تربية الولد أم تربية الوالدين

هل يغتاظ ولدكم منكم ويتحداكم باستمرار؟ هل يأبى أن يخبركم أين يغدو ويروح؟ هل يبدي سلوكاً متمرداً أو معانداً ليعلن عن عدم اضطراره للقيام بأي عمل في المنـزل، ثم يلزمكم برعايته والاهتمام به لأنكم أنجبتموه دونما سؤاله؟ هل تتصادم معتقداتكم وقيمكم بمعتقداته وقيمه؟ هل يتّهمكم بعجزكم عن تلبية رغباته ومطالبه؟.. لعل القليل جداً من الآباء والأمهات سيجيب على هذه الأسئلة بـ”لا”، لأن المطالب والرغبات لدى كل ولد تختلف عن الآخر، وبالتالي قد يكون الولد يعاني من مشاكل في المشاعر والسلوك، لأنه لا يقدر -على سبيل المثال- أن يتفاهم مع صديقه أو أخيه أو أنه يريد دائماً شراء الأمتعة والملابس الجديدة أو أنه يملّ من المدرسة والواجبات المدرسية.. ولعله يصاحب أشخاصاً دون الأخذ برأيكم وتأييدكم، وربما ينـزعج من تدخلاتكم في ميعاد نومه، وساعات استيقاظه، وأوقات مأكله ومشربه، وترتيب غرفته.. وربما لا يريدكم أن تدلوا بآرائكم في كيفية قضائه عطلة نهاية الأسبوع وأوقات الفراغ.
فماذا تفعلونه أنتم في مواجهة هذه التصرفات؟ هل تفرضون على ولدكم الالتزام بأوامركم والانقياد لها ظناً أنها لمصلحته؟ هل تحذرونه بالتخويف والترهيب؟ أم تسعون إلى ضبط تصرفاته بإلقاء الدروس والمواعظ الخلقية وتقديم البدائل والحلول؟ أم تتبعون أسلوب المحاكمة والعتاب أو الذم والزجر وتعلنون عن عدم رضاكم عن السلوك والحركات التي يبديها؟ أم تسخرون منه وتستهزئون به وتلقّبونه بألقاب ليخجل ويكفّ؟ أم تقومون بالمدح المفرط والتشجيع الزائد له، والوقوف إلى جانبه ومؤازرته في كل حركاته وتصرفاته؟ أم تحللون أقواله وأفعاله وأفكاره، وتقوّمونها أمامه وجهاً لوجه؟ أم تجدون صعوبة في الإجابة على أسئلته وتهربون منها أو تضعون لها حدوداً؟..
كيف نتواصل؟
ولعل من الطبيعي أن يجيب الآباء على بعض هذه الأسئلة بـ”نعم”. بيد أن هذه الأحوال تعيق التواصل بين الأبوين وولدهم. كما أن توجيه الأوامر من أجل الحصول على طاعته، يؤثر سلبياً على نموه ويؤدي إلى إحساسه بعدم احترام شخصيته واحتياجاته ومشاعره، وهذا يخلق عنده نوعاً من الغضب والتحدي وإبداء التصرف العدائي. وكذلك التخويف أو كثرة الأوامر والنواهي تجعل شخصية الولد انطوائية غير واثقة بنفسها، ونتيجة لذلك يتجه الولد ليس إلى التفكير الحر، وإنما إلى أن يظل متعلقاً بوالديه، سلبياً خجولا شاعراً بالدونية. فالأولاد لا يحبون سماع المواعظ ولا مواجهتهم بالأخطاء، لأن ذلك التصرف يجرح كرامتهم ويدفعهم إلى الشعور بعدم القدرة والكفاءة، وبالتالي الميل إلى العزلة أو الشعور بالدونية والوحدة النفسية. إن الانتقادات الموجهة إلى الأولاد تفقدهم الثقة بأنفسهم وتشعرهم بأنهم غير محبوبين.
