بين إنسان الغاية والإنسان المثالي

إن الكتابة المنهجية التي يكتب بها الأستاذ فتح الله كولن تحتاج إلى قراءة منهجية خاصة؛ فهو يكتب مقالاً يريد منه التأكيد على قضية محورية خاصة، لكنك تجده لا يفوّت الفرصة عليك، إذ يركز على الأساسيات التي يراها لازمة لتحقيق الخدمة لهذا الدين. فتجد في المقال الواحد عمقًا يقف بك على حقيقة فكره في منطلقاته ووسائله وآلياته، وفي موازينه من حقائق الفهم والتصور، وحقائق التربية والتزكية، وحقائق الفاعلية والحركية.

وبين يدينا هنا مقالان للأستاذ لعل الكثير قد قرأهما أو اطلع عليهما، واللافت فيهما هو تلك الصلة العميقة الأصيلة بينهما، بما يدفعك لفهم تلك الروح التي تسري في كلمات هذا المفكر الكبير، وهي روح تبعث في نفسك حقيقة الصحبة التي عاشها، وتمثلها ذلك الجيل الأول؛ جيل الصحابة رضوان الله عليهم.. حيث يعكس لك الأستاذ فتح الله “الصحبة”، حالة مستمرة لا تقف عند حدود الأشخاص والأفراد، وهي حينئذ تجسيد للفكرة في اندماجها مع الذات واندماج للذات مع الفكرة، حتى تصبح هي هو، ويصبح هو هي.

المقال الأول بعنوان “صورة قلمية لرجل القلب”(1)، والمقال الآخر هو “المجتمع المثالي”(2).

ويمكن لتحقيق الفائدة، أن ننظر بخطين منهجيين نحو سبر حقيقة المعنى الذي يرمي إليه الأستاذ في هذين المقالين.

الخط الأول، خط أفقي يجمع الصلة بين حقيقة “رجل القلب” و”رجل الإحسان” وبين “المجتمع المثالي”.

والخط الثاني، خط عمودي يغوص في عمق كل مقال ليكشف سره وهمَّ الأستاذ فيه.

في القراءة الأفقية

لا بد من التأكيد هنا بشكل واضح، أن القراءة المتأنية الفاحصة الكاشفة عن الدلالات الموضوعية لفكر الأستاذ فتح الله كولن، هو ما تحتاجه هذه الكتابات العميقة المؤثرة، ذلك أن مطلوبها الرئيس، صناعة الإنسان وإعادة بنائه وفاعليته.

والجمع بين المقالين، يوضح لك القراءة الأفقية التي توقفك على حقيقة التكامل في بناء هذا الإنسان الذي يمثل “الرجل المثالي” وهو ذاته “رجل الإحسان” أو “رجل القلب”. فإذا كان المقال الأول “صورة قلمية لرجل القلب” يركز على التربية الروحية والتزكية النفسية، فإن المقال الآخر “المجتمع المثالي” يبين أهمية الفهم والوعي والإدراك العقلي في هذا البناء.

اِسمع إليه وهو يحدثك عن حقيقة التربية الروحية حيث يقول: “رجل القلب بأفُقه وإيمانه وتصرفاته، يمثل بطولة الروح والمعنى. إن عمْقه وسعته لَيْسا من ناحية معلوماته ومكتسباته، بل بغِنى قلبه وصفاء روحه وقرْبه من الحق تعالى. بطل القلب الحي يكون مبَرمجًا حسب الحياة القلبية والروحية، عازمًا على البقاء، بعيدًا عن كل المساوئ المادية والمعنوية”. فليس المؤثر من احترق عقله بالمعلومة، بل الذي احترق قلبه بها.

لكنك تجده في مقال “المجتمع المثالي”، يحدثك عن بناء هذا الإنسان في جوانب فكره وفهمه وإدراكه وتصوراته، ثم يبين لك تجليات هذه البصيرة، وهذه التجليات هي إدراك كنه الأشياء وحقيقتها: “الإنسان المثالي، أو الإنسان الكامل -كما عبّر عنه القدماء- هو المتحلّى بصفات ملائكية.. هو بطل البصيرة وفارس الإدراك.. هو المتنبه إلى الحقيقة الكبرى التي عبرت عنها الآية الكريمة لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ(التين:4)”.

