خَلْق واحد وتعددية في المخلوقات

يتحدث القرآن الكريم عن الكون -بعوالمه المختلفة- باعتباره “خلق اللّٰه”: ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ * هَذَا خَلْقُ اللّٰهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ﴾(لقمان:10-11)، فهذا الكون، خلقٌ واحدٌ لخالق واحدٍ.
لكن عوالم هذ الخلق الواحد لا يعلم عددها إلا اللّٰه سبحانه وتعالى، بل إن التعددية والتمايز والاختلاف هي عوالم وآيات إلهية تتنوع إليها وتتمايز فيها كل وحدة من وحدات هذه المخلوقات.
فكل صنف من أصناف الأحياء المخلوقة يتنوع ويتعدد إلى أمم وجماعات، فتقوم التعددية في إطار هذا النوع من الأحياء، كما قامت التعددية في إطار الخلق الحي الذي خلقه اللّٰه سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾(الأنعام:38). وهذه الأرض التي خلقها اللّٰه سبحانه وتعالى وسوّاها، فيها ألوان وألوان من التعددية والتنوع والتمايز والاختلاف، فهي سبع أراضين: ﴿اللّٰهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللّٰهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللّٰهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾(الطلاق:12).

أرض واحدة وعوالم عديدة

وفي هذه الأرض تنوع وتعدد لا يعلم عدده إلا اللّٰه؛ تنوع في الجبال الرواسي والأوتاد التي تحفظها أن تميد، وتنوع في الأنهار -المالحة والعذبة- تنوع بواسطة البرازخ التي تخالف وتمايز مياه كل بحر من البحار ونهر من الأنهار، وتنوع في طبائع قطع الأرض المتجاورات، وتنوع في الثمرات التي تثمرها ذات الأرض الواحدة التي خلقها اللّٰه سبحانه وتعالى… عالم، بل عوالم من التعددية والتنوع والاختلاف، التي لم يحص العلم الإنساني أعدادها في إطار هذه الأرض: ﴿وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾(الرعد:3)، ﴿وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾(الرعد:4)، ﴿وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ﴾(النحل:13). ففي هذه الأرض الواحدة عوالم عديدة من التعدد العجيب.. “فيها قطع يجاور بعضها بعضًا، وهي مختلف التربة مع ذلك، بعضها قاحل وبعضها خصب، وإن اتحدت التربة ففيها حدائق مملوءة بكروم العنب، وفيها زرع يحصد ونخيل مثمر، وهي مجتمعة ومتفرقة، ومع أنها تسقى بماء واحد، يختلف طعمها… وعلى سطح هذه الأرض خلق اللّٰه سبحانه وتعالى كثيرًا من أنواع الحيوان والنبات والجماد، وجعل في جوفها كثيرًا من المعادن المختلفة الألوان والأشكال والخواص. وإن في هذه العجائب لدلائل واضحة على قدرة اللّٰه سبحانه وتعالى لمن له عقل يفكر به…”.(1)
ومثْل الأرض -في التعددية والتنوع بإطار الوحدة- جاء خلق اللّٰه سبحانه وتعالى للسماء، فهي سبع سموات. وفيها ما لا يعلم عدده إلا اللّٰه من عوالم الكواكب والنجوم المجرات: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾(البقرة:29)، ﴿إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ﴾(الصافات:6)، ﴿وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾(فصلت:12).
وبالشمس والقمر تعدد المنازل والمدارات، والمشارق والمغارب، والليل والنهار، بالنسبة لكل موقع على سطح الأرض وفي كل لحظة من اللحظات: ﴿وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لاَ الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾(يس:37-40)، ﴿إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ * رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ * إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ﴾(الصافات:4-6)، وعوالم من التعددية والتنوع والاختلاف في إطار السماء التي خلقها اللّٰه سبحانه وتعالى.