ثم إن إلصاق الألقاب الجارحة لمشاعر الأولاد، والاستهزاء بهم وإحراجهم تخدش مشاعرهم وتؤثر على شخصيتهم تأثيراً سلبياً وتجعلهم يقومون بعكس ما يقال لهم ليُظهروا أنفسهم أنهم على حق. كما تُثير المماطلة وتغيير المواضيع والهروبُ منها، الظن بأننا لا نهتم بهم ولا نحترمهم وإنما نرفضهم.
التوازن في المدح والذم
إن المدح المفرط له تأثير سلبي على الأولاد كما ذكرنا، وإن الأولاد الذين اعتادوا على المدح باستمرار، يشعرون بعدم القبول أو الذنب عند العدول عن هذا المدح، كما أن من الأولاد من يخجلون أو لا يحبون أن يُمدحوا أمام زملائهم ورفاقهم.
إذن ماذا نفعل نحن الآباء والأمهات؟ كيف نعقد صلة وثيقة بيننا وبين أولادنا؟ كيف نؤثر فيهم؟ لقد قيلت أشياء متباينة كثيرة حول هذا الموضوع، لكن المسألة في هذا الصدد ترتكز على دعامتين أساسيتين. أولهما: “الإنصات الفعال” ومن ثم مساعدة الولد على الانفتاح، وإتاحة فرصة التعبير عن مشاعره، ومحاولة فهم العوامل الأساسية التي تؤثر على أقواله وأفعاله، ومساعدته على إيجاد الحلول بنفسه. وثانيتهما كيفية التحدث معه ومعرفة توصيل الأفكار والرغبات إليه، والتصرف تبعاً لذلك. أما هذا فيعتمد على استخدام “رسالة أنا” بدلاً من “رسالة أنت”.
الإنصات الفعال
وقد يساعد “الإنصات الفعال” و”رسالة أنا”، على إقامة الصلة الوطيدة بين الوالدين والولد، حيث يفهم الطرفان مشاعر بعضهما البعض. كما يكتسب الولد عبر هذين العاملين قيماً فاضلة مثالية؛ كالصدق والكرم والبر.. ويصبح مستعداً لتقبّل معتقدات أبويه بسهولة، إذ يُعتبر غرس هذه القيم والفضائل من أعظم المهمات والحقوق التي حملها الأبوان على عاتقهما. ولابد من أن ننوه إلى أن الولد يكتسب المعلومات عن قيمه ومعتقداته عن طريق مراقبة سلوك الكبار أو عن طريق الحوار المباشر معه أو أثناء حديثه مع زملائه في المدرسة أو مع غيرهم في البيئة التي يعيش فيها. لكن الأهم من ذلك كله، أن يكون الوالدان أسوة حسنة يتأسى بهما الولد مدى الحياة. فإذا كنا نحن الآباء نتحلى بحسن الخلق وصدق الحديث، وإذا اعتنقنا معتقداتنا الدينية بحق فلابد أن ينتهج الطفل نفس منهجنا. أما إذا تناقضت أقوال الكبار وأفعالهم، فلا يمكن للولد أو المراهق أن ينال منهم شيئاً يغذي به جانبه القيمي والعقائدي، لذلك لا مناص من تحويل الأقوال إلى أفعال ومنها إلى سلوك حتى يتحقق المقصد.
الإنصات مهم للغاية، لأنه يساعد الولد على التعبير عن مشاعره وعن مشاكله، ثم إن الإنصات الهادئ يبعده عن التوتر والانفعال، ويشعره بالاهتمام به وفهم ما يقوله. فكلما تحدث الولد ووجد قبولا واهتماما ضعفت المقاومة السلبية لديه وقل عناده. إن الولد يلجأ دائماً إلى أبويه ويشركهما في مشاعره وأحاسيسه كلما احتاج إلى شيء أو أراد غرضاً أو سئم وضجر من أمر ما. وإن عدم إظهار الاهتمام لما يقوله الولد وعدم تلبية مطالبه قد يؤدي إلى عواقب أسوأ من رفض الإنصات إليه، حيث تسوء العلاقات بينهما تدريجياً وتصل إلى درجة الانفصال في نهاية المطاف. وبالمقابل إن الوالدين اللذين يستخدمان طريقة الإنصات الفعّال ويحاولان فهم مشاعر الولد وما تعنيه رسالته، ثم يعيدان ما تلقوه منه بألفاظهما الخاصة بهما إلى الولد يلقون تجاوباً إيجابياً منه.
