المعرفة والأخلاق.. أيّ علاقة؟

نظام التربية والتعليم في أمة من الأمم، هو بمثابة النظام الذي يحمل أسرارها وخصائصها. وبدراستنا لهذا النظام وتحليل لمكوناته، يتبين لنا مدى قوة هذا المجتمع وإمكانية استمراره وبقائه أمام التحديات. ومن أبرز مؤشرات النظام التعليمي التربوي، أصوله العقدية التي تترجم لنا الهوية الحضارية للأمة، ذلك أن هذه الهوية لم تتخلق إلا في رحم قيم العقيدة الإسلامية المنبثقة من المنهج القرآني، ويتعلق الأمر بغرس القيم في ظل منظومة تربوية ما -كيفما كانت هذه المنظومة وفي أي الأحوال- وتوجيه الشحنات المعرفية والقيمية الكافية لتأهيل المعلم أو الأستاذ لأداء رسالته على الوجه المطلوب ونقل القيم إلى الأجيال.

علاقة العقيدة بالتربية والتعليم

التعليم عملية متكاملة تترابط وتتداخل مع كثير من الأمور المعرفية، وهذا التداخل المعرفي يكون في كثير من الأحيان جسرًا يوصل المربِّين إلى تحقيق غاياتهم، ويؤسس في الوقت نفسه مسارات معرفية بين المعلم والتلميذ، ويفتح الباب واسعًا لتقبل المعلومات وتنميتها وتطويرها. ومن الأسس الهامة التي تبنى عليها التربية والتعليم، ترسيخ العقيدة الصحيحة، إذ هي التي تعطي تصورًا شاملاً عن الكون والإنسان والحياة، وأن الوجود كله خاضع لسنن الله تعالى ليقوم الإنسان بوظيفته دون خلل أو اضطراب، والإيمان بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا ورسولاً. والحياة الدنيا مرحلة إنتاج وعمل يستثمر فيها المسلم طاقاته عن إيمان وهدى للحياة الأبدية الخالدة في الدار الآخرة، فاليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل.

غرس العقيدة في النفوس، هو أمثل طريقة لإيجاد عناصر صالحة تستطيع أن تقوم بدورها كاملاً في الحياة، فهذا اللون من التربية والتعليم، يضفي على الحياة ثوب الجمال والكمال، ويظللها بظلال المحبة والسلام.

وغرس العقيدة في النفوس، هو أمثل طريقة لإيجاد عناصر صالحة تستطيع أن تقوم بدورها كاملاً في الحياة، فهذا اللون من التربية والتعليم، يضفي على الحياة ثوب الجمال والكمال، ويظللها بظلال المحبة والسلام.

لقد كان الفيلسوف والمهندس مالك بن نبي، رائعًا في استفادته من المؤرخ ابن خلدون الذي أبرز دور النبوة في صناعة الإنسان المؤمن الإيجابي. فلا حضارة بدون عقيدة وبدون إنسان فطري بسيط كعمر بن الخطاب رضي الله عنه، ذلك المؤمن الحق الذي كان ينام تحت شجرة في الطريق وهو أمير المؤمنين(1).

واقع المنظومة التربوية في عالمنا

المناهج التربوية الحديثة، هي نتاج عقل الإنسان الذي حاول أن يضع منهاجًا لنفسه يسير على خطاه، وقد نجح في بعض الجوانب إلى حد ما، ولكنه فشل فشلاً ذريعًا في كثير من الجوانب النفسية والروحية والوجدانية وحتى العقلية، ذلك لأنه غفل عن المنهج الرباني الذي جاء به الرسل والأنبياء لهداية الإنسان إلى المنهج الصحيح. فأغلب المناهج التربوية السائدة اليوم في العالم، تكرس للفكر المادي على حساب الجانب الروحي في الإنسان، فهي لم تستطع ضبط تصرفات الأطفال والتحكم فيهم تربويًّا، وأمسى الطفل متحررًا من كل شيء، وخصوصًا في عصر التكنولوجيا والثورة العلمية الحديثة ووسائلها اللامحدودة والتي جعلت السيطرة عليه شبه مستحيلة. وقد أبعدت المنظومة التربوية اليوم كل السلطات، بما فيها سلطة المعلم والأستاذ والأسرة وغيرهم؛ فالمنظومة التربوية السائدة اليوم في العالم العربي والإسلامي، مكنت المتعلم -سواء في الابتدائية أو الثانوية أو الجامعة- من التحرر والتخلص من الرقابة الذاتية، مما جعله عرضة لنموذج فكري ثقافي أحادي، أفرزته العولمة التي لم نحسن التكيف معها وفق مقاصدنا وأهدافنا، وهكذا انصهر المجتمع في ثقافة الآخر نتيجة فشل المنظومة التربوية التي فتحت باب الغزو الثقافي على مصراعيه، مما سبب في ظهور مشاكل اجتماعية كظاهرة العنف والعدوان في المدارس، ذلك لأن تلك المناهج التربوية همشت القيم الروحية والوجدانية ودور التربية الإسلامية.

