على قدر إتقان التساؤل وإتقان استخلاص الإجابات عنه تكون فاعلية الإنسان في الكون المحيط به، وهو تساؤل ينبغي أن يكون -كما إجاباته- باللغة التي يفهمها الكون. فالأبجد الذي به يتم البيان والتبيّن بين أفراد الإنسان، لا يغني في البيان والتبين مع، ومن الكون.
إن علوم التسخير جميعها لم تعْدُ كونها باحثة عن هذا الأبجد الذي به يؤمر الكون المسخر فيستجيب وفق السنن التي أودعها الله فيه، وهي سنن تجعله رافضًا كليةً للعبث، إذ لا يفهمه.
وواضح من خلال النظر العام في تاريخ الإنسان، أن التساؤل يتشعب على احتمالات لا انتهاء لها: ﴿إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى﴾(الليل:4)، احتمالات يكون المحدد لها هو رغبات الإنسان وميوله وطموحاته وآماله. إن هذه الدوافع الكامنة هي التي تستدعي تساؤلات تتسق معها.
إن تساؤل الإنسان إذن -في هذا الكون ومعه- هو حركته، وهي حركة تُشكِّل الدوافعُ والنزاعات الكامنةُ المولّدَ لوجهتها.
يمكن إذن، تشبيه حركة الإنسان في الكون بحوار -إذ كلما حصل على جواب من الكون حوّله إلى سؤال آخر أكبر، كدحًا إلى الملاقاة- فإن كان الحوار مثمرًا -والإثمار مسؤولية يتحملها الإنسان لأنه هو المسخِّر والكون هو المسخَّر- أصبحت حياة الإنسان في الكون ممكنة، وإلا فإنها تنعدم. وتاريخ الإنسان يحفل بحالات عسر الحياة أو انتهائها التي نجمت عن عجز الإنسان عن إجراء الحوار المثمر مع الكون، فالأرض قد قدر رب العزة فيها أقواتها: ﴿فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ﴾(فصلت:10)، غير أن ثمة -أيضًا- تجارب مُرة تبين أن الحياة تستمر، ولكن بتردٍّ مستمر عبر دركات ومهاوي الذلة والحيرة والتبعية، وما ذاك إلا بسبب تداعي الرغبات غير المنتظمة في نسق مشروع بيِّن العواقب يجعلها (أي الرغبات) تولد طاقة دافعة لتحقيقه.

الوجهة في المجال الإنساني

إن المشروع في الاجتماع البشري أشبه بالنواة في الذرة التي تنتظم حركة الكهارب فتجعلها حركة غائية هادفة، فحين تزول النواة ينفرط نظام الذرة وتستحيل الكهارب إلى جسيمات تتحرك، ولكن حركة دون وجهة سرعان ما تنهيها. لكن بعد الوعي بأهمية المشروع تنشأ ضرورةُ أن يكون المشروع صادرًا عن فهم للإنسان فلا يضخم جانبًا فيه على حساب جوانب أخرى، إذ المشاريع التي تنشأ عن عدم فهم كافٍ للإنسان تتشكل حولها عصبية دافعة، ولكن نحو بوار، فهي وإن بدت في مبدئها قوية فاعلة مثمرة، فإنها ما تلبث أن تنهك ببذور الفناء التي تحملها في أطوائها.
وهذا ما تفطَّن له ابن خلدون رحمه الله في مقدمته في سياق بحثه اللوذعي للعصبية إذ قال: “الإنسان خلالُ الخير فيه هي التي تناسب السياسة والمُلك، إذ الخير هو المناسب للسياسة، وقد ذكرنا أن المجد له أصل يبنى عليه وتتحقق به حقيقته، وهو العصبية والعشيرة، وفرع يُتمم وجوده ويكمله وهو الخلال. وإذا كان المُلك غاية للعصبية فهو غاية لفروعها ومتمماتها وهي الخلال، لأن وجوده دون متمماته كوجودِ شخص مقطوع الأعضاء. وإذا تأذن الله بانقراض الملك من أمة حملهم على ارتكاب المذمومات وانتحال الرذائل وسلوك طرقها، فتفقد الفضائل السياسية منهم جملة، ولا تزال في انتقاص إلى أن يخرج الملك من أيديهم ويتبدل به سواهم: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا﴾(الإسراء:16)، واستقرئ ذلك وتتبعْه في الأمم السابقة تجدْ كثيرًا مما قلناه ورسمناه، والله يخلق ما يشاء.
إن الوجهة في المجال الإنساني، منفصلة عن الحركة انفصالاً ليس بانفصالِ استقلالٍ، وإنما هو انفصال تحد جعل كل منهما يتكامل مع الآخر.
لننظر -مثلاً- إلى سائق سيارة يضمن حركتها محركها وهي حركة سريعة فاعلة، لكن إذا اقترنت بها وجهة غير مستبصرة قد تجعل منها حركة قاتلة رغم فاعليتها. ولكن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد في المجال الإنساني، فالحركة والوجهة -وإن تكاملتا- فإن تكاملهما إلى غير قبلة معروفة مأمونة العواقب سوف يجعل منه تكاملا عابثًا سرعان ما يغيض، إذ الحركة تفقد معناها بفقدانها القبلة، كما أن العلم بالقبلة دون حركة موجهة نحوها لا يجدي ﴿يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا﴾(الأنعام:158).
إن تنوع وتعدد أسباب العيش وأماكنه والحوائل دونه، وكذا تعدد طموحات الإنسان وآماله التي يريد أن يبلُغها، وتعدد وتنوع آلامه التي يريد الفرار منها، يفرض عليه تقلبًا دائمًا في المواقع، وهي مواقع ليس يسهل عليه منها جعل حركته معانقة لقبلته، فيصبح التوجه ضرورة في حياة الإنسان لكونه شرط هذه المعانقة.