هنا لا يقوم المنصت (الوالدان) بنقل ما قاله السائل (الولد) وتقويم رأيه ولا يضيف شيئاً ولا سؤالاً من عنده، إنما يردّ فقط ما فهمه من رسالة المرسِل، ويحتفظ بمشاعره وأفكاره وتعليقاته الخاصة به. فعلى سبيل المثال، عندما يقول الولد عند وجبة العشاء: “لا أريد أن أتناول الطعام هذا المساء”، يسعى الوالدان إلى إقناعه بطريقة لينة ناعمة ويقولان له: “هيا تعال بسرعة، ينبغي أن تتناول ثلاث وجبات في اليوم الواحد، انظر، طبخْنا لك الأكلة التي تحبها”. وإذا ما اتخذ الولد موقفاً أمام هذا الكلام وقال: “أكلتُ كثيراً أثناء الغداء، ولا أريد أن أتناول شيئاً”، عندها يبدأ الآباء بإلقاء الأوامر الحادة إذ يقولون: “هيا تعال فوراً لا نريد أي اعتراض”، بينما يبدي الولد تصرفاً عناديا ويقول: “لستُ جائعاً، ولن آتي إلى الطاولة”. في هذه الحالة لن يستطيع الوالدان أبداً معرفة مشكلة ولدهم.
أما إذا تم استخدام أسلوب الإنصات الفعّال بدلاً من هذا التصرف عند قوله: “لا أريد أن أتعشى” وقيل له: “لا تريد أن تتناول العشاء هذا المساء إذن”، فسيرد الولد بـ”نعم، أشعر وكأن معدتي مملوءة”، وفي حال اتباع المنصِت أسلوب الإنصات الفعّال واستطراده بـ”أرى أنك متوتر اليوم” يجيب الولد: “لستُ متوتراً، بل خائفاً جداً” ويبدأ في البوح بمشاعره. فبذلك يتمكّن المنصت من إدراك المشكلة وفتح قنوات الاتصال مع ولده من خلال الإنصات إليه.
ماذا يحقق الإنصات الفعّال؟
لا يمكن قمع المشاعر المؤلمة وإزالتها بالتفكير بالأشياء الأخرى، اللهم إلا إذا أعرب عنها بصراحة؛ حتى الكبار إذا ما عجزوا عن إيجاد حل لضيقهم وضجرهم يلجؤون إلى من ينصت إليهم ويروّحون عن أنفسهم بذلك. إذن الإنصات الفعال أكبر مساعد لكشف المشاعر ولمعرفة مصادر الضيق.
الإنصات الفعّال يحسّن الاتصال والعلاقة بين الولد والوالدين، ويسرّع نموّ المحبة لدى الولد تجاه والديه ويجعله يرتبط بهما -أو بالمنصِت- ارتباطاً شديداً، كما ينشّط المشاعر المماثلة لدى الوالدين أيضاً. وهكذا يولد ودٌّ عميق واحترام متبادل بين الطرفين، لأن الإنصات الفعال يعني اهتماماً بما يريد الولدُ التعبيرَ عنه، ويعني اهتماماً إيجابيا بالرسائل الخفية للولد؛ في حين أنه طريق لتجاوز الحالات المتوترة بين الوالدين والأولاد، وكلما مورس الإنصات الفعال تحسنت العلاقات الأسرية وتقلصت الحالات المتشنجة. كما أن الإنصات للولد يحسّن إنصات الولد للأبوين. يقول المتخصصون: إن الآباء والأمهات يشكون دائماً من عدم استماع ولدهم إليهم.. وما هذا إلا انعكاس لسوء استماعهم لابنهم في الحقيقة. والجدير بالذكر أن الإنصات الفعّال يكسب الولد مهارة في معالجة المشاكل وتحليلها بنفسه، والتفكير بها، وإيجاد الحلول لها.