المنهج التربوي في القرآن يقوم على تربية الإنسان الكامل، بمعنى أن القرآن يخاطب عقله ونفسه ووجدانه وروحه، فيربيه تربية ذاتية، أي يجعله أمام نفسه مبينًا ما فيها من دوافع الخير التي تحفز على الطاعة والعمل الصالح.

فمن أكبر أخطاء دعاة التنوير والغزو الثقافي، والمنبهرين بالمدنية الغربية ومناهجها المادية، ظنهم أن الإصلاح في المناهج التربوية والتعليمية في مدارسنا ومعاهدنا وجامعاتنا هو أن نستمد من الغرب، وأن المسلمين والعرب يجب أن يتخلوا عن كثير من مفاهيمهم في سبيل امتلاك التكنولوجيا، ولكن التجارب المتوالية التي ضاع فيها المال والجهد والوقت، برهنت عكس ذلك.

إن المواد والمناهج التي تدرس في البلاد الإسلامية حاليًّا، إنما هي نسخ مما عند الغربيين، وهي تفتقر إلى الرؤية التي تمدها بالحياة في بيئتها الأصلية، وهي بهذه الصورة تصبح من عوامل الضعف، هذه المواد والمناهج التي لا روح فيها تظل بشكل لا شعوري تؤثر في الطالب تأثيرًا سيئًا؛ من حيث إنها تقف كبدائل للمواد والمناهج الإسلامية وكعوامل للتقدم والتحديث. إنها تجعل من الخريج في جامعات العالم الإسلامي نموذجًا للشباب المغرور الذي يظن في نفسه العلم مع أنه في الحقيقة لا يعرف إلا قليلاً(2).

الرؤية المنهجية للقرآن الكريم

عند النظر في القرآن نجده يركز على أربع قيم أساسية تتكرر في آياته، وهي العلم، والإيمان، والعمل، والتقوى؛ فالعلم يستمد أصوله من الله تعالى، فهو العالم بحقيقة الوجود قال تعالى: (وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(البقرة:282)؛ فتحقيق التقوى، سبب للحصول على العلم النافع. قال القرطبي في تفسير هذه الآية: “وعد من الله تعالى بأن من اتقاه علمه، أي يجعل في قلبه نورًا يفهم به ما يُلقى إليه، وقد يجعل في قلبه ابتداءً فرقانًا، أي فيصلاً يفصل به بين الحق والباطل، ومنه قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)(الأنفال:29).

التعليم عملية متكاملة تترابط وتتداخل مع كثير من الأمور المعرفية، وهذا التداخل المعرفي يكون في كثير من الأحيان جسرًا يوصل المربِّين إلى تحقيق غاياتهم، ويؤسس في الوقت نفسه مسارات معرفية بين المعلم والتلميذ.

فالمنهج التربوي في القرآن يقوم على تربية الإنسان الكامل، بمعنى أن القرآن يخاطب عقله ونفسه ووجدانه وروحه، فيربيه تربية ذاتية، أي يجعله أمام نفسه مبينًا ما فيها من دوافع الخير التي تحفز على الطاعة والعمل الصالح، خصوصًا وأن الإنسان يملك الحرية والإرادة والعقل الذي يحميه من الوقوع في المعاصي. فالأسلوب القرآني في التربية يعتمد على النظرة التكاملية التي تحقق النتائج النافعة والسريعة والهادفة والمحققة لكثير من النتائج، فمثلاً حينما نأتي لهذه الآية الكريمة في قوله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)(الروم:21).

فلما نتأمل هذه الآية، نجد أنها تتحدث في البداية عن وحدة الخلق، وتلفت انتباه النفس إلى أصالة النشأة حتى تحس بالاطمئنان من تلقي الدرس الذي يشتمل على الدعائم التي يقام عليها صرح الأسرة، وبعد التهيئة تخلص الآية إلى السكن الذي يصدر عنه الحنان والعطف، ثم المحبة والرحمة اللتان تتوافق بهما النفس مع الروح ويتم التآلف والانسجام، وفي الأخير ينبه الإنسان إلى أهمية العقل بالدعوة إلى استخدام الفكر، فيما اشتملت عليه الآية من دلالات وحكم في الدرس القرآني التربوي التكاملي الذي يخاطب الإنسان بكامله؛ النفس، الوجدان، الروح، العقل، والقلب، فتنسجم هذه الجوانب كلها، وينتج عنها شخصية متكاملة قادرة على الإبداع من أجل خدمة الأسرة والمجتمع والأمة كلها. وإذا احتاج العقل إلى مطلبه حثه على العلم والمعرفة والنظر والتأمل والتفكير، وهذه نسميها التربية العقلية، قال تعالى: (وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)(العنكبوت:35).

