القصيدة الحُجْرِية: أشواق عشقية في حضرة سيّد الإنسانية

السـلطان عبـد الحميد الأول هـو السـلطان السابع والعشرون بين السلاطين العثمانيين. ولـد في 20 آذار / مارس 1725، وهو نجل السلطان أحمد الثالث، أما والدته فهي السلطانة شرمي خانم. تتلمذ على أفضل علماء عصره ونهل منهم العلوم الشرعية والأدبية والإنسانية منذ الطفولة، وقد كان غاية في الذكاء والفطنة.
جلس على كرسي الخلافة بعد وفاة شقيقه السلطان مصطفى الثالث في 21 كانون الثاني / يناير 1774، وكان عمره آنذاك تسعا وأربعين سنة. اهتم أثناء حكمه بإصلاح الشأن الداخلي للدولة، كما وقف في وجه هجمات جحافل الروس القادمة من شمال البلاد. فعندما تولى إدارة البلاد كانت الدولة في أزمة اقتصادية شديدة بسبب الحرب الضروس ضد روسيا. وتوالت الغارات الروسية وظلّتْ جيوشها تتقدم حتى استولت على قلعة «أُوزِي» الواقعة في الأراضي البولندية اليوم، وقلعة «هوتين» الواقعة ضمن الأراضي الروسية اليوم، وكانتا قاعدتَين إستراتيجيتين في هذه الحرب، حتى وصلت إلى شواطئ الضفة العليا من البحر الأسود، فارتكبت مجازر دامية ضد أهالي «قِِيرم» المسلمين دون التمييز بين مدنيين أو محاربين. ولما بلغت الأنباء المؤلمة السلطان عبد الحميد حزن حزنا شديدا وتأثر تأثرا بالغا أدَّى إلى إصابته بشلل في بدَنه، ومن ثم إلى وفاته في 7 نيسان / أبريل من عام 1789. ودفن جثمانه في مقبرة «باغجه قابي» بمنطقة «أمين أونو» من إسطنبول. وكان رحمه الله تقيا ورعا رؤوفا برعيته.
وقد أعرب السلطان عبد الحميد الأول في يومياته عن مَرارة الألم الذي شعر به عقب سقوط قلعتي «هوتين» و«أوزي» بيد الروس والمجازر التي ارتكبوها ضد المدنيين الأبرياء في «قيرم» قائلا: «أحسست بغُصّة مريرة وحزن شديد عندما علمت بسقوط قلعة «أوزي». وما من ألم أشد وطأة على قلبي من تصوري للمسلمين رجالا ونساء، صغارا وكبارا وهم أسرى بيد هؤلاء الظلمة. يا رب! يا من يجيب المضطر إذا ظُلم، يا كاشف الضر والبلوى، إني أرفع أكفّ الضراعة إليك لكي تردّ قلعة «أوزي» إلى أصحابها المسلمين».
كان السلطان عبد الحميد الأول معروفا بحبه الشديد لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأهل بيته الأطهار، ومن ثم لم يأْلُ جهدا في تقديم كافة الخدمات اللازمة للحرمين الشريفين؛ وهو الأمر الذي دأَب عليه السلاطين العثمانيون منذ القدم؛ حيث أرسلوا الهدايا الثمينة إلى أهالي الديار المباركة، وخصصوا لها الأوقاف، وعملوا على إصلاح طرقها ومرافقها، وجهّزوا المحامل الشريفة محملة بأغلى التّحَف وأجمل الهدايا.
ومن المعروف عنهم أيضا أنهم نظموا قصائد وأشعارا عبّروا فيها عن حبهم للرسول صلى الله عليه وسلم وأشواقهم إلى الأراضي المقدسة. وقد كان السلطان عبد الحميد الأول أحد السلاطين الذين يُجيدون قول الشعر باللغة العربية، حيث كان بارعا في اللغة العربية ضليعا في آدابها؛ وآية ذلك قصيدته التي اشتهرت بـ«القصيدة الحجرية»، والتي نظمها على وزن البحر البسيط وأهداها إلى صاحب «الروضة المطهَّرة» عليه وعلى آله أفضل الصلوات والتسليم. وقد سميت بـ«القصيدة الحُجْرية» لأنها كُتبت على الجدار القِبلي من حجرة الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام. وقد لقيت القصيدة قبولا واسعا لدى العاشقين فأدرجوها في كتب أورادهم وأذكارهم مثل كتاب «مجموعة الأحزاب» للشيخ ضياء الدين الكموشخانوي. يبدأ السلطان المتيَّم قصيدته بعبارة شجية تعبر عن لهيب الحب المتأجج في أعماقه حيث يقول: «يا سيدي يا رسول الله خذ بيدي/مالي سواك ولا ألوي إلى أحد».
وفيما يلي النص الكامل للقصيدة الحُجْرية التي علِمنا أنها لا تزال على جدران الروضة النبوية حتى اليوم:
____________
الترجمة عن التركية: نور الدين صواش.

