تفسير التاريخ عند النورسي

إن فكرة غاية التاريخ أو معنى التاريخ، تستمد جذورها من جوهر الإسلام. فعلاقة الدنيا بالآخرة تنتج “معنى الوجود”، ومن هذا المفهوم المركزي صاغ النورسي رؤيته للتاريخ.

إن الله تعالى لم يخلق هذا الكون عبثًا، ولما كان الإنسان هو مركز هذا الكون و”ثمرته”، فإن وجوده وحركيته لهما معنى ومغزى. فحياة الإنسان هي اختبار وامتحان، وبعد موته يتلقى جزاءه إما خيرًا أو غير ذلك. إن إيماننا بحياة أخرى نفضي إليها بعد موتنا -وهي حياة أبدية خالدة لا نهاية لها- يضفي على التاريخ معنى.. فلا تعود أحداث التاريخ أشتاتًا لا ناظم لها، كما لا يعود الزمن التاريخي بلا هدف، بل إن زمن بدايته معروفة ونهايته معلومة. يبدأ هذا التاريخ منذ أراد الله خلق الإنسان وحقق إرادته بخلق آدم، وينتهي بيوم القيامة. وهو تاريخ لا يسير في طريق مستقيم نحو التقدم كما يعتقد الوضعانيون، بل هو صراع مستمر بين الحق والباطل، بين الإيمان والكفر، بين العدل والظلم.

يستعمل النورسي كثيرًا كلمة التقدم، لكنه لا يقصد المفهوم المادي الذي ينظر إلى التقدم كقيمة مطلقة تتحقق بالضرورة مع مرور الزمن؛ إن التقدم يعني تحقيق الإنسان لحقيقة الاستخلاف في الأرض وإقامة الشريعة، ومن ثم فإن مسيرة الإنسان تتأرجح بين التقدم وضده. وما تزعم المدنية الغربية لنفسها من تقدم فهو على وجهين: جزء هو شر ووبال على الإنسانية كصناعة الأسلحة المدمرة والسفاهة الأخلاقية والصراعات القومية، وجزء إيجابي يخدم الإنسانية هو في الأصل من تأثيرات الشرائع السماوية، كالنظام والقانون والشورى والعدل. إن التقدم هنا لا يكفي نفسه بنفسه، بل يحتاج لشيء متعال يقرر حقيقته، وليس هناك سوى الشريعة معيارًا لمحاكمة حقيقته.

يعتبر النورسي أن غاية التاريخ إيجابية تتمثل في تحقيق الحرية والعدالة للإنسان؛ الحرية مما سوى العبودية لله سبحانه. وانطلاقًا من ذلك فإن المشروع الحضاري لكل الشرائع السماوية يسعى لبلوغ الحرية والعدالة، حيث هما شرطان لتحقق التكليف الشرعي. ورغم قوة الباطل وجبروته، فإن التاريخ يسير في اتجاه “التقدم” أي تحقيق الشريعة، ولذا فإن المستقبل هو للإسلام لا لغيره.

مراحل التاريخ

جاء في كتاب “صيقل الإسلام”: “وأقصد من أبناء الماضي أولاً؛ القرون الأولى والوسطى لما قبل القرن العاشر لغير المسلمين، أما الأمة الإسلامية فهي خير أمة في القرون الثلاث الأولى، وأمة فاضلة عامة إلى القرن الخامس، وما بعده حتى القرن الثاني عشر أعبّر عنه بالماضي، أما المستقبل فأعده ما بعد القرن الثاني عشر”.

تلخص هذه الجملة التحقيب الجديد الذي يقترحه النورسي للتاريخ. والملاحظ أنه تحقيب لا يراعي استمرارية الزمن وتواصله، بل ينبني على معايير إيمانية وأخلاقية وحضارية. وهو تحقيب يشمل ثلاث مراحل تارخية: الماضي، أمة الخيرية والأفضلية، المستقبل.

الماضي: يدخل ضمن الماضي تاريخ غير المسلمين، وتاريخ المسلمين في عصور الانحطاط (ما بين القرنين الخامس والثاني عشر الهجري). ما الذي يجمع بين هذه الأزمنة والمجتمعات المختلفة؟
في الماضي “كان السائد في الأغلب هو القوة والهوى والطبائع والميول والأحاسيس، لذا فإن إحدى سيئاته أنه كان هناك في كل أمر من أموره -ولو بصورة عامة- تحكّم واستبداد، ومداخلة الالتزام والتعصب، والانحياز المانع عن كشف الحقيقة”. يصبح الماضي هنا رمزًا للمعصية والابتعاد عن الشريعة. فمتى ساد الباطل وتقهقر الحق فثمة الماضي.

