في الفصل الذي فيه الحديث عن العلوم الإسلامية، لا يتكلم عن العلوم الإسلامية باعتبارها أمرًا قد تمَّ الفراغ منه، وتم اكتماله؛ لكنه -عكس ذلك- يرى أنه بنيان ينبغي أن يُستأنف، لارتياد تلك الآفاق الأنف التي لم يتم ارتيادها من قبل. أقول، حتى في هذا الفصل العيني، الذي كان من المفروض أن يكون مدرسيًّا تراثيًّا، أو حتى تجديديًّا بالمعنى الكلاسيكي لكلمة التجديد في باب العلوم، تجد أن هنالك الضابط نفسه، لأن ثمة آفاقًا لم تبلغ مداها الإنسانية بعدُ، فهي لم تغادر شطآنها، فأنى لها أن تغوص في أعماقها وفي فضاءاتها المختلفة؟!

الحق أنني حين اكتشفتُ هذا السر ازددتُ رهبة، لكن مع ذلك حصل شيء هام، كنت قد ذكرته للأستاذ نوزاد صواش، وهو أنَّ بناني فجأة انطلق.. كأن كل الإدراكات انتظمت.. وشعرتُ كما أنه جاء إذْن معيَّن بأن أكون قادرًا على كتابة هذا الذي فعلاً أشعر أنه ليس تقديمًا لكتاب “ونحن نبني حضارتنا”، ذلك أني لا أزعم ذلك.

ولقد رأيت أن يسمى الكتاب “كيف نبني حضارتنا”، ذلك أنه كتاب عملي وظيفي، كتاب إنساني مبشِّر؛ فأنت تشعر أنَّ تحيزه للإسلامية، هو في حقيقة الأمر انمحاء في الإلهية والنبوية، وليس انتماء إسلاميًّا بالمفهوم المتداول. فمفهوم الإسلام هنا واسع جدًا غير منحسر، ذلك أن الأفق أفق إلهي، ثم نبوي على إثره، وهو مشترك بين جميع بني البشر… والحق أن هذا الكتاب ليس فيه هذه الشنشنة التي قد تجدها أحيانًا في بعض الكتابات، من مثل الرغبة في استرجاع مجد بائد، أو استعادة مكانة معينة، بل تجد أنه تخفيف، وكما قال الله – جل وعز -: (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ)(الأعراف:157).

إني لا أزعم أن ما كتبتُ هو مقدمة، وإنما هو تقاسم لبعض ما أحسست به، وأنا لا أدعي أنني دخلت كِنَّ هذا الكتاب، ولكني لامسته لمسًا رفيقًا؛ لا أدعي أنني استوعبته حقًّا بطريقة كلية، ولكني استشففتُ بعض الذي جاء فيه لا غير.

هذا الكتاب ليس من الكتب التي تقرأ مرة واحدة، أو مرتين أو بضع مرات، وإنما هو كتاب، فهو يُسْتَنْطَق، ويُستَفْسَر، ويُجرَّب… ذلك أن محتواه لا يفهم إلا بالتنزيل الميداني، من هنا لزم تجريبه ومحاورته، وأنت تقول: “هل هذه التجربة هي مقصد هذا الفصل، أو هذه الفقرة، أم أنها شيء آخر”.

وأود أن أختم جوابي عن سؤالكم هذا، بأنه قد حصل لي شرف عظيم بهذه الثقة، وبهذا الترشيح، الذي أستشعر بكل صراحة، وبكل موضوعية، أني لست في مستواه؛ وهذا ليس تواضعًا مني، لكن لكون هذا الكتاب ثمرة لكدح -لا أقول طويل فقط- لكنه كدح عميق وعريض ومبارك، لم يقتصر على مجرد قضاء ليال وأيام في التفكر والتدبر، وليس ذلك لمجرد تعميق المعاني، وإنما هي البركة حين تحلُّ على الذي وقف نفسه لله تعالى، ومحض ذاته للذات العلية، وكان كل عمره سلمًا إلى الله تعالى، قاصدًا وناويًا دفع الناس كلهم لارتقاء هذا السلم. فدقائق الأستاذ وأنفاسه وثمراته هي بحول الله نتاج العمر الكلي الذي يسري إليه عبر أجداده من لدن المصطفى – صلى الله عليه وسلم -، وليس فقط نتاج عمره الفعلي.

فكل المكونات والنكهات والأرومات الحضارية، من الكدِّ المعروف عن أهل “أَرْزُرُوم”، إلى العزم المعروف عن العثمانيين، إلى المكابدة والنضالية المعروفة عن التركمان، إلـــى التحليــق والبــلاغــــة المعروفة عـن العــرب، إلى الدقة والغوص في التفاصيل المعروفة عن الأوروبيين، إلى الاستماتة المعروفة عن الآسيويين… كلها متكاثفة أعطتنا هذه الثمرة المباركة.

وبهذه الخاصية تبوأ الأستاذ مقام “المهندس الحضاري” بامتياز. فالدرس الذي في هذا الكتاب هو “الهندسة الحضارية”؛ أي هندسة المعمار الحضاري الشامل، وهذا الكتاب يتحدى كل من أراد أن يأتي ويناقش هذا “الجينوم الحضاري”، وكل من سأل: هل هذه الحضارة قابلة أن تنافس، وأن تزاحم، في الذكاء الكلي، أم لا؟

ولذا أعتقد أن الأستاذ “طرح همَّته” في هذا الكتاب، ولقد استهدف الأستاذ حين طرح كتابه باسم “ونحن نبني حضارتنا” حقيقة كبرى، وهي تتمثل في تحدي كل من أراد مناقشة تلكم المعاني الكبرى.

في هذا الكتاب درج الأستاذ كينونته، ذلك أن القارئ سيبحث وسيسأل: هل الأستاذ متسامح؟ هل هو متفتح؟ ما هو أفقه؟ هل هو منحبس ضمن إطار في نسق عالم ثقافي معين، أم هو منفتح على الأنسقة الأخرى؟ ثم هل الأستاذ -من خلال كل المقولات التي صدرت منه أو صدرت عنه- هل هو قرآني؟

وهذه الأسئلة ذاتها أشعرتني بعظم المسؤولية، أعني مسؤولية التناول لمثل هذا الكتاب، ولذلك تلاحظون أن الكلمات التي يسرها الله تعالى قد رامت أن تجلِّي بعض معالم الإنسان الذي صدر عنه: من هو هذا الإنسان الذي وقف هذا الموقف، وقام هذا المقام؟ قال تعالى: (وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ)(الجن:19)، مَن هو هذا العبد؟

في الحقيقة، كما ذكرتُ آنفًا، الكتاب يُتحاوَر معه، وليس كتابًا للقراءة مرة أو مرتين. وإني أحمد الله أن كتب لي هذا الشرف العظيم، وأسأله تعالى أن يعينني لأكون في مستوى هذا “الاقتران” ضمن هذا السفر: أن يقترن هذا العبد لله، بهذا العلم الشامخ. وإني أسأل الله ما حييت أن يجعلني في مستوى ذلك، والحمد لله رب العالمين.

