لقد غرس الشرع الشريف في نفس الإنسان حب وطنه، وزكى فيه دوافعه الفطرية النبيلة في الانتماء للأوطان وحبها والدفاع عنها، حتى أشار إلى نبل انتماء الإنسان لوطنه في عدد من الآيات والأحاديث النبوية.
إن الوطن في الحقيقة ليس حفنة تراب، بل هو شعب، وحضارة، ومؤسسات، وتاريخ، وانتصارات، وقضايا، ومكانة إقليمية ودولية، وتأثير سياسي وفكري في محيطنا العربي والإسلامي، ورجال عباقرة صنعوا تاريخ هذا الوطن في مجال العلم الشرعي وفي التاريخ الوطني الحافل بالنضال لحماية هذا الوطن، وفي التاريخ الاقتصادي والتاريخ العسكري، وغير ذلك من المجالات التي نبغ فيها العباقرة من أبناء هذا الوطن.

حب الوطن دائرة من دوائر الانتماء، نطقت بها الفطرة، وسقاها الشرع الشريف ورعاها وأقام موازين القسط بينها وبين بقية دوائر انتماء الإنسان، بحيث لا يجور بعضها على بعض.

إن الشرع يكتفي في عدد من المسائل بثبات دوافع الطباع، فلا يأتي فيها الشرع بتشريع أو أمر معين، مطمئنًا إلى أن الطبع السليم كفيل بتوجيه الإنسان.
ومن هذه الأمور التي ينتجها الطبع السليم حب الوطن والانتماء إليه والوفاء له. وقد روى الدينوري في كتاب “المجالسة” من طريق الأصمعي قال: سمعت أعرابيًّا يقول: “إذا أردت أن تعرف الرجل فانظر كيف تحننه إلى أوطانه”.
لمَّا كان الانتماء مكونًا راسخًا من مكونات الفعل البشري، وهو من أهم مكونات الفطرة التي فطر الله الناس عليها، فقد أكده الشرع الشريف، وانطلق منه، وعول عليه، ولم يقمه أو يتجاهله، ولكن عدَّله ونسَّقه، وحدد للمكلف معالم راقية للانتماء، تلبي ذلك الدافع القهري المنبعث من داخله، وتحفظه من مزالقه التي من الممكن أن يؤدي إليها.
ثم إن الشرع الشريف لم ير بأسًا بوجود انتماءات جزئية في إطار ذلك الانتماء الكلي، تدعمه وترسخه، وتنبع منه، وتفضي إليه، ولا تخرج عن نسقه الكلِّي، فسمح بمحبة البقعة المحددة التي ولد فيها الإنسان وعاش وهي موطنه المباشر، ولا يتعارض ذلك مع محبة الأمة بأكملها، بل هو جزء منها، فإن غلب عليه حبه وانقلب تعصبًا يعادي من أجله المسلم الناس، فإن الشرع يرفضه. ومن هنا جاءت محبة الأوطان والديار، وأكد الشرع قضية حب الوطن، وكان صلى الله عليه وسلم يحب مكة ويشتاق إليها مع أن المدينة مقره مثواه.
وانتماء الإنسان لوطنه لا يلغي ولا ينفي انتماءه إلى أمته العربية وعالمه الإسلامي، لأنها دوائر متداخلة.
والانتماء إما أن يزول فيدفع صاحبه إلى التنكر والتبرؤ من أوطانه وقومه وأهله، مما لا يجمل به الانسلاخ منه، وإما أن يزيد بصاحبه فيصل به إلى العصبية التي تجعل انتماءه هذا يفسد عليه ما يربطه بأبناء الدوائر الأوسع من الانتماء. ففارق بين حسن الانتماء والوفاء والقيام لكل دائرة من دوائر الانتماء بحقها بما لا يقطع روابط البشر وهو الذي نتحدث عنه، وبين التعصب الذي يجعل الإنسان شديد الحمية إلى دائرة بعينها من دوائر الانتماء، تجعله يعادي من سواها ويقاطعه ويتحامل عليه.
ولقد تبين مما سبق من كلام أئمة الهدى، أن حب الوطن دائرة من دوائر الانتماء، نطقت بها الفطرة، وسقاها الشرع الشريف ورعاها وأقام موازين القسط بينها وبين بقية دوائر انتماء الإنسان، بحيث لا يجور بعضها على بعض، وبحيث تتراكم وتتسق بما يحقق كمال إنسانية الإنسان.
ومما يجدر ذكره أن الأوطان ليست حدودًا جغرافية صنعها الاستعمار، بل الأوطان بقاع عريقة قبل الاستعمار بألوف السنين، واستقرار الوضع الحالي على تلك الحدود، يوجب علينا حفظها والدفاع عنها. ورفع تلك الحدود لا يكون بالتلاعب، بل بالاتفاقات العليا التي يتم إبرامها وفق آليات محترمة كما صنع الاتحاد الأوربي مثلاً، وما لم يتم ذلك فلا بد من احترام الوضع القائم والحفاظ عليه وعدم تضييعه ولا انتقاصه ولا التفريط فيه، فضلاً عن أن قيمة الوطن ليست متعلقة أصلاً بفكرة الحدود، بل الوطن قيمة تاريخية وعلمية وإقليمية وعالمية.

