المقاصد الاجتماعية لنظام الزكاة

لا غرابة أن تكون الزكاة أداة مالية فعالة، لها أدوارها العلاجية لمظاهر اجتماعية متعددة كالفقر والمسكنة وغيرها، وذلك لأنها صادرة من عند رب العزة سبحانه، ولأنها ثالث ركن من دين الإسلام بعد الشهادتين والصلاة، فلا غرو إذن أن يكون هذا النظام المالي الرباني الفريد من أنفع العلاجات للمشاكل الاجتماعية التي لا يخلو منها أي مجتمع.

يعترف الإسلام بالتفاوت بين الأفراد في أرزاقهم وفي نمط حياتهم أو معيشتهم، وذلك نتيجة طبيعية لاختلافهم في مقدار ما يبذلون من جهد وعمل.

وقد أثبتت هذه الشعيرة الربانية نجاعتها عبر العصور، وأتت أكلها رغم اختلاف الزمن والمكان والبيئة، وذلك لما تَقَصَّدَتْهُ من أهداف اجتماعية تهم القضاء على جميع الفوارق الاجتماعية بين البشر مهما اختلفت ديانتهمولغتهم وألوانهم، وفيما يلي بيان لبعض المقاصد الاجتماعية لهذه الشعيرة.
لقد كان الغرض الذي فرضت من أجله الزكاة هو القضاء على مجموعة من المشاكل الاجتماعية التي لا يمكن أن يخلو منها أي مجتمع كيفما كانت نُظُمُه وقوانينه؛ ذلك لأن الأشخاص تختلف طبائعهم وتختلف فطنتهم وذكاؤهم من حيث الكد والسعاية في أقواتهم وأرزاقهم، فالاختلاف طبيعة في الناس مركوزة، فهم مختلفون في شتى أمورهم، ومتفاوتون في جميع شؤونهم، وأمر الأرزاق مما اختلف الناس في تدبيره والسعي في أسبابه، وهذه سنة ربانية وحكمة إلهية، مبثوث معناها في التنزيل العزيز، من ذلك:- قوله تعالى: (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَاوَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّاوَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ) (الزخرف:32)،
وقوله سبحانه: (وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الرِّزْقِفَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَىٰ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) (النحل:71)،
وقوله جل شأنه: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ) (الأنعام:165).

لا خلاف بين العقلاء أن أساس المشاكل الاجتماعية هو الفقر، بل هو أساس المشاكل الدينية.

وعلى هذا الأساس يعترف الإسلام بالتفاوت بين الأفراد في أرزاقهم وفي نمط حياتهم أو معيشتهم، وذلك نتيجة طبيعية لاختلافهم في مقدار ما يبذلون من جهد وعمل، لذلك حاولَ أن يُقرب هذه الهوة السحيقة من التفاوت الحاصل بين الناس عبر مجموعة من الآليات والأنظمة المالية، والتي من بينها نظام الزكاة الذي أثبت نجاعته قديمًا وحديثًا.

أولاً: مقصد محاربة الفقر

لا خلاف بين العقلاء أن أساس المشاكل الاجتماعية هو الفقر، بل هو أساس المشاكل الدينية أيضًا، فما فتئت المشاكل بمختلف أنواعها من جهل وأمراض وكفر تنشأ عن الفقر، فالفقر “خطر على العقيدة وخطر على الأخلاق وخطر على سلامة التفكير وخطر على الأسرة والمجتمع، وفضلاً عن ذلك فإنه يعتبر بلاء يستعاذ بالله من شره، فعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ: “اللهم إني أعوذ بك من فتنة النار ومن عذاب النار وأعوذ بك من فتنة الغنى وأعوذ بك من فتنة الفقر”، وقد قرن رسول الله صلى الله عليه وسلم الفقر في تعوذه بالكفر وهو شر ما يستعاذ به وفي ذلك دلالة على خطره فعن أبي بكر مرفوعًا: “اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر”…، فالفقر قد يجر إلى الكفر لأنه قد يحمل على حسد الأغنياء، والحسد يأكل الحسنات، وقد يدفع إلى التذلل وعدم الرضا بالقضاء والقدر والسخط على كل شيء، ومن هنا فإن الفقر إن لم يكن كفرًا فهو جارٌ إليه.”
لذلك كانت أهم ما تقصد إلى محاربته هذه الشعيرة الربانية هو الفقر وما يدور في فلكه من المشاكل الفرعية، ونجد ذلك في قوله تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ۖ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (التوبة:60).
بل إن في بعض نصوص السنة النبوية الشريفة نجد النبي صلى الله عليه وسلم يصرح بهذا المقصد الشريف للزكاة، وذلك في وصيته لمعاذ رضي الله عنه، لما بعثه لليمن: “فإن هم أجابوك لذلك فأخبرهم أن الله قد فرض الله عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم”.
فقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم بجعل الفقر هو الأساس الذي من أجله فرضت الزكاة، ليبين أن كل ما جاء في المصارف الباقية إنما أساسه الفقر.