المنظومة التربوية القرآنية تعتمد على معيارين أساسيين، هما العلم والإيمان، وهما معًا يشكلان وحدة مترابطة متفاعلة متكاملة في المنظومة التربوية القرآنية.

وحين نتكلم عن التربية والتعليم، نتكلم عن العلم والعمل معًا بمفهومهما الإسلامي، وليس عن التربية والتعليم بمفهومهما الغربي. فالإسلام لا يعرف هذه القسمة المأخوذة عن الغرب، لأنه لا يوجد فصل في الإسلام بين المعرفة والأخلاق، والعلم والعمل كما في الفلسفة الغربية. فالإسلام يهدف إلى تربية العقل والإرادة لأنهما معًا أداتا التكليف، وهما محل التكريم من الله تعالى للإنسان، فالله تعالى جعل لعقل الإنسان وإرادته مكانًا لا نظير لهما في أي مذهب من المذاهب التي تنتصر للعقل أو للإرادة في التاريخ كله، فأفعال الإنسان محكومة بالمشيئة ومسبوقة بالمقادير، ومشيئة الإنسان مخلوقة له وممنوحة من الله تعالى، ولذلك فإن الإنسان مسؤول مسؤولية كاملة عن أفعاله، لذلك فالتفرقة بين التعليم والتربية، أو بين العلم والعمل، تعد تفرقة فاسدة وضارة، وأول من قال بها “سقراط”، لأنه أول من جعل المعرفة فضيلة، حيث قال: “الفضيلة علم والرذيلة جهل”، لكن الإسلام لم يفصل بين العلم والعمل، وجعل العلم من أجل العمل، ولذلك قرن الله تعالى الإيمان بالعمل الصالح، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً)(الكهف:107).

فالمنظومة التربوية القرآنية تعتمد على معيارين أساسيين، هما العلم والإيمان، وهما معًا يشكلان وحدة مترابطة متفاعلة متكاملة في المنظومة التربوية القرآنية؛ فالإيمان أساس التربية والأخلاق وهما أساس العلم، والعلم أساس العمل، وبهذا ينتهي بنا المنهج القرآني في التربية، إلى هذا البناء القيمي التربوي التعليمي الإسلامي، ذلك لأن قيمة العمل هي الغاية القصوى التي بها يستطيع الإنسان أن يحقق مراد الله تعالى في الأرض، وهو عبادة الله وعمران الأرض، فلا قيمة للعبادة دون العمل ولا وجود لعمران وحضارة بدون عمل.

عند النظر في القرآن نجده يركز على أربع قيم أساسية تتكرر في آياته، وهي العلم، والإيمان، والعمل، والتقوى

فالقرآن جاء بالفرائض الخمسة التي نعبر عنها بالسلوك العملي من أجل تغذية الإنسان روحيًّا باستمرار، ويركز القرآن على التقوى التي هي الرقابة الذاتية التي تمنع من الانزلاق والخروج عن الهدف المسطر، وهذه القيمة هي التي نحتاجها في المنظومة التربوية اليوم من أجل تحصين المسلم من الغزو الثقافي الجارف والذوبان في ثقافة الآخر وعاداته وتقاليده. فالتقوى هي الوعي بالذات واستحضار رقابة الخالق عز وجل وأنه لا يفارقه في أي وقت.

مما يحتم على الخبراء في التربية والتعليم، إعادة النظر في دراساتهم وأبحاثهم فيما يتعلق بالمناهج التعليمية التي يجب أن تراعى فيها خصائص المجتمع والتطورات الحاصلة في العالم، لأن عالم القرن الحادي والعشرين سيكون عالمـًا تهيمن عليه قيم وأنماط ثقافية وحضارية، ويتميز بالنمو الهائل والسريع للمعرفة في كل الميادين، ويصبح التعليم متاحًا أمام الطلاب في مختلف أنحاء العالم، ويجب التكيف معه بالاستعانة بالمنهج القرآني التربوي الذي يحصن المجتمع من التفكك والانحراف.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) باحث في الدراسات الإسلامية والإعجاز / الجزائر.

الهوامش

(1) الروح وميلاد الحضارة، لعبد الحليم عويس، مجلة حراء، عدد: 14 (مارس – أبريل) 2009، ص:61.

(2) أسلمة المعرفة، لإسماعيل الفاروقي، دار البحوث العلمية، الكويت 1984، ط:1، ص:33.