حب الوطن في القرآن وكلام المفسرين

للإمام الفخر الرازي ملمح لطيف في الاستدلال من القرآن الكريم على حب الوطن، وأنه داع فطري شديد العمق في النفس، أشار إليه عند تفسير قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ)(النساء:66) فقال: “جعل مفارقة الأوطان معادلة لقتل النفس”.
كأن الله تعالى يقول: ولو أني كتبت عليهم أعظم مشقَّتين في الوجود لم يمتثلوا، وأعظم مشقَّتين هما قتل النفس، ويقابلها فراق الوطن، فمشقة قتل النفس في كفة، ويوازيها ويساويها تمامًا فراق الوطن.
ففراق الأوطان أمر صعب جدًّا يساوي ألم قتل النفس، مما يدل على أن التعلق بالوطن وحبه أمر عميق في النفس. وقال العلامة الملا علي القاري في “مرقاة المفاتيح”: “ومفارقة الأوطان المألوفة هي أشد البلاء، ومن ثم فُسِّر قوله تعالى: (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ)(البقرة:191) بالإخراج من الوطن؛ لأنه عقَّب بقوله: (وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ)(البقرة:191).
ومن ثم فإن كل آية تُظهر فضل الهجرة فإنها راجعة إلى هذا الأصل، والذي هو شدة الصبر ومغالبة النفس على فراق الأوطان المحبوبة إيثارًا لمعنى من المعاني الشريفة، فكم لهذا المعنى من قدر حتى تصبر النفس على تلك المشقة العظيمة لأجله.
قال الشاعر:
ثلاثٌ يَعِــزُّ الصبرُ عند حلولها
ويَذْهَـــل عنها عقلُ كل لبيـب
خروجُ اضطرار من بلاد يحبّها
وفُــرقة إخــوان وفُــقد حبـيــب