                                            القصيدة الحُجْرِية

يَا سَـيِّدِي يَا رَسُـولَ اللهِ خُذْ بِيَدِي                             مَا لِي سِـوَاكَ وَلاَ أَلْوِي إِلَى أَحَد
فَأَنْـتَ نُـورُ الْهُدَى فِي كُلِّ كَائِنَةٍ                                وَأَنْتَ سِـرُّ النَّدَى يَا خَيْرَ مُعْتَمَدِي
وَأَنْتَ حَقّاً غِيَـاثُ الْخَلْقِ أَجْمَعِهِمْ                              وَأَنْتَ هَادِي الْوَرَى ِللهِ ذِي السَّدَدِ
يَـا مَـنْ يَقُومُ مَقَامَ الْحَمْدِ مُنْفَرِداً                              لِلْوَاحِـدِ الْفَرْدِ لَـمْ يُولَدْ وَلَمْ يَلِدِ
يَـا مَـنْ تَفَجَّرَتِ اْلأَنْهَـارُ نَـابِعَةً                                  مِنْ إِصْبَعَيْهِ فَأَرْوَى الْجَيْشَ بِالْمَدَدِ
إِنِّي إِذَا مَسَّـنِي ضَيْمٌ يُـرَوِّعُـنِـي                              أَقُولُ: يَـا سَيِّدَ السَّادَاتِ يَا سَنَدِي
كُنْ لِي شَفِيعاً إِلَى الرَّحْمَنِ مِنْ زَلَلِي                      وَامْنُنْ عَلَيَّ بِمَا لاَ كَانَ فِي خَلَدِي
وَانْظُرْ بِعَيْنِ الرِّضَـا لِي دَائِماً أَبَـداً                             وَاسْتُرْ بِطَوْلِكَ تَقْصِيرِي مَدَى اْلأَبَدِ
وَاعْطِفْ عَلَيَّ بِعَفْوٍ مِنْكَ يَشْـمَلُنِي                          فَإِنَّنِي عَنْكَ يَـا مَوْلاَيَ لَمْ أَحِـدِ
إِنِّي تَوَسَّلْتُ بِالْمُخْتَارِ أَشْـرَفِ مَنْ                           رَقَى السَّمَاوَاتِ سِرِّ الْوَاحِدِ اْلأَحَد
رَبُّ الْجَـمَـالِ تَعَالَى اللهُ خَـالِقُهُ                              فَمِثْلَهُ فِي جَمِيعِ الْخَلْقِ لَـمْ أَجِدِ
خَيْرُ الْخَلاَئِقِ أَعْلَى الْمُرْسَـلِينَ                             ذُرًى ذُخْرُ اْلأَنَامِ وَهَادِيهِمْ إِلَى الرَّشَـدِ
بِـهِ الْتَـجَـأْتُ لَعَلَّ اللهَ يَغْفِرُ لِـي                             هَـذَا الَّذِي هُوَ فِي ظَنِّي وَمُعْتَقَدِي
فَمَدْحُهُ لَـمْ يَزَلْ دَأْبِي مَدَى عُمُرِي                       وَحُبُّهُ عِنْـدَ رَبِّ الْعَرْشِ مُسْتَنَدِي
عَلَيْهِ أَزْكَى صَـلاَةٍ لَمْ تَـزَلْ أَبَـداً                            مَـعَ السَّلاَمِ بِلاَ حَصْرٍ وَلاَ عَـدَدِ
وَاْلآلِ وَالصَّحْبِ أَهْلِ الْمَجْدِ قَاطِبَةً                        بَحْرِ السِّمَاحِ وَأَهْلِ الْجُودِ وَالْمَدَدِ