في القراء العمودية

ونذهب مباشرة إلى الخط الثاني في قراءة المقالين، وهي الخط العمودي الذي يوضح لنا حقيقة كل مقال ومقصوده بعد أن لمسنا فيهما تكامل الفكر وتعانقه.

نموذج الإنسان وتمثلاته

استطاع الأستاذ فتح الله -بكل عبقرية- أن يختزل في خلاصة ما يتطلبه الوعي بحقيقة صناعة المسلم الفاعل، فهو يقدم “نموذج” هذا الإنسان، ثم يقدم “تجلياته” أو “تمثلاته”.

وفي سياق الإفصاح عن “نموذج” هذا الإنسان يذكر أولاً مقوّماته، وثانيًا صفاته، وثالثًا منهجه، ورابعًا هدفه. وهو يذكر في “المقومات” التي تقوّم بها حقيقة هذا الإنسان “المعلومات والمكتسبات”، و”غنى قلبه” و”صفاء روحه”.

وفي “صفاته” يعدد الكثير منها:

• فهو مبرمج حسب الحياة القلبية والروحية.

• وهو عازم على البقاء بعيدًا عن كل المساوئ المادية والمعنوية.

• وهو حذر على الدوام من الرغبات الجسدية.

• وهو متواضع باهر ينكر ذاته بقوة.

• وهو صاحب أخلاق عظيمة، صابر ووقور.

• وبدل الكلام الكثير تراه يعيش حسب عقيدته وإيمانه.

وحياته الروحية ليست خمولاً أو كسلاً إيمانيًّا، بل هي حركة روحية فاعلة. فهو رجل الحركة والدعوة والإيمان. يحترق بهدوء ويدفئ أرواح كل من يلجأ إليه، وينفث فيها الحرارة.

أما “منهجه”، فهو إقامة الحق، لا يفكر في حركاته وسكونه إلا في الحق؛ كيف يقيمه في الدنيا وينشره. مستعد للتخلّي عن رغباته ومطالبه في سبيل ذلك. فتح صدره للجميع، منسجم مع الجميع، يحب كل من يقدم خدمة لدينه ووطنه وغايته السامية.. ومع هذا فلا يبتغي أجره إلا عند الله تعالى.

وأما “هدفه”، فهو إرضاء الله تعالى؛ تجده متلهفًا لنيل رضاه. ومن ثم نراه يربط جميع حركاته وسكناته في كل أمر وفي كل ظرف وحين، برضاه تعالى. وهو مستعد لأن يضحّي بكل شيء للوصول إلى هذا الهدف. فأنت تجد الأستاذ هنا، قطع شوطًا كبيرًا في ربط هذا الإنسان بأن لا يتعلق بالجزاء الدنيوي مهما بلغ حجمه، فالنصر والتمكين من باب تحصيل الحاصل إذا صدق هذا المسلم في ابتغاء وجه الله في كل ما يعمل.

أما في سياق “تجليات” أو “تمثلات” رجل القلب، فهي في خمسة تجليات وتمثلات:

1- مع نفسه؛ فهو يعرف طريقه، يتطلع دومًا إلى الماوراء. مرتبط برضا الحق تعالى. دائم السير، يقطع المسافات تلو المسافات مثل جواد أصيل لا يعرف الفتور حتى يبلغ هدفه ومبتغاه، دون أن يلتفت إلى شيء من حطام الدنيا.

2- مع ربه وخالقه؛ حيث هدفه إرضاء الله تعالى، فيعيش فكرة الإخلاص سلوكًا دائبًا دائمًا لا تفتر فيه همته. يبدي حرصًا في هذا الصدد ولو أدى به إلى الموت.

3- مع إخوانه العاملين معه في ذات الحقل؛ حيث لا يوجد في عالم رجل القلب ادعاءات أمثال “فعلتُ أنا”، “أنجزت أنا”، “نحجت أنا”.. فهو يفرح بكل إنجاز حققه آخرون وكأنه هو الذي أنجزه، ويعد نجاحات الآخرين نجاحًا له.. ويتبعهم تاركًا لهم شرف الريادة ومرتبتها.. لا يدخل في أي مناقشة مع الذين يشاطرونه فكره وطريقه، ولا يشعر نحوهم بأي حسد. على العكس، يحاول إزالة عيوبهم وتكملة نواقصهم، ويتصرف تجاههم تصرف عضو الجسد نحو سائر الأعضاء بروح الإيثار.