نوزاد صواش:

في إحدى جلساتنا قلتم عن الكتاب “إنه لا يطرح أفكارًا جديدة فحسب، بل يعطينا “آلية منهجية” لإنتاج الأفكار الجديدة”. فهل يمكن أن تفصلوا لنا ذلك؟

* أ.د. أحمد عبادي:

هذا الذي قصدته “بالجينوم”، أي ذلكم الشريط “الجيني” الذي تتكون به الكائنات، فهذا الكتاب هو “جينوم” حقيقة، فيه (DNA) “الحضارة الإنسانية المرتقبة المنشودة”، التي يكون فيها الإنسان كما أراده رب الإنسان، وهذا ما يفسر أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أرسِل للناس كافة، للناس جميعًا، للعالمين:

(قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا)(الأعراف:158)، (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)(الأنبياء:107).

فمفهوم الجينوم هذا يعطيك المادة والأصل الذي تتخلق به الحضارة المرتقبة. فالأستاذ لا يعطيك هذا الأصل في “تلبيساته” المختلفة، بل يعطيك إياه في إطلاقه القابل للتنزيل في السياقات المختلفة؛ لذلك جاء الكتاب نسقًا مفتوحًا، ولم يأت نسقًا مغلقًا؛ يعني أنه جاء مثل تلك المادة المركزة التي تخلطها بما يسر الله من مكونات أخرى، فتعطيك هذا “الإكسير الحضاري المرتقب”.

الكتاب الذي جاء في هذا الإطلاق، هو عملي في إطلاقه، فيه “التنزيل العملي”، لكن غير منحبس في نسق مغلق، زمني أو مكاني ولا حتى تحيزي مطلق، فهو ليس متحيزًا حتى للإسلامية، بل هو متحيز للإلهية والنبوية؛ والإلهية والنبوية عامة كما هو معلوم.

وفي الكتاب قابلية تعدية ملَكة التناول لمثل هذه القضايا الكبرى، فهو تمامًا مثل صورة الغلاف الموفقة جدًّا، وإن كنت لا أعرف من أنجزها، فالكتاب -كما في الصورة- يمنحك أجنحة تخرجك من الأسوار نحو الإطلاق، يعني أنك ترى هنالك طريقًا، ولكن هذا الطريق يخرجك من أسوار الانسجام والنسق المغلق، بهذه الأجنحة التي منحت لك، نحو هذا الإطلاق، والذي تخف فيه الكثافة رويدًا رويدًا، فلتلاحظ أن كثافة الباب الأول في الصورة شديدة لكنها تخف وتقل عند المدخل الآخر، ثم يظهر باب آخر، ثم بعد ذلك نشاهد “الأفق الأنف” الذي لم نصل إليه بعدُ، وإننا نرى بعيدًا عمرانًا معينًا، لا تبدو ماهيته، لكنك متيقن بأنه جميل، فأنا أهتبل هذه الفرصة لكي أهنئ هذا المصمم الموفق، الذي وضع هذه الصورة للغلاف.

نوزاد صواش:

كيف لفكر أن يكون تنزيليًّا، وفي نفس الوقت موفقًا في كل الدوائر، كيف يتأتى ذلك، وأيُّ عقل يقدر على ذلك؟

أ.د. أحمد عبادي:

ليس القضية قضية عقل، إنما الأمر يتجاوز العقل، فمثلاً، في هذه اللحظة التي نجلس فيها الآن معًا، تجلس هذه الجثامين، وهي مادة، ولكنَّ هذه المادة تتحول إلى مركَبات يتيسر بها التجابر لهذه الأرواح التي تركب هذه المركَبات، وهذه المركبات فيها جهاز العقل، وفيها جهاز العضل وجهاز المضغ… فيها كل هذه الأجهزة، ولكني لا أستطيع أن أقول: “إن الأستاذ نوزاد الذي أراه أمامي أو الأستاذ جمال الذي أمامي أو سائر الإخوة المقابلين لي معناهم هذا “الساكن النوراني” الذي هو نفخة: (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي)(الحجر:29)، فهي نفخة من لدن الله تعالى، فهذا الساكن حين يتحرر من الأعصار، وتنحط عنه الأغلال، ينطلق لكي يعانق الأصل: (إِنَّا لِلهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)(البقرة:156)، فحين يعانق هذا الأصل كثافة، لا يبقى هنالك جدران ولا أرض ولا أكوان… الكل يضمحل؛ وهذا يعني أن الإنسان حين يصبح معانقًا للإطلاق أصالة، يكون -بالطبع- توقيعه وهو يتكلم، توقيعه وهو يقول، يكون ذلكم التوقيع متأبيًا عن أيِّ ضرب من أضرب التحيز، والقرآن الكريم تجده يذكّر هذه الروح، يحدوها:

فَحَيَّ على جنّات عدنٍ فإنها مَنَازِلُكَ الأُولَى وَفِيهَا المُخَيَّمُ

يحدوها إلى أن تعانق أصلها مرة أخرى. وكلما اقترب الإنسان من الجوهر القرآني الذي هو كلام الله – جل وعز -، استطاع أن يتخفف من هذه الآصار ومن هذه الأغلال؛ الآصار ليست فقط آصار تشريعية، إذ إننا حين نقرأ آية سورة الأعراف: (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ)(الأعراف:157) باعتبارها موجهة إلى بني إسرائيل، في بعدها التشريعي الذي وضعت فيه الآصار والأغلال، سوف نخطئ المعنى الكلي المتضمن، لا شكَّ أن فيها هذا المعنى، لكن المعنى الشامل لهذه الآية، هو المتجاوز لكل ذلك، والمستوعب لكل أضرب الأغلال والآصار، بما في ذلك الآصار الجثمانية. لذلك حين تخف هذه الكثافة عن طريق التزكي، طريق اللزوم لباب الله تعالى في الاغتراف بين يدي وحيه الخاتم، تتحرك آليات أخرى وتنبثق، بل أقول تندهق، كفايات أخرى في هذا الإنسان، الذي يصبح قادرًا على التعبير عن النظم، وعن الفعل، وعن القول، المتجاوز لأنواع التحيزات، لا ينطق هذا لإنسان بعقله، وإنما يستعمل عقله، يملي على عقله الذي يترجم هذه المعاني وهذه المدركات السامية، التي جاءت من حياض الملكوت ومن رياض الجبروت يتلقى هذه الأمور الموجودة في هذه التي نسميها آيات في القرآن المجيد، والتي ترجمها سيد الخلق – صلى الله عليه وسلم – لتصبح هذه الملكة لنقل المعاني، فتملي هذه الأمور على العقل المتجاوز. هنا يصبح العقل مجرد معبر، يعيد ترجمة وسبك المدركات المتعالية السامية، في شكل تعابير وبنًى لفظية، لتنقل هذه المركبات التي تُقلُّنا فنجلس ها هنا معًا.

فالكلام الموجود في هذا الكتاب، بل في كل كتب الأستاذ وفي كل افتتاحياته وفي كل المحاضرات التي يلقيها، ليس كلام عقل أو نقل من الكتب، وإنما هو وصف لما يشاهد بالمفهوم الروحي للمشاهدة، وليست استظهارًا لما حفظ أو لما تمت ملاحظته في الكون؛ بل هي عبارة عن آليات أخرى تكون ثمرة من ثمار المجاهدة التي تقلل من هذه الكثافة.

