اسْمعوا قصّتي، واشهدوا حزني ولوعتي، وانسكاب عَبْرَتي.. أنا الآتي من وراء جبال الغضب، القَذَّافات بالشرر، ومن بين براكين اللهب، المتفجّرات بالموت والعطب.. قدِمتُ إليكم من عالَم مجنون ممسوس، كُلُّ ما فيه صارع أو مصروع، قاتل أو مقتول، ذاهل أو مشدوه، لاعق دم أو شارب دمع؛ فلا تدري أيّهم القاتل وأيهم المقتول، وأيهم النائح، وأيهم المنوح.. والموت بينهم يغدو ويروح، له من جنون الناس نصيب، فاقدًا للصواب، ناسيًا للرشد والوقار، يجوس خلال الديار، يقطّع الأنفاس، ويحصد الآجال بغير حساب؛ المعجَّل منها والمؤجَّل، المقدَّم منها والمؤخَّر، صبايا وصبيانًا، رُضَّعًا ومرضعات، شبانًا وشابات، رجالاً ونساء، عُجَّزًا وشيوخًا، أخضر الإنسان ويابسه، صالحه وطالحه، جديده وتليده، وكأن ريحًا هوجاء مرّت على الديار فتركتها قاعًا صفصفًا، وقفرًا بلقعًا، يحوم في أجوائها البوم والغربان، فلا تسمع فيها إلا صارخًا أو باكيًا، فاجعًا أو مفجوعًا، ناعيًا أو منعيًا.

فيا أيها الموت، يا رافع أعلامك، وناشر راياتك، على الهامات المجندلات، والرقاب المحزوزات، والرؤوس المحصودات، والأشلاء المبعثرات، والدماء المسفوحات! حسبك ما أكلت من أجساد، وما شربت من دماء، وخرّبت من ديار، وأشعلت من حرائق، ونشرت من دمار، وسلبت من أرواح.

يا موت… اعلمْ أن للغيب فيك صوتًا لم تسمعه بعد، وأن للقدر فيك أمرًا لم تدركه بعد، فأنت بين إصبعين من أصابعه، إن شاء أرسلك، وإن شاء حبَسك، فأنت في قبضة مشيئته، ومقهور إرادته، وإني لأحسبه على وشك أن يأخذ بلجامك، ويمسك بخناقك، ويكبح جنونك، ويعيد إليك رشدك وصوابك ووقارك، فقد طفح كيلك، وطغا جنونك، وفشا في الناس أمرك، وأطاح بعقولهم رعبك، حتى صرت من كثرة ما ألفتَهم وألفوك ظلّهم الذي يتبعهم حيث ساروا وسارت بهم الأيام، فأنت تساكنهم في غرف نومهم، وتجالسهم على موائد طعامهم، وتدخل عليهم من كل باب، وتأتيهم من كل شبَّاك، وتطلع عليهم من بطون الأرض، وتتهاطل عليهم من أجواء السماء، وكأنك واحد منهم؛ لا يستغربون مقدمك، ولا يستعجبون من نزولك بهم، فأنت اليوم لازمة من لوازم وجودهم، بينما غدت الحياة هي الاستثناء من ذلك، وأعجوبة الأعاجيب في عالمٍ كُلُّ ما فيه ميّت أو على وشك أن يموت، فالكُلُّ حصير مصيدة الموت، في انتظار دوره ليلتحق بقوافل الموتى وهي تترى آناء الليل وأطراف النهار.

أتظن -أيها الموت- أنك قد أحرزت الانتصار، وكسبت الحرب، وبسطت على الحياة سلطانك، وأقمت فوق أنقاضها تيجانك، وأنها قد استسلمتْ لك، ووضعتْ مقاليدها بين يديك وتحت أمرك؟! كلاَّ… فذلك وهْمك الذي سيرديك، وخطؤك الذي سيشقيك، فأنت -يا موت- شئتَ أم أبيت تحمل في طواياك جذر الحياة، وبذرة تفتّحها، وبُرْعُم زهرتها… أوَما علمتَ أن ضِدَّ الشيء كمين في الشيء نفسه، وأن نقائض الأشياء ملازمة لأشيائها، وكما تولد النار من ماء الشجر الأخضر، ويولد النهار من أحشاء الظلام، هكذا ستولد الحياة المبجَّلة من بين أحشائك -يا موت- على الرغم منك.

وعند ذاك سيتبدّل الزمن غير الزمن، والأرض غير الأرض، والإنسان غير الإنسان، وستشدو الحياة، ويغنّي الوجود، وتبتهج الكائنات، وتهلُّ الأعياد، وتَفْتَرُّ الشفاه عن ابتسامات الأمَل، وتشرق الأسارير بفرحة القيام من العدم، وينادي منادي الغيب: هلِّلُوا للحياة يا أبناء الحياة، ولربّ الحياة سبِّحوا، وله اسجدوا، ومنه اقتربوا.. فقد انقشع الظلام، وتهاوت الأحلام، وساخت الأقدام في هاويات النسيان، وعاد الإنسان إنسانًا، عظيمًا في آدميته، كبيرًا في عقلانيته، ساميًا في سلوكيته، ينبوعًا في رحمته، طعّامًا للجائعين، سقَّاء للظامئين، موئلاً للتائهين، وحضنًا آمنًا للفزعين.