ثانيًا: مقصد تحقيق المساواة

نجد هذا المقصد في بعض النصوص العامة مثل قوله تعال:(كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ) (الحشر:7) فتداول المال يحقق المساواة بين أفراد المجتمع الواحد، ويقضي على الفوارق الطبقية بين البشر، وقد رغب الإسلام في هذا الأمر، ومن الآليات التي نصبها لتحقيق مقصد المساواة، آلية الزكاة، التي تجعل المال متداولاً بين كل فئات المجتمع.

الفقر قد يجر إلى الكفر لأنه قد يحمل على حسد الأغنياء، والحسد يأكل الحسنات، وقد يدفع إلى التذلل وعدم الرضا بالقضاء والقدر والسخط على كل شيء.

كذلك من النصوص التي يفهم منها هذا المقصد قوله تعالى:(وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (التوبة:34) فجعل سبحانه الاكتناز وهو خزن المال وصيانته وعدم إنفاقه، سببًا في عذاب الله يوم القيامة، مما يرهب كانز المال وخازنه، ويدفعه إلى الإنفاق على الفقراء، الأمر الذي يخرج من دائرة الاكتناز والادخار إلى دائرة التداول بين جميع الفئات المجتمعية.

ثالثًا: مقصد تحقيق الاستقرار الاجتماعي

تقصد الزكاة إلى الاستقرار الاجتماعي من خلال ما تفرضه على الأغنياء من التكافل الاجتماعي والأخذ بأيدي الفقراء ومساعدتهم، وبما فرضه الله سبحانه على أولي الأمر من جباية الزكاة وتوزيعها على مستحقيها، وذلك تحقيقًا لاستقرار المجتمع، فإذا لم تؤد الزكاة في مجتمع فيه الفقراء، فسيؤدي ذلك إلى تفكك توازنه واختلال نظامه؛ إذ مما ينتج عن الفقر ظواهر اجتماعية سلبية كثيرة كالتسول أو السرقة أو قيام ثورات اجتماعية، والتاريخ خير شاهد على معظم الثورات التي قامت في العالم، والتي كان من أهم أسبابها استفحال الفقر.

رابعًا: مقصد تحقيق السلم الاجتماعي

وهذا المقصد أشهر من أن يوضح؛ ذلك أن أداء الزكاة يترك أثرًا نفسيًّا لدى الآخذ والمعطي، حيث تقضي على جميع الأمراض النفسية والقلبية، والله سبحانه هو القائل: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ۖ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (التوبة:103)، فأداء الزكاة هو طهارة للمعطي وتزكية له، وهذا من شأنه أن يؤدي إلى السلام النفسي الذي بدوره ينتج سلامًا اجتماعيًّا خاليًّا من الحقد والحسد والغل بين الفقراء والأغنياء، إذ النفوس مجبولة على حب من أحسن إليها.
وهناك مقاصد أخرى ضربنا عن ذكرها صفحًا؛ إذ ما تقدم فيه الكفاية، وبه يقع التدليل على أهم المقاصد الاجتماعية، خصوصًا وقد أسلفنا إلى أن محاربة الفقر هو أهم ما تقصد إليه الزكاة، فإذا تحقق هذا المقصد الأصلي، تحققت المقاصد التبعية ولا شك.