حين يشكو ملك الموت

ليست الأسباب إلاّ “حُجُبا” أمام إجراءات القدرة الإلهية. العزةُ والعظمةُ تستوجب انحجابا، مع أن القدرة الصمدانية هي الفاعلُ الحقيقي من وراء تلك الحُجُب. في حين أن التوحيد والجلال لا يستوجبان ذلك، بل يقتضيان الاستقلالية والمباشرة من دون حجاب.

ليست الأسباب إلاّ “حُجُبا” أمام إجراءات القدرة الإلهية. العزةُ والعظمةُ تستوجبان حجابا.

موظفون لا غير

ما الأسباب إلا موظفون في سلطنة الربوبية. إن موظفي”السلطان الأزلي” (الأسباب) ليسوا هم المنفّذين الحقيقيين لإجراءات”سلطنة الربوبية”، بل هم دلالون على تلك العظمة والسلطان، يدعون الجميع إلى مشاهدتها، يتطلعون إلى مصنوعاتها البديعة بإعجاب.
هذه وظيفتهم، فما وُجدوا إلاّ لخدمة عزّة القدرة الربانية وهيبتِها وعظمتها. كذلك عندها مهمة أخرى، فهي حجاب أمام يد القدرة في خلقها لأمور قد تبدو للنظر السطحي خسيسة أو مكروهة، لا يدرك حُسنَها الغافلون ولا يعرف حكمتها الجاهلون، فيشكون منها بغير حق ويعترضون عليها بغير علم، فتأتي الأسباب لتكون حجابا يمتص تلك الشكاوى بدلا من أن تتجه إلى الخالق مباشرة.
ثم إن موظفي سلطان الأزل والأبد ليسوا كموظفي سلطان البشر، فسلطان البشر يفتقر إلى موظفين بسبب عجزه وحاجته، بينما سلطان الأزل والأبد غني عن ذلك تماما.

الملك والملكوت

إنما وُضعَت الأسباب لتبقى عزةُ القدرة الربانية محفوظة من سلبيات النظرة الظاهرية للعقل؛ فلكل شيء وجهان -كوجهي المرآة- أحدهما وجه “المُلك”، وهو يشبه الوجه المصبوغ للمرآة، وهو مكان الألوان والحالات المختلفة، والثاني وجه “الملكوت”،وهو يمثل الوجه الصقيل للمرآة. ففي الوجه الظاهر -المُلك-تحدث أحيانا حالات تنافي–ظاهرا- عزة القدرة الصمدانية وكمالها، فجاءت الأسبابُ لتكون مرجِعا لتلك الحالات ووسائلَ لها.
أما وجه”الملكوت” والحقيقةِ فكلُّ شيء فيه شفاف وجميل وملائم لمباشرةِ يدِ القدرة لها بذاتها، وليس منافيا لعزّتها.من هنا فالأسبابُ ظاهرية عرَضيةفحسب، وليس لها تأثير حقيقي في الوجهالملكوتي أو في حقيقة الأشياء والحوادث.
الأسباب حجاب
هناك حكمة أخرى لخلق الأسباب الظاهرة، وذلك لكي لا تتجه شكاوى جائرة واعتراضات باطلة إلى العادل المطلق جلّ وعلا، أي جاءت الأسباب لتكونَ هدفا لتلك الاعتراضات وتلك الشكاوى، كما أن العيب صادر من طبيعتها، ناشئ من عدم كفاية قابليتها.
وقد رُوِي مثال لطيف ومحاورة معنوية دقيقة لبيان هذا السر وهي أن عزرائيل عليه السلام قال لرب العزة: “إن عبادك سوف يشتكون مني ويسخطون عليّ عند قيامي بوظيفة قبض الأرواح”.

إنما وُضعَت الأسباب لتبقى عزةُ القدرة الربانيةمحفوظة من سلبياتالنظرة الظاهريةللعقل.

فقال الله له بلسان الحكمة: “سأضع بينَك وبين عبادي حُجُب المصائب والأمراض لتتوجه شكاواهم إلى تلك الأسباب”.
وهكذا، فإن الأمراضَ حُجُب تناط بها السلبيات المؤدية إلى الموت، الأمراضُ حُجُب أمام عزرائيل عليه السلام، أما الجمال الكامن في قبض الأرواح -وهو الحقيقة- فيعود إليه عليه السلام. بيد أن عزرائيل حجاب هو الآخر للقدرة الإلهية، فإليه تتجه أنظار التشكي في حالات تبدو في الظاهر خالية من الرحمة لا تليق بكمال القدرة الربانية.
نعم، إن العزّة والعظمة تستدعيان وضعَ الأسباب الظاهرية حُجُبا أمام نظر العقل، إلاّ أن التوحيد والجلال يردّان أيدي الأسباب عن التأثير الحقيقي.

المصدر: الكلمات، بديع الزمان سعيد النورسي، الكلمة الثانية والعشرون، المقام الثاني، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة