ثابت بن قرة المترجم  ورائد علم التكامل والتفاضل

 

لقد كان للعالم المسلم ثابت بن قرة الحراني المتوفي عام 901م الفضل في ابتداع علم التفاضل والتكامل (Calculus) وأسهم معه في هذا الفضل المفكر العربي البوزجاني، وكان لهذا العلم تأثيره الملحوظ في تقدم الرياضيات والعلم الطبيعي في عصرنا الحاضر.

وتخبرنا كتب التاريخ أن ثابتًا وهو أشهر علماء الصابئة في العهد الإسلامي بدأ حياته في حران، حيث كان يمارس مهنة الصيرفة، ثم ارتحل إلى بغداد لخلاف بينه وبين علماء دينه، وكان يحسن اللغة اليونانية والسريانية والعبرية، فضلاً عن العربية، كما كان يجيد النقل والترجمة إلى العربية، ومن حذاق المترجمين، وكانت له مكانة ممتازة بين من نقحوا وأصلحوا الترجمات العربية للكتب الرياضية والفلكية، كما يخبرنا المؤرخون أنه اشتغل بعلوم الأوائل فمهر بها وبرع، وكانت له معارف واسعة ونشاط هائل فيها. فاتخذه الأمير المعتضد -الذي أصبح خليفة فيما بعد- صديقًا له. وفي أثناء خلافته وصل ثابت بن قرة إلى أعلى المراتب في الدولة رغم أنه كان وثنيًا ليس من أهل الكتاب، ومنذئذ قرب الحرانيون الوثنيون من الخلفاء، ثم من بني بويه وارتفع من شأن الصابئة.

ثابت بن قرة المترجم

يعتبر ثابت بن قرة الحراني الصابئ، وحنين بن إسحاق وغيرهما من المترجمين المسيحيين والسريان واليهود والصابئة، أفضل نموذج يمكن أن نأتي به للتدليل على مدى سماحة الدين الإسلامي والمسلمين في تعاملهم مع أصحاب الديانات الأخرى، وإعطائهم نفس الفرص المتاحة لكل إنسان يسعى إلى تحقيق مكانة علمية واجتماعية لائقة في مجتمع لا يفاضل بين رعاياه إلا بالتقوى والعمل الصالح، فلم يتعصب المسلمون للعرب ولمن اعتنق الدين الإسلامي، فقد تولى المسيحيون واليهود، بل والصابئة والمجوس، أرفع المناصب السياسية والعلمية والاجتماعية في زمن الدولة العباسية في المشرق، كما تولوا كثيرًا من المناصب السياسية والعلمية والإدارية في بلاد المغرب والأندلس.

أما أهم الترجمات التي أنجزها ثابت بن قرة إلى اللغة العربية فهي: المقالات الثلاث الأواخر من كتاب المخروطات لابلونيوس، الذي جمعه رجل من عسقلان يعرف بأوطونيوس، وكان هذا مبرزًا في علم الهندسة، وكتاب المجسطي لبطليموس، وكتاب الأصول في الهندسة لإقليدس، وكتاب الأرثماطيقي، وكتاب الخطين لأوطوقيوس، وكتاب الجغرافية في المعمور وصفة الأرض، وثماني مقالات، وقد نقله ثابت نقلاً جيدًا، وكتاب تفسير كتاب بطليموس في تسطيح الكرة لمؤلفه بيس الرومي.

مؤلفاته

وقد كتب عددًا من الرسائل الصغيرة في الفلك والهندسة، وكان له عليها تعليقات جيدة، ولم يقتصر نشاط ثابت على النقل والتأليف في الرياضيات والفلك، بل لقد امتد إلى ميدان الطب أيضًا. فقد ترجم كتاب الأدوية المفردة لجالينوس، وإننا لندين له بكتاب (الذخيرة في الطب) الذي وضعه لابنه سنان. وقد ضاعت أكثر هذه المؤلفات والنقول في الحروب والانقلابات والحرائق، ولم يصل إلينا إلا القليل منها. وعامة فقد بلغت مؤلفاته ثلاثة وعشرين كتابًا، منها خمسة في الطب والباقي في الحساب والهندسة والفلك، هذا فضلاً عما كتب في طقوس الوثنيين وتعاليمهم.