يخطيء مَن ظن أنَّ هذا الكتاب -أو كتابات الأستاذ فتح الله كولن حفظه الله بشكل عام- هي نقل لملاحظات، أو استظهار لمحفوظات أو مساجلات، أو أيّ شيء من هذا القبيل، إنما هي مدركات تأتي عن طريق المعاناة. فنحن نستشعر أن جسم الأستاذ ودماغه مكونات لنقل هذه الأمور التي ترفضها اللوعة، ويرفضها الشوق، والاحتراق، والمخافة، والمسؤولية، والحرص على التوفية والحنان والحدب وحب الخير للإنسان، أين ما كان الإنسان وحيث ما بــان، لقــد اتبـع هذا المنهج الذي يحتــاج إلــى استكشاف -حقيقةً- فهو منهج ليس فيه مخادعة لأحد، لأنه مرتبط بالكدح. والأستاذ لا يخفي هذه القضية في ثنايا كتابه، ولا في كل ثنايا كتبه، بل وحتى في حياته الخاصة. حقًّا إن وجود الإنسان وعطاء الإنسان وفلاح الإنسان مُرتهن بالمكابدة والكدح: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ)(البلد:4)، (يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاَقِيهِ)(الانشقاق:6)؛ فالأستاذ لا يخادع أحدًا، وهو لا يقول هناك عصا سحرية، أو فقط إذا قمت بهذا سوف تبنى الحضارة، بل يؤكد على الكدح والمكابدة، ثم لابد من الكسب والعكوف، ولابد من ثني الركب والمجاهدة: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا)(العنكبوت:69). فالأستاذ لا يوهم أحدًا، لكنك تجده دائم التلويح إلى الاحتراق والمعاناة والمكابدة بالمحنة… من هنا كنا في حاجة إلى استكشاف هذا المنهج، لكن الجميل أن ذلك لم يأت بصيغة التنويه، إذ الطريق سالك (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا)(العنكبوت:69).

الكتاب فيه هذا الحُداء.. يقول لك “إن هذه المجاهدة مثمرة”، ويوفَّق في إبراز ثمرتها. هذا التوفيق سبب في كتابة المعاني التي هي ثمرات خلوة للمجاهدة. فالكتاب إذن لا يمكن استكشافه نظريًّا فقط، وإنما تحتاج إلى أن تتحاور معه من خلال التنزيل التجريبي الخاضع للتقويم المستدام، مع ضمان أسرار عملية التنزيل وعدم تقطعها.

يتحدث الأستاذ في هذا الكتاب عن المعية -معية الله – جل وعز — ولكنه، استلهامًا من الوحي الذي هو الأصل والمرجع الأساس، يربط المعية بالإحسان. والإحسان له مقتضياته في الفصول الأخيرة التي تشرح معنى التزكية والتصوف، فهو يبرز هذا المعنى بجلاء، أي يبرز أن هذا الاستمداد لكنوز الغيب الذي يرجع الإنسان إلى أصل حقيقته، وهو أنه من الله تعالى وإلى الله تعالى. ويمكن أن نعتبر هذا الاستمداد سرَّ الحبكة في هذا الكتاب، لكن يجب أن نتنبه إلى أن سرَّ الكينونة بالله تعالى لا يتأتى إلا بأن يكدح الإنسان، وأن يجاهد نفسه.

والإبصار مسألة أساسية في الكتاب وعند الأستاذ، لأن الإبصار هو الذي يمكنك من السير: (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)(الملك:22).

فالكتاب ليس فيه وصفة سحرية، إنما هو يرشدك إلى البناء بكل شروطه التي في مقدمتها الكدح والمجاهدة، اللذان يتولد عنهما الإبصار، والإبصار سوف يؤدِّي إلى السير، والسير سوف يؤدي إلى الاستهداء، وهذا الاستهداء سوف يقود إلى التعاون، وهذا التعاون سوف يقود إلى التناصح، ولكن التناصح والتعاون يبقيان رهيني الصبر، إلى غير ذلك مما يتكشف أثناء قراءة هذا الكتاب وتصفحه. إنك تشعر حرص الأستاذ -حفظه الله- على أن يربط هذه المعاني الروحانية الرفرارفة والهفهافة بكثافة الواقع، يذكِّرك بأنك تحتاج إلى فنون، يذكِّرك بأنك تحتاج إلى اقتصاد، يذكِّرك بأنك تحتاج إلى طعام وإلى مصانع، لكن يذكِّرك بأن هذه ينبغي أن تتم في أصول وحسب مراعاة هذه الجوانب المحيطة، وهذا أحدث ما وصل إليه الفكر الإنساني: (وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ)(الرحمن:7)، فاستصحاب مفهوم الميزان تجده حاضرًا باستمرار.

نوزاد صواش:

أستاذي الكريم، هناك توصية تكرمتم بها لأحد تلاميذ الأستاذ فتح الله كولن حينما دعوتموه إلى إلقاء كلمة حيث قلتم: “أخي الحبيب أنت رأيت الأستاذ ودرست عليه، تَوجَّهْ وتكلم”. فما حقيقة هذه التوصية؟

* أ.د. أحمد عبادي:

حقيقتها يمكن أن نترجمها فيزيائيًّا، فلو لم يتوجه القمر إلى الشمس لما اكتنز بأنوارها ولما أضاء، لكن الاكتناز بالأنوار يحتاج إلى قابلية وإلى استعداد. الله – جل وعز – حين خلق الإنسان خلقه بقابلية الاكتناز بالأنوار أو الاحتراق بالنيران، لأن طباع الإنسان سرَّاقة كما يقال، وهذا هو مفهوم التأسي (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا)(الأحزاب:21)، وهذا مفهوم الإمامة في القرآن المجيد، فأنت تجده متعديًا إلى هذا البعد (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ)(السجدة:24). وسيد الخلق – صلى الله عليه وسلم – يقول: “مثل الجليس الصالح كمثل بائع المسك، إن لم تبتع من عنده أصابك ريحه الطيب، وجليس السوء كمثل نافخ الكِير، إن لم تحرقك نيرانه أصابك من نتن الريح”[1].

فالله سبحانه خلق الإنسان هكذا. ولذلك الله يقول – جل وعز -: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)(الكهف:28)، ونجد في القرآن المجيد مواطن ومواقع تبين أن هؤلاء الذين يزيَّل بينهم يوم القيامة، هم الذين كانوا يسرقون من بعضهم البعض الأمور السيئة، والذين يُجمع بينهم، هم الذين كانوا أيضًا يأخذون من بعضهم البعض الأمور الجيدة.

كان الواحد من الصحابة رضي الله عنهم إذا لقِست نفسه -أي عجزت- يذهبُ فينظر إلى أخيه، فيعمل على تلك النظرة أيامًا، ويكفي لذلك نظرة واحدة.. وكذلك التابعون والصلحاء في هذه الأمَّة. وحين يكرم الله – جل وعز – عبدًا من عباده بجعله من الأئمة، (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا)(الأنبياء:73)، (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا)(الفرقان:74). فحين يكرَم عبد من العباد بهذه الخصيصة يصبح في مقام الإمامة والهداية للخلق، أي يصبح شمسًا من الشموس ونجمًا من النجوم. وحين يتم بالتوجه إليه، قابلية الاكتناز بالأنوار وبالخيرات تشتغل.