مفردات الإنصات الفعّال
إن مفتاح الإنصات الفعال يكمن في الرسائل غير اللفظية وفي الاتصال غير الشفوي الذي يرسله الأبوان لولدهما من خلال الابتسامة ولغة الجسم وملامح الوجه ونبرات الصوت. المعبرةِ عن الحنان والمحبة والود التي تنبعث بين الفينة والأخرى والتي تعبر عن الموافقة والتفهم لما يقوله الولد. إن أسلم طريق لامتصاص مقاومة الولد وعناده هي تخصيص وقت للإنصات الفعال له، فكلما تحدث الولد ووجد قبولا واهتماما ضعفت المقاومة السلبية لديه وبالتالي ازداد حباً وشغفاً بوالديه.
وعليه فإنه لا يستوجب كلُّ موقف أو كل علاقة بين الوالدين والولد الإنصات الفعّال، أو بعبارة أخرى قد لا يكون الوقت مناسباً للإنصات الفعّال. ولكن أنسب وقت للإنصات الفعّال هو وقت عدم تحقق حاجة الولد أو رغبته، أي وقت يعاني الولد من مشكلة. فغالباً ما يسعى الوالدان لحل مشاكل أولادهم بأنفسهم، إلا أن الصواب هو حث الولد على الاعتماد على نفسه وتشجيعُه على حل مشكاله بنفسه دون مساعدة الكبار.
وهكذا يُعدّ الإنصات الفعال خطوة ضرورية في التربية الإيجابية، ومرحلةً مهمة في حل مشاكل الولد وتفهّم مشاعره، كما يؤدي إلى تجاوب وتواصل وتفاعل إيجابي بين الأبوين وأولادهم.
“رسالة أنا” بدلاً من “رسالة أنت”
يطلِق الآباء والأمهات -بشكل عام- أمام مبادرة سلبية يبديها الولد رسالة “أنت” بعبارات “لا تفعل”، “إذا فعلتَ..”، “لماذا تذهب”، “اجتهد”، “عليك أن تكون أفضل”.. يريد الأولاد بعد تفهم مشاعرهم أن يقوموا بتصرفات إيجابية وفق رغبات آبائهم. لابد أن ننوه هنا إلى أن جميع المشاكل لا تنشأ من قبل الأولاد فحسب، بل يمكن أن يكون الآباء أيضاً هم السبب في نشوب هذه المشاكل. إذ عندما يشعرون بالتعب أو الحزن والأرق والتوتر أو القلق، يسارعون إلى إظهار أحاسيسهم الحقيقية برموز صريحة واضحة مثل “أنا متعب”، “أريد الاسترخاء” وغيرها من التعابير التي تشير إلى “رسالة أنا”.
ومنه فإن “رسالة أنت” تحرّض الولد على التمرد والعناد والتحدي، بينما “رسالة أنا” تؤدي إلى التجاوب والتواصل الإيجابي من الولد، كما أن بيان تأثرنا منه بصراحة، أكثر تأثيراً من توضيح سلوكه السيئ، لأن تصرفنا هذا يبين مشاعرنا تجاهه ويترك له حرية الاختيار في السلوك، ثم يساعده في إدراك معنى المسؤولية ومعنى تحملها. ونظراً لذلك فإن “رسالة أنا” ترمز إلى الصدق، وبالتالي تقود الولد إلى نقل مشاعره برسائل صريحة صادقة. وأما الفائدة العظمى من تلك الرسالة، فهي معرفة الولد أبويه بحق، ونمو العلاقة الحميمة الصادقة بينهما والبوح بالمشاعر العميقة. ونتيجة لذلك يقوم الأولاد بالتعبير عن هذه العلاقة بقول: “أمي وأبي كالأصدقاء معي. إنهما طيبان جداً. لعلهما يخطئان ولكني أحبهما رغم ذلك”..
وأخيراً، إذا كان الآباء والأمهات يحبون أولادهم بحق، ويريدون تربيتهم على المحبة والاحترام والمسؤولية والصدق، فإنهم مضطرون إلى تعلّم كافة السبل والمسالك التي تحقق لهم حياة فاضلة سيعدة كريمة، مليئة بالحب والأمن والسلام.. وإن كل ذلك بيد الآباء والأمهات وليس بيد سواهما..
ــــ(*) الترجمة عن التركية: د. أماني عدلي علي.