ومن أهم مؤلفاته: المدخل إلى الأعداد؛ كتاب في الأعداد المتحابة، كتاب مختصر في الهندسة، كتاب مساحة الأشكال -المدخل إلى إقليدس- في المخروط المتكافئ، رسالة في الدوائر المتماسة، رسالة في حجم الجسم المتولد عن (دوران ) القطع المكافئ، كتاب في تصحيح مسائل الجبر بالبراهين الهندسية. أما مؤلفاته في الطب والصيدلة، فله كتاب في وجع المفاصل والنقرس، والحصى المتولد في المثانة، وكتاب الذخيرة.

لقد كانت الترجمات التي أنجزها ثابت بن قرة من الأهمية بمكان، بحيث سهلت على أولئك الدارسين الذين لا يعرفون اللغة اليونانية الاطلاع عليها والوقوف على ما وصل إليه علماء اليونان في كل مجال تطرق إليه في ترجماته.

ولا ننسى أن في دار بني موسى بن شاكر كان يعمل دون إبطاء، فريق كبير من المترجمين من أنحاء البلاد تمامًا كما كان يفعل المأمون بالذات الذي كان يوفد الرسل أيضًا بحثًا عن المخطوطات القديمة، للمترجمين والنقلة. ومن الوسائل الأخرى التي اتبعها أبناء موسى، بقصد تشجيع حركة الترجمة وتنشيطها الناحية المادية، حيث كانوا يغدقون على النقلة كل ما يحتاجون إليه من مال لينقلوا لهم ما يحتاجونه من علوم ومعارف، وبهذا الصدد يذكر “القفطي” في كتابه “تاريخ الحكماء”: “… وإن بني المنجم كانوا يرزقون جماعة من النقلة منهم حنين بن إسحاق، وحبيش بن الحسن، وثابت بن قرة، وغيرهم في الشهر خمسمائة دينار للنقل والترجمة والملازمة”.

ومن هذه الزاوية، فإن هذا الفيلسوف والرياضي كان له وقعه في ازدهار حركة الترجمة من جهة، وتمهيد السبيل أمام العلماء العرب في السير بهم إلى ما وصلوا إليه من تطور وتقدم في شتى مجالات العلوم من جهة أخرى، وبهذا الشأن يذكر صاحب “كشف الظنون” “حاجي خليفة” أنه: “… لولا تعريب ثابت بن قرة لما انتفع أحد بالكتب الحكمية (الفلسفية) لعدم المعرفة باللسان اليوناني، وكل كتاب لم يعربوه بقى على حاله ولا ينتفع به”.

ومن هنا لا يكون غريبًا أن نجد بعض المستشرقين المحدثين مثل “ألدومييلي” الإيطالي يعترفون بفضل ثابت الكبير في حركة الترجمة، وخاصة مؤلفات أرشميدس، ولطيقوس، وإقليدس، وتيودوزيوس… إلخ. كما ندين له بتنقيح ترجمة أصول إقليدس تنقيحًا دقيقًا، وتصحيحه لترجمة كتاب هام قام به إسحق بن حنين في علم النبات لأرسطو، وكثير من هذه الترجمات والشروح فقدت في أصولها اليونانية، ولم يبق إلا ترجماتها العربية التي يعود إليها كثير من الدارسين الشرقيين والغربيين في العصر الحديث على حد سواء.

الرياضي والفلكي

بسبب ما عرف عن ثابت من علم ودراية بأمور الطب خاصة، فقد أصبح موضع تكريم ورعاية الخلفاء الذين دخل في خدمتهم وبخاصة الخليفتين المعتمد (279هـ/891م)، والمعتضد (289هـ/901م) ولذلك يقول القفطي: “وبلغ ثابت بن قرة هذا مع المعتضد أجل المراتب وأعلى المنازل، حتى كان يجلس بحضرته في كل وقت، ويحادثه طويلاً ويضاحكه، ويقبل عليه من دون وزرائه وخاصته”.