الإشكال في المجال الإنساني، هو أن هناك بعض الناس الذين عندهم قابلية الإشعاع، ولكن تكون هنالك أعراض جانبية مع هذا الإشعاع. فهناك الإشعاع الذي ليست معه أعراض جانبية كماء زمزم. وكذلك الأدوية فهناك أدوية تكون معها كثير من الأعراض الجانبية. كذلك الاقتداء ببعض الأشخاص، قــد يكون وراءه نجـــاح وفاعلية، ولكــن تـكون أعــراض جــانبية -ضَيعة- من نوع ما، من درب ما، ومن شكل ما.

الوضع الوحيد -وأعي ما أقول- الذي لا تكون هناك فيه أعراض جانبية، هو حين يكون الالتحام بالهدي النبوي؛ لأن سيدنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، كان يهدي إلى الفضل وإلى الخير المحض بتوفيق الله تعالى وتسديده – جل وعز -، فليست هناك أعراض جانبية. وكلما كان الإمام على قدم سيد الخلق – صلى الله عليه وسلم – اختفت هذه الأعراض الجانبية.

فإذن التوجه ائتمام بإمـام، وليس الائتمام هاهنا ائتمام شعائر -الصلاة مثلاً- وهي ولا شك ركن، بل هي عماد الدين، وفيها تقوم بالحركة نفسها، وتحاول أن يتبع باطنك باطنها، لكنَّ الائتمام في المجال العام، وفي الشأن العام، يجعلك توقظ في قلبك ذلك الناصح الموجود في قلب كل منا، ولكن يكون وراء ذلك أغلال وآصار، إذ لا يمكن أن يستيقظ إلا بعد زوال الكثافة. فهذا الناصح يستيقظ حين يكون هناك إمام يوقظه، أي إن الإمام في مرحلته الأولى يكون ناصحًا لك من خارج ذاتك. فحين يحصل لك انتفاع بنصحه، يدخل قلبك بالمحبة، فيصبح ناصحًا لك من خارج ذاتك ومن داخل ذاتك، ويستمر الأمر على هذا الشأن فترات… فإذا بناصحك الذاتي يستيقظ ويتماهى مع ناصحك من إمامك -من خارجك ومن داخلك- فهو يقول لك “أحسنت أو أسأت”. وتَوجُّهك إليه وإن لم يكن ماديًّا وجسمانيًّا فهو معنوي وروحي؛ هنالك تستمع إلى نصحه بقوله “أحسنت” أحيانًا وقوله “أسأت” أحيانًا؛ وإلى قوله: “ما هكذا يا نوزاد…”، أو “هكذا ينبغي أن تتصرف”، لأنك تسأل نفسك، “لو كان الأستاذ في مكاني ماذا كان سوف يفعل؟”.

فالذي يزعم أنه سوف يقتدي بالنبي – صلى الله عليه وسلم – مباشرة هم الذين رسخت أقدامهم، واستيقظ ناصحهم الذاتي، لكن المقام الأول هو مقام الإمام المتوجَّه إليه، مقام الشيخ الذي تتأسى به، وبعد ذلك تصل إلى مقام هذا الناصح الذي يمكِّنك من التأسي بالنبي، ولذلك تكلموا عن مجموعة من المعاني، تكلموا عن رؤية الرسول – صلى الله عليه وسلم – يقظة، أي إنه دائم السؤال لنفسه: “لو كان سيدي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في مقامي هذا، ماذا كان سوف يصنع”، ويصبح هذا المتوجه قادرًا على الإجابة؟ لكن هذا لا يكون إلا للراسخين وهم قلة… أما من يكونون في مقامنا، فلابد من أن يكون هناك تدرج، فالتوجه هو توجه لناصحك -من خارج ذاتك ومن داخل ذاتك- المستقر في عرش قلبك بمحبتك إياه، لانتفاعك به. فانتظار أن يستيقظ بعون الله تعالى ناصحُك، من داخلك ومن خارجك يؤدي إلى حصول مدد معنوي، لأن الجدران لا وجود لها، والمسافات لا وجود لها.

نحن إن تأملنا في عالمنا هذا، ظننا أننا في “أيْس” والحاصل أننا في “ليس”، والأيس الوحيد المتفرد هو رب العزة – جل وعز -، لا شيء إلا هو. فإن مفهوم التوجه في هذه الخصيصة، تغييب للكثافة واضمحلال لها، فتصبح حاضرًا مع الأستاذ، وهو يقول لك: “هكذا ينبغي أن تقول..” يعني، تمر إليك عبر هذه القنوات النورانية كلُّ تجربته، وكلَّما صفت المحبة قوي التوجُّه، وكلما قوي التوجُّه قوي هذا المدد بهذه المعاني التي ذكرناها.

جمال ترك:

بمناسبة ما تفضلتم به “أن الإنسان معانق الإطلاق” تذكرت مقال “الاستغفار” للأستاذ فتح الله كولن في الجزء الثاني من “التلال الزمردية” يتحدث فيه عن “العودة إلى الكنزية”، وكذلك مقال “سبحات الوجه” ومقال “الواحدية والأحدية”. فالأستاذ عند كتابة هذا المقال الأخير، اشتغل عليه أسبوعًا كاملاً، أو أكثر من أسبوع. وفي ليلة من الليالي، على الساعة الثانية ليلاً، خرج والأوراق بين يديه يسأل الإخوة أن يمدوه بالنار، يريد أن يحرق ما كتب، وهو يقول: “هل ما كتبته يليق بشأن الذات الإلهية؟ هل هذه الكلمات ناسبت القدر الإلهي أم أساءت إليه” والأستاذ كما هو معلوم ينتقي الكلمات أثناء الكتابة بعناية فائقة. لكنَّ الإخوة أثنوه عن موقفه، وطلبوا منه أن يراجع مرة أخرى، ففعل، حتى اكتمل في الصورة الأخيرة. واليومَ كلما قرأت هذا المقال أحسست بمعان جديدة، ووجدت دررًا جديدة، لم أحس بها، ولم أتنبه إليها من قبل.

أستاذنا الكريم؛ لقد قلتم بأن ترشيحكم لكتابة المقدمة تشريف لكم، ونحن سمعنا من الأستاذ ذاته قال عندما علم بتولي جنابكم أمر الكتابة “إنه تنزل للدكتور أحمد عبادي من مقامه السامي”. فكيف تقيمون هذا؟

* أ.د. أحمد عبادي:

وجوم… وسكوت… وتأثر… ولم يقدر أن يقول شيئًا.

