جُحا الأتراك.. فكاهات بطعم الحكمة

نصر الدين خوجا (أو جُحا كما يسمى في العالم العربي) شخصية عالمية لدى الأمم والشعوب، ويعدُّ في طليعة أصحاب النوادر الشعبية، الذين يُظهرون طرافةَ وسماحةَ وعقلية الشعب. نصر الدين خوجا معروف لدى شعوب كثيرة من العالم -وعلى رأسهم العالم التركي في الأناضول وآسيا الوسطى- بعبقريته الفذة وذكائه الخارق في حلِّ المشاكل المعقدة بأسلوبه الطريف الظريف. إنه يُضحك الناس بإجاباته اللطيفة ومواقفه الطريفة، وفي الوقت نفسه يسوقهم إلى التأمل والتفكير حول الحدث.

إن الغاية المتوخاة من نوادر نصر الدين خوجا؛ إدخار السرور إلى قلوب الناس ورسم الابتسامة على وجوههم من جانب، ومن جانب آخر دفعُهم إلى التأمل والتدبر والتفكير في هذا الكون الشاسع. 

وُلد نصر الدين خوجا عام 1208م في منطقة “سِفري حصار” (Sivrihisar) التابعة لمدينة “أسكي شهير” (Eskişehir) بتركيا، ووالده الشيخ عبد الله أفندي كان يعمل إمامًا في قرية “خورتو” (Hortu). تتلمذ نصر الدين على يدي أبيه في مطلع شبابه وتلقى العلم منه، ثم انتقل بعد ذلك إلى “سيفري حصار” ليتتلمذ على أيدي شيوخ مشهورين في ذلك الوقت. وبعد وفاة أبيه عاد إلى قريته وأصبح إمامًا في مسجده. ومع حلول عام 1237م انتقل نصر الدين خوجا إلى “آق شهير” (Akşehir) التابعة لمدينة “قونيا” (Konya) وسط تركيا، وواظب هنا على دروس المشايخ وعلى رأسهم الشيخ “سيد محمود الحيراني” والشيخ “سيد حاج إبراهيم”.

تذكر الروايات أن نصر الدين خوجا درَّس في بعض المدارس التقليدية، وتولّى منصب القاضي فترةً من الزمن. وبسبب هذه الوظائف التي اشتغل بها لقِّب بـ”خواجا” التي تعني باللغة الفارسية “المعلِّم” و”المدرِّس” و”السيد”، ثم تحولت الكلمة إلى “خوجا” في اللغة التركية وهي بنفس المعنى. أما المعلومات المتوفرة عن حياته مختلطة بعض الشيء بين الصحة والخيال، ولعل السبب في ذلك يرجع إلى حب الشعب له واحترامهم لشخصه.

كان نصر الدين خوجا رجلاً متبحرًا في العلوم، راسخًا بالربط بينها وبين العقيدة الإسلامية، متحليًا بالأخلاق والفضيلة.. تَضعه بعض المصادر بين أولياء الله الصالحين بالثقافة الروحية التي تحلَّى بها والحياة المتميزة التي عاشها، وقد سمَّاه الرحالة التركي “أوليا شلبي” في كتابه الشهير “سياحتْ نامه” بـ”الحكيم العظيم”.

توفي نصر الدين خوجا عام 1284م في “آق شهير” ودُفن فيها، وقد نُقش على شاهد قبره: “العمل باق، والعمر فان.. العبد مذنب والرب غفَّار”.

وجدير بالذكر أن لطائف نصر الدين خوجا وثيقة الصلة بالحياة الفردية والاجتماعية، أي إنها تشمل كافة مناحي الحياة، وفي أغلبها نجد التصرفات الإيجابية والسلوكيات الإرشادية الممزوجة بالفكاهة والمزاح.

كان نصر الدين خوجا بمثابة ترجمان لمشاعر الشعب، حيث يحلّ مشاكلهم بكل بساطة وبطريقة عملية؛ وذلك بمواقفه حيال الأحداث، ومهارة انتقاده للوقائع، ولغته البسيطة السهلة على الفهم. وليس ما يقوم به -في حقيقة الأمر- مكر أو خديعة، بل هو دهاء يسوق المخاطَب إلى الصدق ويوجهه إلى الخير والجمال.