لقد غطى ذكاء ثابت بن قرة كل مجال طرقه في حياته العلمية والعملية، وإن آخر هذه المجالات هو مجال التصنيف، فقد كان ثابت مؤلفًا قديرًا في جميع مؤلفاته، وفي مختلف العلوم التي تناولها في بحوثه، وقد شهد له بالمقدرة والكفاءة في ذلك كل من أرخ له. وإن مؤلفاته لتدلنا على مدى نبوغ هذا الرجل الذي لم تعرف مدرسة حران نظيرًا له على الرغم مما أنجبته هذه المدرسة من علماء في جميع المجالات، ولذلك يرى بعض المستشرقين أن ثابت بن قرة كان من أكثر العلماء تألقًا وإنتاجًا عند المسلمين.

وتجدر الإشارة إلى أن براعة ثابت بن قرة في مجالي الرياضيات والفلك على وجه التحديد، قد كان لهما أثر مباشر في مضمار ما ترجم من تراث يوناني إلى العربية في هذين الحقلين حيث جاءت الترجمات العربية للمصنفات اليونانية التي اضطلع بها ثابت على جانب كبير من الجودة، وهذا هو ما يفسر لنا سبب اعتماد المهتمين بالتراث الرياضي والفلكي اليوناني في زمن ثابت أو فيما بعد على ما أنجزه هذا الحراني من ترجمات في هذين الحقلين، ولعل ما تولاه ثابت بن قرة من ترجمات لمؤلفات إقليدس الرياضي وبطليموس الفلكي، وبقاء هذه الترجمات النموذج  الأمثل لمصادر العرب في هذين المجالين، إن هو إلا دليل قوي على أهمية هذه الترجمات الحرانية.

ومن ناحية أخرى فإن ما قام به ثابت بن قرة من نشاط كبير في مضمار التأليف، يعبر أصدق تعبير عما امتاز به ذلك الفكر الحراني من الذكاء والإبداع في كل مجال خطه قلمه ونفذت إليه بصيرته. ولا نغالي إذا اعتبرنا صاحبنا هذا موسوعة علمية، ضمت معظم ما كان شائعًا من علوم ومعارف ذلك العصر الذي عاش فيه المترجم والطبيب والرياضي والفلكي ثابت بن قرة الحراني. لقد اشتهر ثابت بعلم الهندسة، فكانوا يصفونه بسرعة البديهة، وبأصالة التفكير، ولقد مدحه المؤلف الكبير “ول ديورانت” في كتابه “قصة الحضارة” بقوله: “إن ثابت بن قرة أعظم علماء عصره في علم الهندسة، فكان لامعًا بين إخوانه العرب”. وأضاف المستشرق: “روبرت ماركس” في كتابه تطورات الرياضيات: “إن أعمال أرخميدس الأصلية عن خواص مسبع الشكل فقدت، ولكن لحسن الحظ أن مخطوطة لثابت بن قرة في هذا الموضوع باللغة العربية حصل عليها الأستاذ كارل سكوي في مكتبة جامعة القاهرة، وترجمها إلى اللغة الألمانية عام 1929م”.

لقد أبدع ثابت في الهندسة والجبر والأعداد المتحابة، والمربع السحري، وقد علق الدكتور “كارل فينك” بقوله: “لقد حاول بكل جدارة أن يبرهن الموضوعة الخامسة من موضوعات اقليدس التي لم تبرهن حتى الآن، فكان برهانه يدل على عبقريته لما فيه من العمق وخصب القريحة، وهذه الموضوعة تقول (إذا قطع قاطع مستقيمين، فكانت الزاويتان المحصورتان بين المستقيمين في إحدى جهتيه أقل من قائمتين، فالمستقيمان يلتقيان إذا مدا في كلتا الجهتين). ويضيف البروفسور “فلورين كاجوري” إن المسلمين قد بدأوا دراستهم في علم الهندسة من هندسة إقليدس، ولهذا فإن ثابت بن قرة لم يترك شيئًا من مؤلفات إقليدس إلا وترجمه وأضاف إليه معلومات جديدة.

علم التفاضل والتكامل

كان ثابن بن قرة من أوائل العلماء الذين اهتموا بالربط بين علم الجبر وبين علم الهندسة، وقد قدم حلولاً هندسية لبعض المعادلات التكعيبية. وتوصل إلى قانون لحساب الأعداد المتحابة، كما ذكرنا. كما تمكن من حساب حجم الجسم المتولد من دوران القطع المكافئ (محوره)، والطريقة التي اتبعها في ذلك (طريقة النهايات) وضعت العلوم الرياضية على عتبة اكتشاف حقائق علم التفاضل والتكامل (Calculus). وأسهم معه في هذا الفضل المفكر والرياضي الكبير أبو الوفاء البوزجاني (387هـ/988م)، وقد كان لهذا العلم تأثيره الملحوظ في تقدم الرياضيات والطبيعة في عصرنا الحاضر.

ولما كان هذا العلم (التفاضل والتكامل) وثيق الصلة بالتطورات التكنولوجية الخطيرة التي شهدها العالم في العصر الحديث، وعليه تعتمد العمليات الحسابية والمساحية وأساليب قياس الدقة العلمية والصناعية، فلا شك أن ثابت بن قرة من هذه الوجهة، يُعد واحدًا من العلماء الكبار الذين أسهموا بنصيب وافر في الحضارة البشرية المعاصرة. ومن الجدير بالذكر أن علماء الرياضيات في البلاد الغربية نسوا أن الأعداد المتحابة لعبت دورًا عظيمًا في الحضارة الإسلامية، وتوجد بكثرة في الكتابات العربية الرياضية.

ولا ننسى أن علم حساب المثلثات (Trigomnetry) يدين بوجوده لرياضي العرب، فهم أول من أقامه علمًا مستقلاً عن علم الفلك، بعد أن كان مجرد معلومات تخدم الفلك وأرصاده، وبفضل قوانين هذا العلم تقدمت بحوث الهندسة والمساحة والطبيعة. ولعل البيروني هو أول رواد هذا الفرع من الرياضيات، فقد وضع التحليلات المثلثة الزوايا مكان المربعة الزوايا لبطليموس، وأدخل خطوط التماس، ووضع النسب الحسابية المثلثية مستعينًا بما أسهم به قبله ثابت بن قرة والبوزجاني، وقد نقل إلى اللاتينية كتاب الشكل القطاع وكان له تأثيره في دراسات الأوربيين. كما كان للبتاني الفضل في تطوير هذا العلم لأنه استبدل بالمربعات المثلثات في حل المسائل، وبالقوس جيب الزاوية، وصاغ النسب الصياغة التي يستخدمها الرياضيون الآن.

ثابت بن قرة الطبيب

كان ثابت بن قرة طبيبًا حاذقًا، حتى أنه تولى رئاسة بيمارستان بغداد الذي أسسه الخليفة المعتضد، والذي تولى رئاسته من بعده ولده سنان ثم حفيده ثابت، وكان ثابت أول من أدخل العلاج الجراحي في هذا المستشفى.

وينقل لنا قدري طوقان عن الطبيب المؤرخ “ابن أبي أصيبعة ” واقعة تدل على براعة ثابت الطبية، وتستحق أن تروى، إذ كان ثابت قد اعتاد المرور يوميًا أمام حانوت أحد القصابين وشاهده مرارًا يرش قطع الكبد بالملح ويلتهمها، فأدرك أن الرجل ستصيبه علة معينة حددها ثابت بدقة، وأعد لها الدواء واحتفظ به معه طوال الوقت.

وذات يوم سقط القصاب مغشيًا عليه، فظن أهله أنه مات فانطلق صراخهم وعويلهم، لكن الطبيب المحنك أسرع إلى الرجل وأفاقه وأسعفه بالدواء .. وشاع بين أهل بغداد أن ثابت أحيا ميتًا، وبلغ الخبر الخليفة فاستدعى ثابتًا الذي شرح الأمر وأوضح له أنه عالج مريضًا ولم يحي ميتًا!

ومن هنا لم يكن غريبًا أن يقول ابن أبي أصيبعة في طبقات الأطباء: “لم يكن في زمن ثابت بن قرة من يماثله في صناعة الطب ولا في غيره من جميع مباحث الفلسفة”.

(*) رئيس قسم الفلسفة والاجتماع، كلية التربية، جامعة عين شمس / مصر.