جمال ترك:

أحيانًا نقرأ بعض الفقرات أمام الأستاذ، بخاصة من كتاب “التلال الزمردية” فيقول: هل هذا مما كتبته فعلاً؟

* أ.د. أحمد عبادي:

هذا مقام الرحَّالة الذين رحلوا في أكوان المعاني. وهؤلاء الرحالة لا يهدؤون أبدًا، هم في سجود واقتراب وارتحال في أكوان المعاني هذه. ولكثرة هذه المشاهدات وهذه الإدراكات، وهذا الابتعاد رقيًّا وتقدمًا عن المنازل السالفة؛ قد تُنسى المنازل السالفة، يعني تبقى هناك ذكرى لها؛ لأن كينونة الإنسان تكون قد تشكَّلت بطريقة أخرى، ووصل إلى مقامات أخرى. تبقى هذه الذكريات التي كانت بهذه الشدة، وبهذه الملحاحية، وبهذا الضغط، لمَّا تحركت بنانه لكي يكتبها، لكي يودعها في كلمات، تبقى هذه الذكريات مثل الوكت، مثل أثر تدحرج شيء حارق على جسد الإنسان.. تبقى رسومًا وذكريات، لكنها بعيدة… بعيدة.. مثل ما يستشعر أحدنا عن بعض ما شعر به في الصبا، حين رأى البحر لأول مرة.. يعني لهذه المشاعر التي هجمت عليه وعبّر عنها بملامح وجهه، لأن العبارة ساعتها لم تكن تسعفه، هذه الذكريات تبقى حاضرة، ولكن لن يذكر عبارات وجهه ولا الملامح ولا الأصوات التي صدرت عنه ساعتئذ، أما الذين سمعوها فيذكرون. في هذه الحالة التي نتكلم عنها، عبارةُ الوجه والأصوات والملامح تعوّضها الكلماتُ، ولكن كما أنَّ هذا الصبي، إذ كبر لا يذكر عبارة وجهه، كذلك الرحالة إذ كبر ــ معنويًّا ــ وارتقى، قد لا يذكر بعض هذا الذي كتبه لنا، وانتقل إلى منازل أخرى، لذلك يكون هذا التساؤل: “الآن أنا كتبت هذا الكلام؟”؛ لأنه ارتحل إلى مقام آخر غير الذي كان فيه من قبل.

جمال ترك:

نود أن نعود إلى رحلتكم في كتاب “ونحن نبني حضارتنا” للأستاذ فتح الله كولن. بعد هذا الغوص البعيد في أعماق الكتاب، كيف يمكنكم أن تلخصوه لنا؟

* أ.د.أحمد عبادي:

هذا الكتاب عبارة عن جملة ضفائر منهجية تسكِّن ما يمكن أن نصطلح على تسميته بهندسة الحضارة. ومفهوم هندسة الحضارة مفهوم استيعابي، يضمُّ إدماج مختلف الأبعاد المشكِّلة لمناشط الإنسان، ولكن ضمن ناظم منهاجيٍ رؤيوي اعتقادي، وهو في هذه الحالة قرآني إيماني.

ها هنا في هذا الكتاب جدلية الحضارة والهداية، ولا أقول جدلية الحضارة وهداية الخلق، ولكن هي جدلية الهداية بمفهوم أشمل، ففيه الاستهداء ثم الاهتداء ثم الإهداء.

والبعد الاستهدائي هو عمل على الذات وفي الذات ومع الذات، التي يمكن أن تمتد إلى ذوات موافقة، تنخرط في هذا المشروع. والذي يبرز في “ونحن نبني حضارتنا” هو تلك الدعوة لتجديد المناهج الاستهدائية، حيث إن الأستاذ لا ينطلق بكونها أمرًا مكتملاً، قد تم الفراغ منه، وإنما ينطلق من كونها أمرًا وجب أن يكون البحث فيها جاريًا، (كَلَّا لاَ تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ)(العلق:19)، (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)(الحجر:99)، هذا عن البعد الأول، ولا شك أن القول يقصر دون توفية مقاصد الأستاذ في الكتاب بهذا الصدد حقها.

البعد الثاني الذي هو الهداية في هذا السياق العام الذي يمكن أن نسمِّيه مجال “الشهود الحضاري” قد تكلم فيه الكثيرون، وبينوا خصائص المجال الشهودي والسياقات المتراكبة فيه والأدوات والآليات المتواشجة المتضافرة فيه بحيث أنه لا يبقى عندك بعدٌ واحد، ولا مرتبة واحدة في مجال الهداية، لم يتم تناوله.

فالهداية في مجال الاقتصاد ليست هي الهداية في مجال السياسة، وليست هي الهداية في مجال الاجتماع، وليست هي الهداية في مجال التربية، وليست هي الهداية قبل ذلك وأثناءه وبعده في المجال المعرفي، ناهيك عن المجال العرفاني الذي هو أعلى شأن من كل هذا.

فنحن نحتاج إلى اطّراحٍ بين يدي الكتاب من أجل سؤاله وتثويره واستنطاقه، لكي يحرر لنا هذه الهداية في مختلف المستويات.

والأستاذ ينبه إلى أن ها هنا نوعًا من الكلاليب الجارفة للأسف، من حيث المنهج، وبالخصوص مناهج التفسير، لذلك ختم الأستاذ كتابه بالمعرفة والعلوم الإسلامية، وأعطى بوارق ولمعًا عن التجديد في هذه المجالات، لأننا سوف نجد أنفسنا مضطرين لمراجعتها شئنا أم أبينا. وهنا قضية فيها إثارة أسباب الأزمة في العالم الإسلامي: هل هي أزمة علم، أم أزمة منهج، أم أزمة تنزيل لهذه العلوم؟

والحق أن هذه الأزمات جميعها يثيرها الأستاذ بلطف دون أن يلج جدل المقابلات ونفي الأضداد ولا الثنائيات. وإنما يشير إشارات في غاية التلطف والنبل إلى هذه الإشكالات بشكل أكاد أقول عنه إنه متفرد. فالأستاذ يطرح أسئلة: بأيّ نفَس، وبأيّ فهم، وبأيّ إرادة، وبأيّ نظم، وبأيّ تنظيم، وبأيّ تكوين؟… وهكذا، دون أن يقرِّر ويقضي ويقاضي.

يطرح الأستاذ في الكتاب أمورًا تأسيسية في قضية الهداية، فإذا المجال عند القارئ يتفرع إلى جملة من المستويات، وإلى جملة من المراجعات، يجد الجواب عنها بين ثنايا السطور.

فالإهداء يعني ببعديه: الإهداء للهدية، والإهداء للناس: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)(الشورى:52)، والهداية إلى (صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)(إبراهيم:1)، لابد لها من أناسها، ومن أنفسها، بحيث إنها لا تتم بنفس قصير؛ ولا تتم في عقدين أو ثلاثة، أو في قرن أو قرنين.

الزمن المفتوح يطبع منهج الأستاذ في تناوله لهذه المسألة، ولا يسجنها في الزمن الدائري أو في الزمن المغلق، فالزمن المفتوح ليس رهينة لأحد، ولا حتى لجيل أو أجيال، وإنما هو رهينة بالإنسان بشكل عام.

ولقد ابتلي الأنسان وعرف انفصامًا، عالجه الأستاذ بشكل في ثنايا الكتاب، إذ هو انفصام بين الإنسان وأصله، بحيث إنه ابتعد وأبعِد واجتيل عن أصله بطرق متعددة أحدثت فصامًا بينه وبين ذاته. والتحدي هو في كيفية الالتحام بهذا الكيان الإنساني، خاصه وعامه، في فرديته واجتماعه، بحيث يصبح الإنسان موحدًّا، مجتمعًا على الله في ذاته وبذاته، ثم يحقق جمعية بذوات أخرى، بتوحده مع الله. وهذا ما نسميه “رأب الصدع والشرخ” الذي كان في كينونة الإنسان.