كان نصر الدين خوجا بمثابة ترجمان لمشاعر الشعب، حيث يحلّ مشاكلهم بكل بساطة وبطريقة عملية؛ وذلك بمواقفه حيال الأحداث، ومهارة انتقاده للوقائع، ولغته البسيطة السهلة على الفهم.

ومن أهم المزايا التي تحلَّت بها نوادر نصر الدين خوجا؛ الوضوح، والإيجاز، والبلاغة، والتجنُّب عن التكلف اللغوي.. ومن ثم تعتبر طرائفه مراجع غنية لكثير من العبارات اللغوية الشعبية.. ورغم قِصر الحوارات الواردة فيها، إلا أنها مليئة بالعِبَر والحكم التي يستفيد منها الصغير والكبير.

ومن نوادره التي تنتقد أولئك الذين يهتمون بالمظاهر فقط؛ أنه كان مدعوًّا عند وجهاء القوم، فظن أن الدعوة عادية وذهب بزيِّه العادي، فلم يدخله البواب محتجًّا بأن الدعوة للأغنياء فقط.. عاد نصر الدين خوجا إلى بيته وارتدى أفخم ما عنده من الملابس ثم عاد إلى الحفلة، عندما رآه البواب أدخله بكل ترحيب.. ولكن عندما قدَّموا له الطعام، أخذ نصر الدين خوجا يغمس طرف عباءته في الأطباق ويقول: “كُلِي يا عباءتي كلي، فأنت المدعوة ولست أنا”.

وفي موقف آخر ينتقد نصر الدين خوجا ابتعاد الناس عن المعقولية لصالح منافعهم الشخصية: استعار الشيخ نصر الدين حَلَّة كبيرة من جاره، وبعد فترة أعادها إليه وفيها حَلَّة صغيرة.. سأله الجار: وما هذه؟ قال: هي ابنتها التي ولدتْها.. أخذها الرجل مسرورًا ولم ينبس بكلمة.. وبعد أيام عاد الشيخ نصر الدين ليستعير الحَلَّة مرة أخرى فأعطاه الجار إياها بفرح.. ولكن الشيخ تأخر في إعادتها هذه المرة.. ذهب الجار إليه يسأله عنها، فقال الشيخ نصر الدين: البقية في حياتك يا جار، ماتت الحَلَّة! قال الجار مذهولاً: وهل الحَلَّة تموت!؟ فقال نصر الدين خوجا بأسف: مَن يَلِد يموت يا جار.. وغيرها من النوادر التي جعلت من نصر الدين خوجا رمزًا يمثِّل عقلية الشعب وطريقة تفكيره في الحياة.

ولقد أُلف الكثير من الكتب حول نوادر نصر الدين خوجا، إلا أن بعضها ركَّزت على الجوانب الروحية والمعنوية فيها.. من هذه المؤلفات ما دوَّنه السيد “برهان الدين شلبي” من أحفاد مولانا جلال الدين الرومي بعنوان “الترجمة البرهانية مع نوادر نصر الدين خوجا الحِكمية”.

لقد أُلف الكثير من الكتب حول نوادر نصر الدين خوجا، إلا أن بعضها ركَّزت على الجوانب الروحية والمعنوية فيها..

ومعلوم لدى الجميع، أن الشيخ نصر الدين ركب على الحمار يومًا بالمقلوب.. فلما سأله الناس عن السبب، أجابهم: إذا جلست إلى الأمام أصبحتم خلفي، وإذا سرتم أمامي أصبحت خلفكم، ولذلك أعتقد أن ركوبي بهذا الشكل أفضل أدبًا.. ولعل الشيخ نصر الدين في هذه النادرة، يذكِّرنا بالتواضع الجم واحترام الآخر وتقديره أيًّا كان.

في بعض لطائفه يشبّه نصر الدين خوجا الدنيا بـ”العجوز”، ولكن جاذبيتها تخدع المرء وتجعله يبيع نفسه لها. ومن أشهر طرائفه في هذا الباب أن أحدًا رأى الشيخ نصر الدين يجلس على طرف بحيرة حاملاً بيده إناء فيه زبادي. فسأله: ماذا تفعل يا شيخنا؟ أجاب: أُختِّر البحيرة بالزبادي. ذُهل الرجل وقال: وهل تختر البحيرة؟ أجاب الشيخ: وماذا لو تختَّرت!؟ وقد فسَّر المؤلفون هذا الفعل من الشيخ نصر الدين، أنه على الإنسان ألاَّ يملَّ من دعوة الناس مهما بدا الأمر مستحيلاً.