4- مع الناس من حوله؛ فرجل القلب يبقى على الدوام محترمًا أفكار الآخرين ومناهجهم، موقرًا لهم ومستعدًّا للعيش المشترك معهم. ولا يفتر عن البحث عن طرق التعاون والمشترك مع من يقاسمهم الفكر نفسه.. يبحث عن طرق التعاون والمشاركة هذه، ويطور معهم مشاريع العمل المشترك واضعًا كلمة “نحن” بدلاً عن “أنا”.

5- مع الحياة الدنيا؛ حيث تراه نذر جميع أفكاره ومشاعره وسلوكه في سبيل رضا الله تعالى، بحيث لو أعطيته الدنيا وما وراءها، لما استطعتَ زحزحته عن هدفه، بل حتى لو أعطيته الجنات، لما انحرف عن وجهته وعن طريقه.

مقومات الإعداد القرآني لرجل القلب

أما القراءة العمودية للمقال الآخر “المجتمع المثالي”، فتوقّفنا على صلة قوية ومباشرة مع “رجل القلب” الذي يسمّيه الأستاذ أيضًا “رجل الإحسان”، فهو يحسن دوره ورسالته.

وهنا في هذا المقال، يؤسس لنا الأستاذ “مقومات الإعداد القرآني” لهذا الفرد، التي تجعل منه الرجل المثالي الذي يصنع المجتمع المثالي.

ويطلق على هذا الإنسان مصطلح “إنسان الغاية”، موازنًا بينه وبين “إنسان الجسد”. وأول ما يشكّل إنسان الغاية، تلك التصورات والمعتقدات التي يؤمن من خلالها أنه الإنسان المرشّح الوحيد بين جميع الكائنات للعروج إلى آفاق لانهائية؛ آفاق الخلافة والاستخلاف. أجل إنه إنسان ذلك الوعي وتلكم البصيرة.

ثم إن اكتشافه لمواهبه وقدراته وإمكاناته واستثمارها، يعد الأمر الثاني مما يشكل هذا “الإنسان الكامل” كما يسمّيه الأستاذ. وهو واع وعيًا تامًّا أنه مجهز بطاقات وقدرات مفتوحة إلى اللامحدود.. ومستوعب سبل استثمار “المواهب الأولى” التي منَحها إياه الفاطر جل وعلا. فهو يملك ثقة لا حد لها، وطمأنينة لا غاية بعدها.

وثالث المشكِّلات تلكم، هي القوة الروحية البناءة، أو هو البناء الروحي التزكوي. “فأنت تجده مشتعل الفؤاد؛ قد شيد من بوارق الحكمة التي لا تكف عن الوميض في سماء وجدانه، ومن نسمات الإلهام التي لا تنقطع عن تجلياتها في أرجاء روحه، صروحًا نورانية شامخة.. إن روحًا قد وصلت تلك القمة السامقة، ليستوي لديها الإحسان والحرمان”.

وأما آخر هذه المكونات، فهي تلك الحركية والفاعلية، والتأثير العملي الذي يحرص “إنسان الغاية” أن يؤدي فيه دوره ورسالته. فهو قد فرّغ كل وقته ووظّف كل طاقته لتحقيق سعادة الأمة. “وهو ينطلق ليهمز جواده، مقتحمًا به الصفوف، طعّانًا للصدور، حصّادًا للرؤوس، ومزلزلاً قلوب الظلمة بزئير كزئير الأُسود المزمجرة”.

بناء تام متكامل

وهكذا يكون “الإنسان المثالي”، وهكذا يكون “إنسان الذات”، وهكذا يكون “رجل القلب” و”رجل الإحسان”، لتتكامل بعد ذلك مكونات هذا المخلوق الذي خلقه الله لغاية كبرى عظيمة، يرى نفسه مسؤولاً عن أن يصبغ العالم بصبغة الإسلام والإيمان.

 

(*) رئيس قسم أصول الدين في كلية الشريعة بالجامعة الأردنية / الأردن.

الهوامش

(1) مجلة حراء، العدد:14 (يناير-مارس) 2009.

(2) مجلة حراء، العدد:31 (يوليو-أغسطس) 2012.