أعطى الأستاذ أهمية بالغة لهذه المسألة، أي مسألة الإنسان، بحيث تناول هذه العمليات بشكل فيه ظفر بين الإنجاز والتقويم والمظهر، يعني أن الأستاذ يقرن دومًا بين “الجلالي” و”التنظيماتي” الذي في التشريعات، وبينهما وبين “الجمالي” الذي ينضح من كلام الله تعالى وسنة نبيه المجتبى، فالأستاذ ينبه إلى منابع الجمال في الوحي، ولا يقتصر على الأبعاد التشريعية المحضة، وهذا البعد في غاية الأهمية لمن يطالع “ونحن نبني حضارتنا”.

والسؤال الجدير في الصدد هو: كيف يمكن أن نضطلع بالهداية عبر جميع مراتبها، ثم بالإهداء إلى العالم؟ أي فن الإلقاء إلى العالم بما ينبغي أن يكون خلال ذلك من قرن بين الجلال والجمال.

الأستاذ في ثنايا الكتاب يؤسس لقضية التكــامـــل، وينبه إلـــى الفوارق التي يحصل من مقتضاها التمييز بين الكمال والإتمام، أخذًا من مشكاة قول الله – جل وعز -: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا)(المائدة:3).

نجد التمييز بين التكميلي -أو الإكمالي- وبين التتميمي -أو الإتمامي-واضحًا؛ فإكمال الدين قد حصل وإتمام النعمة قد حصل، ولكنَّ هذا الحصول حصول منفتح، قادر لأن يحصل في كل زمان وفي كل مكان، شريطة أن يوجد الإنسان الذي هو “عبد لله”، الإنسان الذي يقوم لله تعالى، والذي يتلقى هذه القدرات على الاستفادة والإفادة، ثم الإقامة للتكميلي والتتميمي.

أما الدين فبفضل الله تعالى قد كمُل وارتُضي، لكنَّ هذه النعمة لابد من قلوب تتنـزل عليها، وإتمام النعمة هذا يبقى مفتوحًا عند كل جيل، لكي ينال الاستحقاق. ورغم أن رحمة الله وسعت كل شيء، لكن مع ذلك الاستحقاق يأتي بـ: (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا)(مريم:25)، لذلك نجد مكانًا بارزًا في البناء للتبتل وللعبادة وللذكر وللدعاء أثناء الكتاب، لذلك قلنا إن الكتاب يتأبى حتى على فصوله وعناوينه التي وضعت له، لأنه متواشج دائمًا، ولأنه كتب بكل هذه الضفائر المتواشجة المضفورة بعضها في البعض؛ يعني أن هذه العناوين التي تجدها في الكتاب هي فقط إجرائية، لكي تسهل عليك الأمور، وتسهل عليك القراءة والتطارح.

والهمّ حاضر في كل ثنايا الكتاب، ولا يمكن تخصيص جانب دون آخر، والمكانة التي أقامها الأستاذ للتبتل هي لا شك تؤدي إلى الخلاص الفردي والجماعي، ولكن التبتل أيضًا هو إجراء وظيفي، إذ لا يمكن ادعاء بناء الحضارات دونه. لكن هذا التبتل -كذلك- يتكامل مع المحبة، والمحبة نقرؤها ببروز في الكتاب بأبعادها الخلاصية والإجرائية. فلا يمكن أن تكون هاديًا ولا مستهديًا ولا مهديًا ولا مانحًا للهداية إذا لم تكن محبًّا، فمثلاً محبتك لسيدنا رسول الله بدر التمام والتتميم – صلى الله عليه وسلم – إذا لم تكن جلية، فإن تعاملك مع سنته لن يكون بشكل مأمول. ثم إذا لم تحب الإنسان الذي تتعامل معه، وتروم خلاصه… أنى لك أن تهديه. وقل مثل ذلك عن حبك للأكوان ابتغاءً للإحسان إليها، ذلك أنك مستخلف فيها، إذا لم تحبها فإنك لن تعمل فيها إلا بالإفساد: (وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا)(الأعراف:56).

إذن، بُعد المحبة له تجلياته التي هي تجليات خلاصية، وتجليات إغراقية. فالمحبة ليست قضية استيطيقية، أي من المحسنات، وإنما هي وظيفية، فوجودها وجود وظيفي لا تحسيني.

ونقرأ في هذا الكتاب قضية أخرى، لا تقلُّ أهمية، يمكن أن نسميها “اللوعة”، وهي ذلكم الحرص الشديد الذي يلامس وجود المتعة، حتى يصبح الإنسان مستمتعًا بأدائه للأمانة. فإنبات هذه اللوعة في الذات الفردية والجماعية والكونية هو الذي سوف ينقدح معه زند البشارات الكبرى التي جاءت في الكتاب والسنة. هذه اللوعة التي تجعل الإنسان قادرًا صابرًا مكابدًا كادحًا.. هذه اللوعة التي تمكنه من اجتياز الحجب والكثافات، وتجعله قادرًا على منازلة الشواظ التي تعترض طريقه حتى وإن كان من نار ونحاس، وبذلك فقط يتخطى العقبات وينتصر في كل المنازلات.

وقضية أخرى تناولها الأستاذ في ثنايا الكتاب، هي قضية العلم باعتباره مسألة وظيفية لابد من أن يكون التخطيط لها بمنهج لا يعارض كل ما سلف، بمعنى أن العلم وجبت مقاربته بصورة تزعزع أركان النمط السائد في تشكل العلوم، ونقل العلوم، وتلقي العلوم… (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ)(محمد:19). كل هذا كان في الأساس ثم تناول الأستاذ على إثره الإجراءات الأخرى التي بها تحصل هذه العلوم، ثم تعرض للمحاضن، والمناهج، والمدارس، والتراث… وبين كيفية التعامل مع التراث العلمي، وكيفية إعادة الإفادة منه، والاستلهام من معينه دون التوقف عنده، ولا يحصر الكتاب المسألة في العلوم الشرعية فقط، لكنه يخرج بها إلى الجوانب الكونية على إطلاقها.

ويمكننا -مرة أخرى- أن نصف الكتاب على أنه إقامة للحجة. وهذا البعد يستند إلى إظهار الإمكان، ولذلك كان بُعد إقامة الحجة في “ونحن نبني حضارتنًا” بُعدًا إمبريقيًّا، تجريبيًّا، ومن ثم كان الكتاب أشبه بالدليل الذي ينبغي محاورته، منه بالكتاب الذي تتم مطالعته فقط. نعم، إنه دليل بناء الحضارة، وهو الدليل الذي يطلق شرارة تقدح زند الحضارة، فهو إذن ليس كتابًا عاديًا كأي كتاب آخر، يحوي جملة من النظريات وجملة من الأفكار. وهذه المقاربة غير منطوق بها في ثنايا الكتاب، لكنها تستمد صدقيتها من حقيقة المؤلف وما أنجزه على أرض الواقع، ومن حقيقة الذين يَلُونه من الخلَّص… ممن سانده في شتى المجالات، وبمختلف المستويات؛ ولذلك يمكن أن يكتب عليه عبارة: “جُرِّب فصحَّ”.

ولا يخفى أن بُعد إقامة الحجة له وجه آخر هو مدى إقامة الحجة من خلال فاعلية التواصل مع العالمين، ولقد ألحَّ الأستاذ على هذه القضية مرارًا في الكتاب، فتعرض للانفتاح، والتواصل، والتعارف… مع العالمين.

نوزاد صواش:

مع هذه التحولات التي تشهدها الساحة العربية في الآونة الأخيرة، كيف ينبغي أن يقرأ الكتاب في رأيكم؟

* أ.د. أحمد عبادي:

جاذبية القوالب الجاهزة، والأجندات الدعية والمدعية، والحديث الطويل عن حقوق الإنسان، وعن العدالة الاجتماعية، والحقوق الثقافية والاقتصادية، والكلام عن التنوع والتسامح، ومسمى مجتمع المعرفة والرفاه… كل هذه القوالب التي تجعل الكثير ينساقون وراءها، لبريقها، وليسرها المذهبي، كل هذه الاعتبارات، بالتأمل والتعمق في ثنايا الكتاب، تجعلنا نقول إنه بحق مختلف عنها، فهو “ناصح أمين”، فيه علم هندسة الحضارة، وكيفية إقامتها انطلاقًا من المرجعية الحقيقية للأمة… ولذا، فإن الأستاذ لم يتبع سراب القوالب الجاهزة، وإنما هو يقول: “العمل لم ينجز بعد، فلديكم قولكم الذي ينبغي أن تقولوه، ورأيكم الذي يجب أن تطرحوه، دون نفي وإقصاء للاعتبارات الأخرى…” ولذا أقول إن الكتاب جاء في وقته، غير أنه ينبغي أن يتم التنبيه إليه، والتنبه له.

نوزاد صواش:

وكيف التنبيه إليه؟

* أ.د. أحمد عبادي:

التنبيه يكون في مستويات عديدة متعددة، منها:

أولاً، بعد نشره الأولي، ينبغي ترجمته إلى اللغات الحية، مع إعطاء الأولوية للغات الإسلامية. نعم وجب أن يترجم للإنجلزية التي أصبحت الآن لغة إسلامية؛ لكن لا نغفل الفارسية، لإنقاذ مرحلة ما بعد خاتمي في سياقها الحالي، وللخروج من فخ “صدام الحضارات” إلى “تحالف الحضارات”، وإنما بشكل باطني لا نُظمي؛ لإن إنسان الحضارات ينبغي أن يكون قادرًا على التحالف وليس الانصياع.

ثم وجب أن يترجم إلى الأردية، والسواحلية، والروسية، والفرنسية بقصد نفع شعوب إفريقيا، ثم الإسبانية… وليترجم إلى العبرية إن أمكن.

ثانيًا، قراءة الكتاب قراءة مسؤولة، من قبل أناس يشعرون بثقل المسؤولية. وكذا قراءة تأسيسية يستدعى إليها المكابدون والمعانون، ولتكن بين ثلة قليلة من أهل الهمة وأهل الحرقة، وليشارك فيها ثلة من تلاميذ الأستاذ، ولتتم بأسلوب ونسق مفتوح منفتح؛ أي لا يقرؤونه كما يقرؤونه بينهم، ولكنهم يقرؤونه للعالم، وليستدعى بعض أهل المعاناة من الحضارات الأخرى، من الذين يعانون ليروا شيئًا جديدًا، وليتجاوزوا أزمات هذا العالم اليومَ… ولتتم القراءة في أقطاب جاذبة، أقترح أن تكون “روما” مثلاً؛ لأنها قطب جاذب على مستوى العالم.

جمال ترك:

يعجبني هذا التوافق مع ما جاء في مقال للدكتور إبراهيم بيومي غانم، حول مقال “الوعي الجمعي” للأستاذ فتح الله كولن الذي نشر في العدد 25 من مجلة حراء، وهو بمثابة رسالة إلى الثورات العربية؛ فالتوافق من جهة استعماله مصطلح “الناصح الأمين”، وأنتم الآن تذكرون نفس المصطلح.

د. محمد باباعمي:

سؤالي الأول عن “الحجية”، ونحن ندرك أن القرآن الكريم قد بلغ الحجة، فما مقام كتاب “ونحن نبني حضارتنا” من القرآن الكريم، وما مقام القرآن الكريم في الكتاب؟

أما السؤال الثاني فعن مكانة الكتاب في سلسلة مؤلفات الأستاذ الأخرى، في أيِّ مقام نصنفه؟

* أ.د. أحمد عبادي:

بالنسبة لسؤالك الأول عن القرآن المجيد (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ)(النساء:165)، فخاتم الرسل جاء بهذا الوحي، ومن ثم لا يمكن أن تكون هناك أي حجة بعده. والرسل جاؤوا بالحجة من خلال إظهار الإمكان، وهو ما نسميه “نقض الاستحالة”. فالرسل الكرام إذن ينقضون الاستحالة بإظهار الإمكان، كما أظهر موسى عليه السلام الإمكان من خلال نشأته في قصر فرعون، وأظهر إبراهيم عليه السلام الإمكان وهو ابن صانع الأصنام. وكذا بداية الحضارة من خلال امرأة ضعيفة وهي هاجر عليها السلام، مع رضيعها، في واد غير ذي زرع… فمن هذا المحتد تنشأ أعظم حضارة على الإطلاق، أي ليس هناك استحالة، ولذلك كانت حضارة “الله أكبر” هي حضارة كونية ناقضة للاستحالة، مواصلة مسيرة الرسل عليهم السلام؛ من هنا وجب على الأتباع إلى يوم الدين أن يستأنفوا المسيرة، بهدي هذا الوحي، فيظهرون الإمكان، وينقضون الاستحالة، وهذا بالضبط ما قام به الأستاذ فتح الله كولن.

فهو يظهر الإيمان وينقض الاستحالة وسط المدلهمات الخطيرة: الغرائزية، والشبهاتية، والشهواتية، والنظمية… التي تغزونا من كل حدب وصوب. فالأستاذ يبين أن الإمكان موجود، وأن التقاط الموجة الصافية لا يزال ممكنًا، وأن حوارك مع وحيك ورجوعك إلى أصلك لا يزال ممكنًا.

فحجية ما يقوم به الأستاذ مستقاة من مشكاة القرآن المجيد، ومن مشكاة سيدنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم -؛ لأن مهمة الأنبياء، ومهمة كل أتباع الأنبياء هي (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ)(النساء:165). وأنت تعلم أن هذه القضية بدأت في تركيا، وما أدراك ما تركيا، حيث كلمة الدين كانت شبهة لحدِّ ذاتها. ففي خضمِّ هذا المحيط القاسي كل هذه القسوة على الدين، وعلى كل ما يمت بصلة إلى الدين، ولا سيما من الناحية النظمية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية… في هذا الكيان خرج الفضل كله، بمعنى أنك أنت في بلدك[2]، أو في غيره من بقاع العالم الإسلامي، أنت أكثر قدرة على أن تحقق هذا التمكين. من هنا كان الكتاب إقامة للحجة، من خلال إبرازه لمعالم الحضارة، وهندسة الحضارة.