ماء واحد وأصناف متعددة

وهذا الماء الذي أنزله اللّٰه من السماء، منه العذب السائغ شرابه، ومنه الملح الأجاج، ومنه البحار والأنهار وما سلكه اللّٰه سبحانه وتعالى في الأرض ليتفجر عيونًا وينابيع، مع التنوع الذي يدركه علم الإنسان في الطعوم والخصائص ودرجات الحرارة والمكونات: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّٰهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأُولِي الأَلْبَابِ﴾(الزمر:21)، ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾(فاطر:12)، ﴿وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا﴾(الفرقان:53).
ومن هذا الماء الواحد تخرج عوالم وألوان وأصناف متعددة ومتنوعة ومتمايزة ومختلفة من الثمرات: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّٰهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ﴾(فاطر:27)، ﴿وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللّٰهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللّٰهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ﴾(فاطر:28)،
﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى﴾(طه:53)،
﴿كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لأُولِي النُّهَى﴾(طه:54).. “فاللّٰه سبحانه وتعالى أنزل من السماء ماء فأخرج به ثمرات مختلفًا ألوانها، منها الأحمر والأصفر والحلو والمر والطيب والخبيث، ومن الجبال جبال ذوو طرائق وخطوط بيض وحمر، مختلف بالشدة والضعف، ومن الناس والدواب والإبل والبقر والغنم مختلف ألوانه كذلك في الشكل والحجم واللون.. ثمرات مختلفات الألوان، يروي شجرها ماء واحد، وجبال من ألوان مختلفة يرجع أصلها إلى مادة واحدة. وهكذا سنة اللّٰه واحدة، لأن الأصل واحد والفروع مختلفة متباينة”.(2)
وهذه الرياح التي خلقها اللّٰه سبحانه وتعالى هي الأخرى عوالم من التنوع والتميز والتعددية والاختلاف منها ﴿رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ﴾(آل عمران:117)؛ أي برد شديد أو سموم حارة، ومنها ﴿رِيحٍ طَيِّبَةٍ﴾(يونس:22)، وأخرى
﴿رِيحٌ عَاصِفٌ﴾(يونس:22)؛ أي شديدة الهبوب والتدمير، وقد تأتي ﴿قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ﴾(الإسراء:69)؛ أي عاصفًا شديدًا مهلكًا يقصف الأشجار، وكذلك ﴿الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً﴾(ص:36)؛ أي لينة منقادة، ومنها ﴿الرِّيحَ الْعَقِيمَ﴾(الذاريات:41)؛ المهلكة لمن ولما أصابته، وفيها ﴿بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ﴾(الحاقة:6)؛ باردة لها صوت شديدة مزعج.. ومن أصنافها ﴿الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ﴾(الحجر:22)؛ للنبتات حاملة لقاح التذكير إلى الإناث، ومنها ﴿الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ﴾(الروم:37)، بالمطر؛ تلك التي تثير السحاب الحامل للماء ﴿اللّٰهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾(الروم:48). عالم من التعددية والتنوع، ذلك الخلق الواحد الذي أبدعه بديع السموات والأرض سبحانه وتعالى.

السببية والأسباب في الخلق الإلهي

وإذا كانت “كلمة اللّٰه” هي “خَلْقه”، فإن التعددية والتنوع في هذا الخلق، هي عوالم لا يدري إحصاءها ولا مداها إلا اللّٰه سبحانه وتعالى، بل لو أن أشجار الكون تحولت أغصانها إلى أقلام، وبحار الوجود تحولت إلى مداد لهذه الأقلام، واستدام الإمداد لهذه البحار بالمداد، لما استطاعت هذه الأقلام أن تحصي ما في خلق اللّٰه من تعدد وتنوع وتكاثر واختلاف: ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللّٰهِ إِنَّ اللّٰهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾(لقمان:27)، ﴿قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا﴾(الكهف:109).
وهذا الخلق الواحد الذي أبدعه الخالق الواحد الأحد، قد أودعه خالقه وبث فيه العديد من الأسباب الفاعلة التي تفعل فعل الضرورات في المسبَّبات الناتجة عن هذه الأسباب، وذلك دون أن يكون هناك -في الرؤية الإسلامية- أيّ تناقض بين كون الخالق سبحانه وتعالى -وهو السبب الأول لكل الأسباب والمسببات- وبين وجود وعمل جميع الأسباب في جميع المسبَّبات.
فنحن -في قضية السببية والأسباب المودعة والمبثوثة في الخلق الإلهي- لا نجد أنفسنا إزاء أي تعارض أو تناقض بين الإيمان بواحدية السبب الأول في الخلق، وبين تعدد الأسباب الفاعلة في المسبَّبات، فهي فلسفة لم يختلف فيها مسلم. حتى حجة الإسلام الغزالي الذي توهم ويتوهم البعض إنكاره لعمل الأسباب في المسبَّبات، فإننا نجده يقول: “إن الأسباب والمسببات يتأدى بعضها إلى بعض في الدنيا بترتيب مسبب الأسباب. واللّٰه تعالى غير عاجز عن الإشباع من غير أكل، والإرواء من غير شرب، والإنشاء من غير مصاحبة وقاع، والإنماء من غير رضاع، ولكنه رتب الأسباب والمسببات، ولذلك أمر وحكمة لا يعلمها إلا اللّٰه تعالى والراسخون في العلم”.(3)