حب الوطن في الحديث النبوي الشريف

روى البخاري، وابن حبان، والترمذي من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قدم من سفرٍ، فنظر إلى جُدُران المدينة، أوضع راحلته، وإن كان على دابة حركها من حبها.
ففي هذا الحديث الجليل تصرفٌ نبوي هادٍ، محفوف بالعصمة، تَحرَّك به الجَنانُ النبوي الشريف، ومن ورائه الإلهام الصادق والوحي المبين، بحنين القلب إلى الوطن ونزوع الفؤاد إليه، حتى إن كان صلى الله عليه وسلم لَيُحرِّك دابتَه إلى المدينة المنورة إذا قفل من سفره، وأبصر جدرانها، من حبها وحنين الجَنان الشريف إليها.
ولذلك قال الحافظ ابن حجر في “فتح الباري في شرح صحيح البخاري”: “وفي الحديث دلالة على فضل المدينة، وعلى مشروعية حب الوطن والحنين إليه”، ونحوه عند البدر العيني في “عمدة القاري”.
قال الحافظ الذهبي في “سير أعلام النبلاء”: “وكان يحب عائشة، ويحب أباها، ويحب أسامة، ويحب سِبطيه، ويحب الحلواء والعسل، ويحب جبل أحد، ويحب وطنه، ويحب الأنصار، إلى أشياء لا تحصى مما لا يغني المؤمن عنها قط”.
بل جعل العلماء حب الوطن هو علة مشقَّة السفر مطلقًا، حتى ذهب إلى ذلك بعض شراح الحديث في تفسير الحديث الذي رواه أحمد والطبراني من حديث عقبة بن عامر الجهني أنه صلى الله عليه وسلم قال: “ثلاثة تستجاب دعوتهم: الوالد لولده، والمسافر، والمظلوم على ظالمه”؛ فعلّل الشراحُ سبب استجابة دعاء المسافر هو ما يعانيه من فاقة واضطرار وحزن لمفارقة وطنه وأهله. فقال العلامة المناوي في “فيض القدير” شارحًا للحديث: “لأن السفر مظنة حصول انكسار القلب بطول الغربة عن الأوطان، وتحمّل المشاق والانكسار من أعظم أسباب الإجابة”.

لقد فطر الله تعالى الخلائق جميعًا على الميل الفطري الحنيف اللطيف إلى أوطانها.

وقال بعض الحكماء: “الحنين إلى الوطن من رقة القلب، ورقة القلب من الرعاية، والرعاية من الرحمة، والرحمة من كرم الفطرة، وكرم الفطرة من طهارة الرشد”.
ولقد فطر الله تعالى الخلائق جميعًا على الميل الفطري الحنيف اللطيف إلى أوطانها، وأودع سبحانه في الفِطَر النقية من سائر الموجودات قرارًا وسكونًا وانشراحًا إلى الوطن، حتى إن المتأمل ليجد ذلك في سائر أجناس الوجود؛ فالآساد والأشبال تأوي إلى عرينها، والإبل تحن إلى أعطانها، والنمل يحن إلى قراه، والطيور تهوى وتميل إلى كناتها، والإنسان مجبول ومفطور على شدة الحنين إلى الوطن. وقد قال ابن الجوزي -رحمه الله- في “مثير الغرام الساكن”: “والأوطان أبدًا محبوبة”.
فإذا كانت أجناس الوجود كلها من حولنا، رغم أنها عجماء لا تفصح ولا تُبِين، قد تَبيَّن من ملاحظة طباعها وأحوالها، شدة وفائها وحنينها إلى أوطانها، فالإنسان أولى بذلك منها لما يمتاز به عنها من الكمالات الإنسانية، التي تجعله محلاًّ لكل خُلق كريم، والوفاء والمروءة على رأس تلك الشمائل.

حب الوطن عند الفقهاء والحكماء

لقد ذهب الفقهاء إلى تعليل حكمة الحج وعظمة ثوابه، إلى أنه يهذب النفس بفراق الوطن والخروج على المألوف. قال الإمام القرافي في “الذخيرة”: “ومصالح الحج تأديب النفس بمفارقة الأوطان”.
ولم يزل دأب الصالحين محبة الأوطان، حتى لقد روى أبو نعيم في “حلية الأولياء” بسنده إلى سيد إبراهيم بن أدهم أنه قال: “ما قاسيت فيما تركت شيئًا أشد عليَّ من مفارقة الأوطان”.
وقد روى الدينوري في “المجالسة” من طريق الأصمعي قال: “سمعت أعرابيًّا يقول: إذا أردتَ أن تعرف الرجل فانظر كيف تحننه إلى أوطانه، وتشوّقه إلى إخوانه، وبكاؤه على ما مضى من زمانه”.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) مستشار رئيس الجمهورية للشئون الدينية / مصر.