أما سؤالك الثاني فهو وثيق الصلة بالأول، ويمكننا أن نقول إن ظهور الكتاب في هذا الوقت، وفي هذه اللحظة هو ظهور قدري، لأنه من الناحية التدبيرية يبدو أنه ظهر أوان الاكتمال، ومن ثم نشبهه “قبة في البناء”، فكتاب “ونحن نبني حضارتنا” قبة في بناء يكاد يكون بفضل الله تعالى مكتملاً؛ فالقبة بكل ما ترمز إليه من سطوة، وإظلال، واستيعاب، وتغطية، وشدّ لأركان البناء، ومن إعطاء معنى لهذا البناء، كل هذه الدلالات نقرأها في هذا الكتاب. ثم إنا لنرجو فوق ذلك مظهرًا؛ وهنا بقي لنا الكثير، من نقش، وفرش، وتسمية… الخ.

د. محمد باباعمي:

عندما نزلت (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ)(النصر:1) كان الناس يفرحون، أما أبو بكر – رضي الله عنه – فكان يتألم؛ لأنه فهم منها الاكتمال والكمال.

* أ.د. أحمد عبادي:

بالنسبة للأستاذ، فإن هذا الجهد بحول الله مستمر، بحيث إنه متابعة لمهمة الأنبياء التي لا تنتهي، فالأمر أشبه بمن أراد أن يصبغ نهرًا، لا يمكن أن يزعم أنه فعل إذا لم يواصل صباغته عبر أجيال، لا من خلال جيل واحد فقط… ما دام النهر دافقًا، كانت الصباغة مستمرة.

أي نعم، ها هنا ليست صباغة، لأن الأستاذ ليس ظاهريًا؛ وأنت تعلم أن “الميتافورات” يجب أن تكون متجاوبة مع سياقاتها، لذلك نقول: “تصفية النهر”؛ فتصفية النهر يجب أن تكون مستمرة، فلا يمكنك أن تصفي صبيبًا وتنتهي، والمصفاة إذا لم تجددها سوف تختنق، ولن تكون قادرة على أداء دورها، فتكون سببًا للهدر. لذلك وجب أن تجدد تصفية هذه الأجيال، وبناء هذه الأجيال… هي تصفية كتصفية النهر لزم أن تكون مستمرة.

لذلك، فإن التنزيل سوف ترافقه كثير من الأمور التي وجب أن تستدرَك، وبحول الله تعالى فإن الأستاذ سيواصل الكتابة والإبانة، ولذلك أعتقد أن جيلاً جديدًا من كتابات الأستاذ سيظهر.. جيلٌ من الكتابات التقويمية والإجرائية، أعني إجراءات التنزيل.

فالمستوى الأول كان هو التوجيه، فالتخطيط، فالتشريع، فالتنظيم، ثم التعيين، ثم التمكين، ثم الإنجاز، ثم التقويم، ثم مراجعة التوجيه… فهي سلسلة ثمانية لا تنتهي، دائرية لا تتوقف… من هنا أقول إن جيلاً جديدًا من كتابات الأستاذ سيرى النور بحول الله تعالى.

وبيان ذلك أن “النور الخالد” كتبه الأستاذ لنفسه، قبل أن يكتبه لغيره؛ ولذا كانت محتوياته أبحاثًا فيها كدح ومكابدة من قبل الأستاذ لكي يتعرف أكثر على محبوبه، فلا يخطئ في حقه، ويستطيع أن يوفيه بعد ذلك حقه، ثم بعد أن كتبه لنفسه، وانتفع به هو، نقله للناس ونفع به الخلق؛ ف”النور الخالد” إذن يأتي في المرحلة التأسيسية.

وحديثي عن المكابدة أن الأستاذ دائمًا يكون قبل الدرس في مخاض، فيكف عن الكلام، وعن المخالطة؛ أي إنه يكون كالمرأة الحامل، توشك على الوضع. وصدق أن نقول: إن الأستاذ لا يستظهر محفوظاته، لكنه يصف مشاهداته، وهذا مستوى أعلى من الإلقاء. والخلاصة أن “النور الخالد”، “والتلال الزمردية”، “ونحن نقيم صرح الروح”… وغيرها، جاءت في المرحلة التأسيسية؛ والآن قد انتقل الأستاذ إلى الظفر، وجمع ما تفرق.

د. محمد باباعمي:

يدافع الأستاذ عن الجيل الآتي، فكيف يحدد الأستاذ دور هذا الجيل؟

* أ.د. أحمد عبادي:

الأستاذ في كتابه يشير إلى أن لا أحد يقدر على تحديد الدور لأي إنسان، فالكل يحدد دوره بنفسه. فكما أن البناء في حاجة إلى إسمنت، وزليج، وفسيفساء… كذلك الإنسان عليه أن يستنطق قدراته هو، لكي يحدد ماهية هذه القدرات ومتى إبّان تدخله بها. لكن، في الآن ذاته، هناك المشرف على البناء والمهندس، الذي من دوره استبانة المؤهلات عند المرشحين للانخراط في عملية البناء، فدوره دور تأطيري وتوجيهي، حتى لا يخطئ أحد في حق ذاته، فيظن أنه من أهل الفسيفساء مثلاً، لكنه هو من أهل الإسمنت. فهي جدلية إذن، فمن جهة أنت تصقل ما بداخلك، ويأتي الخِرِّيت الذي يدلّك على أمثل موقع لك. فأنت تبدأ ذاتيًا، ويكون الاحتضان بعد ذلك من قبل الخِرّيت، الذي يضعك في مكانك اللائق بك. فالخريت اليوم موجود، ونحن بحول الله جميعًا محتَضَنين، نسأل الله تعالى أن يجعلنا من المخلصين.

جمال ترك:

سمعت من جنابكم، أن الأستاذ من خلال هذا الكتاب “طرح ذمته”، فهذا كلام عميق، فما تفسيره؟

* أ.د. أحمد عبادي:

نعم، الأستاذ بإقدامه على خط هذا الكتاب قد “طرح ذمته” أمام العالمين، يعني أنه يقول: “هاؤمُ اقرأوا كتابي، هذه رؤيتي للأشياء”. فقد استهدف، ولكنه استهدف وهو موقن، ولم يُلقِ الكتاب إلا بعد أن أيقن أنه ألقاه بإذن الله تعالى، فليقرؤوه إن شاؤوا. فالكتاب مهم جدًّا، إذ الأستاذ -كما ذكرتُ- طرح ذمته بامتياز، وكان الطرح في مأمن بفضل الله؛ لأن الكتاب اندهق اندهاقًا، وانبثق انبثاقًا، ولم يكن كتاب رصفٍ للكلمات؛ فالأستاذ فوض أمره لله.. بقيت المسؤولية مسؤوليتنا جميعًا، وهي أن نوفي الكتاب حقه، بحول الله تعالى.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]     أخرجه البخاري في صحيحه بنحوه، كتاب الذبائح والصيد، باب المسك، حديث رقم: 5534. ومسلم في صحيحه مع اختلاف يسير في اللفظ، كتاب البر والصلة والآداب، باب استحباب مجالسة الصالحين، ومجانبة قرناء السوء، حديث رقم: 2628.

[2]     جاء ذكر الجزائر، الآن الدكتور محمد باباعمي في الجزائر.

المصدر: مجلة حراء