أمة الخيرية والأفضلية: تمثل القرون الثلاثة الأولى بعد النبوة، فترةَ الخيرية بدلالة النص الحديثي. إنها المرحلة التاريخية الوحيدة في تاريخ الإنسانية التي جمعت هذا العدد الهائل من أهل الصلاح والخير. لقد “كان المهيمن في خير القرون وعصور السلف الصالح، هو الحق والبرهان والعقل والشورى، ولم يكن للشكوك والشبهات موضع”. أما بعد هذه القرون الثلاثة فقد تراجع الحق والعدل، إلا أن الأمة حافظت على مرتبة الأفضلية بما بقي فيها من صلاح وطاعات.
المستقبل: يُدخل النورسي المستقبل ضمن التاريخ باعتباره مرحلة رغم أنها لم تأت بعدُ، إلا أن حقيقتها أصبحت معلومة لديه؛ “المستقبل للإسلام”، هذه حقيقة كان يراها النورسي رأي العين، وقد تحقق له ذلك بالبراهين العقلية والكشوفات الرحمانية، ولا يمل من تكرار هذه الحقيقة وتقديم الحجج المقنعة خلال كل كتاباته، ثم إن هذا المستقبل الموعود هو الامتداد الطبيعي لأمة الخيرية.
التاريخ والقدر

خصص النورسي رسالة خاصة في القدر (الكلمة السادسة والعشرون) محاولاً حل أسرار مسألة “القدر الإلهي والجزء الاختياري”.

يرى النورسي أن “المؤمن يعطي لله كل شيء، ويحيل إليه كل أمر، ولكي لا ينجو في النهاية من التكليف والمسؤولية يبرز أمامه الجزء الاختياري قائلاً له: أنت مسؤول، أنت مكلَّف”. إن القدر الإلهي يصرف في كل شيء، غير أنه منزه عن القبح أو الظلم، فالله سبحانه لا يفعل إلا ما فيه خير الإنسان، إلا أن هذا الإنسان لا يفهم سر الحكمة الإلهية التي تظل كثيرًا مخفية عن إدراكه. وهذا لا يعني أن الإنسان مسيَّر في أفعاله، كما لا يعني أن المجتمع البشري موجَّه في حركيته التاريخية بشكل خارج عن اختياره، بل إنه يملك المساحة الكافية للفعل التاريخي الحر القائم على الاختيار بين مسارات متعددة.

تقف الرؤية النورسية للحدث التاريخي بين رؤيتين مفَرّطتين: النظرة الغيبية التي تغيّب الفعل البشري في حركة التاريخ وتجعل الأمر جبرية صارمة لا يملك الإنسان إلا أن يخضع لها، والنظرة المادية التي تغيّب القدر الإلهي وتلصق بالإنسان صفة الهيمنة والانفراد بالتصرف.

الحدث التاريخي من فعل الإنسان، لكن يد القدر الإلهي موجودة بوضوح في كل حادثة تاريخية؛ “إنه مهما كان الإنسان فاعلاً ذا اختيار، إلا أن المشيئة الإلهية هي الأصل، والقدر الإلهي حاكم مهيمن، والمشيئة الإلهية ترد المشيئة الإنسانية، بمضمون قوله تعالى: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا((الإنسان:30).

يترتب عن ذلك أن كل حدث تاريخي هو حدث إيجابي مهما تبين لنا فيه من ألم أو مصائب، لأن كل حدث يحمل حكمة ورحمة ربانيتين تسعيان لإسعاد هذا الإنسان وتطهيره من النقائص.

في جواب عن سؤال حول فاجعة الإمام الحسين رضي الله عنه يقدم النورسي قراءة عميقة لهذا الحدث التاريخي، الذي يمكن عدّه حدثًا مؤسِّسًا لانقسام الأمة الإسلامية. تبدأ القراءة بإبراز دور الفعل البشري، حيث إن المحيطين بالإمام -باستثناء المقربين- كان يوجههم التعصب القومي لا خدمة القضية، فجاء الخذلان من فساد النية. ثم ينتقل لاكتشاف الحكمة من زاوية القدر الإلهي مبيّنًا أن الله سبحانه كان يهيئهم لتسنم سلطنة الأولياء المعنوية بدل السلطنة الدنيوية الفانية، فأراد أن يطهرهم من هذه الدنيا وما علق في قلوبهم منها. فكان هذا الحدث الذي نراه بأبصارنا الحاسرة مصيبة، فتحًا وترقية في عالم الولاية.

لم يكن النورسي غافلاً عن الأسباب المادية الفاعلة في حركة التاريخ، إلا أنه كان ينظر إليها كنواميس كونية متممة لخطة القدر. وتبرز التفسيرات المادية في كثير من الأحداث التاريخية التي أوردها النورسي، ويكفي أن نذكر هنا تفسيره لمعضلة العصر؛ رقي أوربا إلى الأعلى وتدني المسلمين إلى أسفل. حيث يقدم تحليلاً يبرز قوة الفكر التاريخي عند النورسي وقدرته على ربط الأسباب والعلل وفق منظور علمي دقيق.

إن التفاوت بين أوربا والعالم الإسلامي، راجع لأسباب ملحوظة أهمها الوضع الفطري لأوربا ومنبع حياتها؛ فهي ضيقة جميلة تملك الحديد متعرجة السواحل تلتف فيها الأنهار والبحار، مناخها بارد. وهذا جعلها تستقطب ربع البشرية رغم مساحتها الصغيرة.

ولكون إنتاج الأرض لا يستوعب تلك الحاجات التي تتزايد باستمرار، تصبح الحاجة إلى الاختراع والصناعة ضرورية، كما يغدو حب الاستطلاع والميل إلى المعرفة بابًا للعلم والتقدم.

ثم إن كثرة البحار والأنهار تتيح التعارف وتطور التجارة، والتعاون والاشتراك في الأعمال، مثلما يحقق تلاحق الأفكار والمنافسة والتسابق. ونتج عن هذا التنافس صناعة الأسلحة التي أثقلت كفة أوربا. ومن الأسباب الأخرى أيضًا قوة الكنيسة التي تشكل نقطة استناد قوية تعزز قوة أبنائها المعنوية وتبعث فيهم الحياة.

أما من جهة المسلمين، فإن ابتعادهم عن نقطة ارتكازهم (وهي الإسلام والقرآن الكريم)، وإشاحة وجههم عن قراءة كتاب الله المنظور (نواميس الكون وقوانينه) هي أسباب هزيمتهم.

غير أن كل هذه العلل والقوانين -في نظر النورسي- لا تخرج عن فاعلية القدر الإلهي وحكمه. إن القدر يهيء المستقبل للإسلام، فالتقدم الغربي ومستلزمات مدنيته أصبحت عبئًا ثقيلاً يعيق مسيرته، في حين أن العالم الإسلامي لا زال في طور شباب المدنية. لذا فإننا “سنلحق بهم، بل نسبقهم إن حالفنا التوفيق الإلهي، لأن حملهم ثقيل وحملنا خفيف”.

خــاتمـــة

كان النورسي واحدًا من مجددي المائة الرابعة عشرة. هيأه الله تعالى لإنقاذ إيمان أمة كان دورها عظيمًا في نصرة الإسلام والدفاع عن حرماته، لكن مكر الاستعمار الشيطاني استطاع أن يغرر بالكثير من أبنائها ليقذفهم في حمأة الإلحاد وإنكار جواهر هذا الدين.

وقد استطاع النورسي، من خلال تجذر إيمانه بحقيقة الإسلام، ووعيه بمتغيرات العصر وتحولاته العميقة، أن يبلور مشروعًا نفّذه بكل حزم وصبر رغم جسامة المحن وعظم البلاء.

نعتقد أنه لولا -بعد توفيق الله وتأييده طبعًا- حدة وعيه التاريخي ونفاذ بصيرته لفهم التحولات السريعة التي كان يمر بها العالم عامة وبلاد المسلمين خاصة، لما استطاع أن يقوم بهذا الدور العظيم في بعث أمة من موتها.

وفي سياقٍ موازٍ، فإن النورسي بلور “فلسفة تاريخية” تمتح من روح القرآن الكريم، وتستلهم دروسه الكثيرة. وقامت هذه الفلسفة على النظر إلى التاريخ كمجال لحركة الإنسان وإبداعه في ظل الرعاية الربانية المتمثلة في التوجيه والهداية عبر السلسلة النورانية للأنبياء والرسل. ومن ثم فإن هذا الإنسان يصلُح تاريخه كلما اقترب من هذه الرحمة الإلهية، ويُظلم مساره كلما غرق في الكفر وابتعد عن مصدر النور.

(*) كاتب وباحث مغربي.

المراجع

(1) صيقل الإسلام، لبديع الزمان سعيد النورسي، ترجمة: إحسان قاسم الصالحي، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة 2010.

(2) الكلمات، لبديع الزمان سعيد النورسي، ترجمة: إحسان قاسم الصالحي، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة 2008.

(3) المكتوبات، لبديع الزمان سعيد النورسي، ترجمة: إحسان قاسم الصالحي، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة 2008.