تحديد الوجهة السليمة باستتباع حركة السجود

فللسلامة والفوز لابد من المعرفة بالقبلة التي ينبغي أن يسجد نحوها ويقترب منها: ﴿كَلَّا لاَ تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾(العلق:19)، ولابد من إبصار العلامات/البصائر التي تُحدد الوجهة السليمة نحو القبلة انطلاقًا منه: ﴿وَعَلاَمَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ﴾(النحل:16)، ﴿قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا﴾(الأنعام:104)، كما أنه لابد من الحركة وفعل السجود، إذ لا معنى لمعرفة القبلة وتحديد الوجهة إن لم يكن هذا يَستتبع حركةً وسجودًا نحوها.
فإذا نحن نقلنا النظر من الإنسان فردًا إلى الإنسان جماعة حيث يكون السعي شتى: ﴿وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى﴾(الليل:3-4)، وحيث بالتبع تتعدد المواقع بتعدد الناس، وما يستبطنه كل واحد منهم من دوافع، فإن التحدي يصبح أكبر، ومفاده هو: كيف يحصل الانتظام نحو القبلة الواحدة عبر هندسة لمختلف الوجهات تجعل حركة متوجهيها متكاملة متضافرة غير متضاربة ولا متنافية؟ بعبارة أخرى؛ كيف تصبح هذه الجماعة المقبلة في ظل الوحي المُعلِم بالقبلة، قادرة على إبصار الآيات والبصائر المحكَمة المفصَّلة المصرَّفة التي تعين على تحديد الوجهات المتكاملة، لكل من موقعه، فتصير الجماعة أمة تؤم قبلة واحدة.
إنه لا مناص -لكي توجَد الأمة- من إمام يهدي إلى القبلة بسيره الراشد، كما يهدي إلى منهج تبيّن الوجهة نحوها، بتلاوة الآيات والبصائر، وبتزكية أفراد الأمة كيما يشكلوا باجتماعهم جماعة مقبلة على ربها، كما يهدي بتعليم الحكمة الممكّنة من تأويل الآيات والبصائر والعمل بمقتضاها.
يقول تعالى: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ * وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعًا إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ * فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ﴾(البقرة:144-152).
إن خلق الكائنات -ما خلا الإنسان- مُعَرَّفة الحركة والوجهة، أي دوام سجودها وحتميته -كما تقدم- يجعل من الحركة والوجهة في المجال الكوني شيئًا واحدًا. إذ الكائنات -ما خلا الإنسان- تتمكن من الحركة نحو قبلتها ابتداء، إذ هي كما أعطيت الخلق أعطيت الهداية: ﴿قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾(فصلت:11)، ﴿رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾(طه:50)، ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى﴾(الأعلى:1-3).
فالحركة والوحي في المجال الكوني -بناء على هذا- مندمجان بخلاف حالهما في المجال الإنساني حيث هما منفصلان. فالإنسان لا يتمكن من السجود إلا بقدر تخلصه من مختلف السجون المحتوشة(1) له، واضطلاعه بالأمانة التي حملها دون الكائنات كلها: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً﴾(الأحزاب:72).
فالذي يمكن من الفعالية في الحركة هو فقه علوم الكون، والذي يمكن من الرشد في الوجهة هو فقه علوم الوحي. وفي الآن ذاته، فلا الكون ولا الوحي يجعلان السجود حتميًّا في المجال الإنساني بل يجعلانه ممكنًا، وعلى الإنسان اتخاذ القرار بتحقيق ذلك في حياته فردًا وأمة… فالعطاء غير مجذوذ ولا محظور، وفرصة الإنسان حياته؛ فإما اهتداء وإما ضلالا.