وفي نادرة أخرى يقوم الشيخ نصر الدين بتعليق الدقيق على الحبل وهو أمر مستحيل، وقد قال الواعون بأن هذه المبادرة من الشيخ، تشير إلى إسراف العمر في أمور تافهة، وإلى السعي وراء عمل لا يثمر ولا يغني من جوع.

وفي لطيفة أخرى: يرى نصر الدين خوجا في المنام أن رجلاً أعطاه تسعة دراهم، ولكنه يصرُّ أن يزيدها إلى عشرة.. وبينما هو يساوم الرجل يستيقظ فإذا به فارغ اليدين.. يعود فيغمض عينيه بسرعة ويمد يده قائلاً: لا بأس من التسعة هاتها. وأما التفسير لهذه اللطيفة هو أن الدنيا زائلة مثل الحلم، والجرْي وراء مكاسب دنيوية بالشجار خيبة وخسارة، وعلى الإنسان أن ينفق وهو فيها، حتى إذا استيقظ لا يكون فارغ الأيدي.

إن الفكاهة عنصر أساسي في أدبيات الشيخ نصر الدين، تمامًا مثل الموسيقى التي تعدُّ ركيزة أساسية في أدبيات مولانا جلال الدين الرومي في إرشاداته وتعاليمه.

وجدير بالذكر أن نوادر الشيخ نصر الدين لفتت أنظار الغرب. وعندما درسوا هذه النوادر دراسة دقيقة، وجدوا أن هناك تشابهًا كبيرًا بين طرائف نصر الدين خوجا وبعض طرائفهم. حتى إن الكاريكاتيريين في الغرب تأثروا بنصر الدين خوجا كثيرًا وحاكوا طرفه بالكاريكاتير، منها الطرفة التي تقول إن الشيخ نصر الدين ركب حماره يومًا ووضع جعبته على كتفه، وعندما سألوه عن السبب قال: أشفقتُ على الحمار؛ كفاني أنه يحملني ولا داعي لأن يحمل جعبتي أيضًا؛ وقد قام فنان فرنسي بمحاكاة هذا المشهد، حيث رسم رجلاً على ميزان يحمل معطفه على ذراعه ويقول متعجبًا: مع أنني خلعت معطفي لمَ لمْ يتغير وزني يا ترى؟

إن الفكاهة عنصر أساسي في أدبيات الشيخ نصر الدين، تمامًا مثل الموسيقى التي تعدُّ ركيزة أساسية في أدبيات مولانا جلال الدين الرومي في إرشاداته وتعاليمه، كما أن الفكاهة عند الشيخ نصرالدين تزخر بالحكم الدينية والقيم الأخلاقية والأدبية.

نعم، نوادر نصر الدين خوجا تزخر بالدروس والموعظة والعبر من خلال المزاح؛ ورسائله هادفة منبثقة من ثقافته المعنوية. إذ عندما نتناول مرحلة تلقِّيه العلم ووظائفه التي مارسها، نجده يتمتع بخلفية رصينة من العلم والمعرفة، وقدرة كبيرة على إرشاد الناس بهذه الخصال.

إن اهتمام المصادر التراثية بنوادر نصر الدين خوجا، وبذل الجهود إلى إخراج الحكم والدروس المختبئة في ثناياها، ثم انتقال هذه النوادر على أفواه الأجيال جيلاً بعد جيل.. كل ذلك دليل على حب الناس لنصر الدين خوجا وإقبالهم الجمّ على تراثه، وتبنِّيهم ميراثه.

وفي الأخير نقول إن الغاية المتوخاة من نوادر نصر الدين خوجا؛ إدخار السرور إلى قلوب الناس ورسم الابتسامة على وجوههم من جانب، ومن جانب آخر دفعُهم إلى التأمل والتدبر والتفكير في هذا الكون الشاسع. ومن الخطأ جدًّا أن ننظر إلى هذه النوادر الثمينة على أنها مجرد قيل وقال تُضحك السامع وتمتِّعه، بل يجب النظر إليها بعين الفاهم الواعي الراغب في إصلاح أمر دينه ودنياه.

 

(*) كاتب وباحث تركي.