تعدد الأسباب سنة إلهية

فمسبب الأسباب قد شاءت حكمته أن تتعدد الأسباب الفاعلة في خلقه، وأن تترتب أفعاله على هذه الأسباب والقوى التي أودعها وبثها في هذا الخلق، جاعلًا ذلك سنة من السنن وقانونًا من القوانين الكونية التي لا تبديل لها ولا تحويل، حتى ليقول ولي اللّٰه الدهلوي (1110-1176هـ) في شرح الآية الكريمة ﴿سُنَّةَ اللّٰهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللّٰهِ تَبْدِيلًا﴾(الأحزاب:62): “اعلم أن بعض أفعال اللّٰه يترتب على القوى المودعة في العالم بوجه من وجوه الترتب، شهد بذلك النقل والعقل؛ قال رسول اللّٰه صلى الله عليه وسلم: “إن اللّٰه خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على قدر الأرض، منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك، والسهل والحزن والخبيث والطيب”. وسأله عبد اللّٰه بن سلام: ما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه؟ فقال: “إذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزعت”.(4)
فالخلق واحد، أودع الخالق فيه العديد من الأسباب والقوى الفاعلة في المسببات. فتعددية الأسباب في إطار وحدة الخلق وواحدية خالق الأسباب والسبب الأول فيها معلَم من معالم التصور الإسلامي للكون الذي يعيش فيه الإنسان، له آثاره على قضية التعددية في ثقافة هذا الإنسان. وإذا كان “العالم” واحدًا، فإن هناك تعددية في زاوية الرؤية لهذا العالم باعتبار موقعه من “القِدم” ومن “الحدوث” تفضي إلى تعددية في الحكم على هذا “العالم” الواحد، باعتبار حظه من “القدم” أو “الحدوث”، بل إن هذه التعددية في زاوية الرؤية قد حلت -في الفلسفة الإسلامية- إشكاليات لم تجد لها حلولا -تبعد الثنائيات المتناقضة- في الفلسفات غير الإسلامية.

قِدم العالم وحدوثه

فالذين قالوا بقِدم العالم نظروا إليه من زاوية شبهه بالقديم وباعتبار الأجرام العلوية التي لا يعتريها الكون والفساد، بينما الذين قالوا بحدوثه قد نظروا إليه من زاوية شبهه بالمحدثات. فالتعددية إنما هي في زاوية الرؤية، والحقيقة أن هذا العالم ليس خالصًا في القِدم ولا خالصًا في الحدوث. وبعبارة أبي سليمان السجستاني (391هـ) فلقد “عرض الاختلاف بين الناظرين في العالم، أقديم هو أم محدث لأمر لطيف؛ وذلك أن الناظر إلى المركز وجد الشيء الفاسد، فحكم أن الحدوث والقدم قد تعاقبا عليه قدم بالزمان، وحدوث أيضًا بالزمان، فرأى أن الحكم بأنه محدَث واجب. والناظر إلى الأجرام العلوية وجد ما لا يكون ولا يفسد ولا يعتريه دثور، فحكم بأنه قديم. فكان النظران صحيحين من الجهتين المختلفتين”.(5)
ولعل عبارة ابن رشد هي الأدق والأبلغ، تلك التي يقول فيها: “وأما مسألة قدم العالَم أو حدوثه، فإن الاختلاف فيها عندي -بين المتكلمين من الأشعرية وبين الحكماء المتقدمين- يكاد أن يكون راجعًا للاختلاف في التسمية. وذلك أنهم اتفقوا على أن ها هنا ثلاثة أصناف من الموجودات: طرفان، وواسطة بين الطرفين، فاتفقوا في تسمية الطرفين واختلفوا في الواسطة.
فأما الطرف الأول فهو موجود وُجد من شيء غيره وعن شيء؛ أعني عن سبب فاعل، ومن مادة، والزمان متقدم عليه؛ أعني على وجوده. وهذه هي حال الأجسام التي يدرك تكونها بالحس، وهذا الصنف من الموجودات اتفق الجميع على تسميتها محدَثة. وأما الطرف المقابل لهذا فهو موجود لم يكن من شيء ولا عن شيء، ولا تقدمه زمان، وهذا أيضًا اتفق الجميع على تسميته قديمًا وهو اللّٰه تبارك وتعالى.وأما الصنف من الموجودات الذي بين هذين الطرفين، فهو موجود لم يكن من شيء ولا تقدّمه زمان، ولكنه موجود عن شيء؛ أعني عن فاعل. وهذا هو العالَم بأسره، وبَيّنٌ أنه قد أخذ شبهًا من الوجود الكائن الحقيقي ومن الوجود القديم. فمَن غلَّب عليه ما فيه من شبه القديم على ما فيه من شبه المحدثات، سماه قديمًا، ومَن غلَّب عليه ما فيه من شبه المُحدَث سماه محدثًا، وهو في الحقيقة ليس محدثًا حقيقيًا ولا قديمًا حقيقيًا، فإن المحدث الحقيقي فاسد ضرورة، والقديم الحقيقي ليس له علة”.(6)
فالعالم واحد، والتعددية التي صارت في قضية قدمه أو حدوثه، إنما جاءت من تعدد زوايا الرؤية لهذا العالم. وهي تعددية تفسح لهذا المنهاج مكانًا في تصورات المسلم للكون، ومن ثم في ثقافته التي ترى التعددية والتنوع والاختلاف دائمًا وأبدًا في إطار الجامع الموحِّد لِسِمات وقسمات هذا الاختلاف.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
(1) المنتخب في تفسير القرآن، ص:353-386. وضع “المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية”، طبعة القاهرة، 1986م.
(2) في ظلال القرآن، ج:5، ص:2942.
(3) المضنون به على غير أهله، ص:315-316، ضمن مجموعة “القصور العوالي من رسائل الإمام الغزالي”.
(4) حجة اللّٰه البالغة، ج:1، ص:17.
(5) المقابسات، ص:301-302.
(6) فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال، ص:40-42.