الغرب واستتباب الوجهة المادية

إن الحتمية التي أدخلها الغرب إلى مجال العلوم الإنسانية، تعتبر من أعظم الإصابات التي أصابت الإنسان المعاصر في قدرته على التعامل مع ذاته فردًا وجماعة. وقد نتج ذلك عن عدم التفريق بين الإنسان والكون تحت أزّ النزعات المادية التي ذرّت بقرنها منذ أواخر القرن الرابع عشر ردّ فعل على الرهبنة -الناجمة عن المسيحية في أدوارها المتأخرة- والتي أزّمت المجتمعات الغربية والعالم معها. فكان من نتائج ذلك المباشرة استتباب الوجهة المادية، من جهة عن طريق التأصيل الفلسفي والنظري لها، والذي بلغ أوجه مع “هيجل” و”نيتشه” الذي أعلن موت الإله، غير أنه في حقيقة الأمر أعلن موت الإنسان.
ومن جهة ثانية عن طريق الكسب العيني المشخص، والذي بمقتضاه تم إنهاك البعد الروحي للإنسان في مقابل تقوية البعد المادي منه تحت وطأة الانبهار بما حققته العلوم الطبيعية في تعاملها مع الكون، إلى درجة مكننة التصور للإنسان فردًا وجماعة مماهاة له مع الكون.
يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري في بحثه القيم “نموذج تفسيري وتصنيفي جديد”: “وفي إطار المرجعية المادية الكامنة، فإن الإنسان كائن طبيعي وليس مقولة مستقلة داخل النظام الطبيعي، وإنما هو مستوعَب تمامًا فيه، ويسقط تمامًا في قبضة السيرورة، فتسقط المرجعية الإنسانية وتصبح الطبيعة/المادة هي المرجعية الوحيدة النهائية، وتُصَفّى ثنائية الإنسان والطبيعة ويمكن حينئذ تفسير الإنسان كما تُفسّر الأشياء.
وثمة قانون واحد يسري على كل الظواهر، وثمة مبدأ مادي واحد تُرَدّ له الظواهر، ومن ثَمَّ يمكن تسوية الإنسان بالكائنات الأخرى، ويمكن تفكيكه في إطار الواحدية الكونية المادية، فيرد الإنسان إلى ما هو دونه، ويصبح شيئًا بين الأشياء، ذرة مثل كل الذرات…
وبهذا المعنى، فإن المرجعية الكونية المادية تشكل هجومًا على الإنسان ككيان حر مستقل، عن الطبيعة/المادة وعلى مركزيته في الكون، بل وعلى مفهوم الطبيعة البشرية ذاتها كمقولة مستقلة عن الطبيعة المادية”.

الإنسان ثنائي البُعد والأحادية تنهيه

والحاصل أن الإنسان ثنائي البعد، فالأحادية تنهيه ولا تستتب النظم المتولدة عنها إلا “بموته”، فالفلسفة المادية كالأخرى الروحانية عاجزتان عن فهم الإنسان وعن تمكينه من الخروج من الأزمات التي تزجانه فيها، ولا يمكنهما التحقق في مستوى التنزيل إلا بالقضاء على خصوصية الإنسان المتمثلة في ثنائية بعده. ولذا اعتمدت الأنظمة القائمة على المادية وتعتمد على صياغة “إنسانها” إنسانًا أحادي البعد حتى تقدر نظمها على التحكم فيه والتنبؤ بحركته.
أما وجهة الرهبنة فلا تتحقق بدورها حتى تزج بإنسانها في منحدر البحث عما يسميه فلاسفتها بـ”الموت الاقتداري”.
إن محاولة جعل حركة الإنسان كحركة الكون من لدن النزعة المادية الأحادية أو محاولة جعل حركته نابذة للكون من لدن النزعة الروحانية الأحادية (الرهبنة) تفقد الإنسان توازنه، وفي الحين الذي تكون غاية حركة الكون الأحادية هي التوازن، لأن الوجهة مدمجة مع الحركة، فإنها في المجال الإنساني تصبح هي الطغيان (فقدان التوازن)، لأن الوجهة منفصلة عن الحركة، ولأن حديدها مسؤولية الإنسان وأمانته.
يقول تعالى في سورة الشمس: ﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا * كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا * إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا * فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ نَاقَةَ اللهِ وَسُقْيَاهَا * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا﴾(الشمس:1-15). فكل الكائنات جاءت معرّفة لأنها تخلق ووحيها معها، فسجودها متحقق ابتداءً طوعًا وتقديرًا.
وحين يصل السياق إلى الإنسان ترد نفسه نكرة، إذ الإنسان هو المكلف بتعريفها بحسب علاقته مع الوحي وتحديده وجهته: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾، لكي تصير إما ﴿النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ﴾(الفجر:27) أو ﴿النَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾(القيامة:2) أو ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾(يوسف:53).
إن الإنسان ليس هو الكون، وفي الوقت نفسه ليس عدوًّا له، خلافًا للوجهتين النقيضتين: المادية والرهبنة.
فقدَر الكون أن يكون ساجدًا لله بشكل دائم، آخذًا لموقعه منذ لحظة خلقه. بينما قدَر الإنسان أن يكدح ويكابد ليتبوأ موقعه ويقوم بتعريف نفسه، قدره أن يعمل لتحقيق السجود ويقتحم كل العقبات المانعة له من ذلك: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ * فَلاَ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ﴾(البلد:10-20).
إن قدر الكون أن يكون ثابت الموقع، في حين أن قدر الإنسان أن يحيي قلق وحيرة السعي لتعريف نفسه، ولا سبيل للفلاح في هذا إلا بالوحي.
لقد جاء الوحي في المجال الإنساني متسقًا مع كون الإنسان متحملاً للأمانة، وكونه عُلِّم الأسماءَ كلها، ومع كونه قد أسجدت له الملائكة، ومع كونه قد رفع إلى أعلى مصاف الكرامة. وهذا مقتضاه تفعيل الإمكان الكامن في الإنسان وعدم طمره أو إهماله، لأن في ذاك تحجيمًا له. فالوحي -بناء على هذا- تنزل وفق قدرات الإنسان التي زوّده بها باريه -وهو أعلم به- ولا يحصل الانتفاع به إلا إذا شغلت جميعها. بتعبير آخر، لا يتحقق السجود في المجال الإنساني إلا بحشد الإنسان -فردًا وجماعة- لكل الطاقات المكنونة فيه. وعلى هذا يفهم قوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾(التغابن:16)، وقوله: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾(الأنفال:60)، وقوله: ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا﴾(الطلاق:7)، وقوله: ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا﴾(البقرة:286)، فالوسع والإيتاء قد فُهما في فترات الجمود والقعود فهمًا سالبًا، في حين أن التطلع لتحقيق السجود يقتضي لهما فهمًا موجبًا.
ــــــــــــ
الهوامش:
(1) يتخلص من سجن نفسه (أهوائه، غرائزه، نزعاته..) بالمجاهدة والتزكية، ومن سجن محيطه بالتوكل، ومن سجن العقائد والمفاهيم الباطلة بالإخلاص، من سجن الأشياء بالتوق إلى الآخرة المنتج للزهد، ومن سجن الطاغوت بالجهاد الكبير بالقرآن وما يوجه القرآن إلى الجهاد به.