إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضًا، فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا ورعوا، وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه الله بما بعثني الله به فعلِم وعلّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلتُ به” (رواه مسلم). انطلاقًا من هذا الحديث النبوي الشريف فهناك علاقة وثيقة بين القرآن والإنسان. إذن ما هو الإنسان؟ وما هو القرآن؟

طبيعة الإنسان ووظيفته

طبيعة الإنسان أنه مخلوق من طين وروح، ﴿إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾(ص:71-72). فأصل كل البشر من الطين، إلا أن الله تعالى نفخ فيه من روحه فتكوّن سيدنا آدم عليه السلام ثم تكوّن من سلالته هذا الإنسان الذي صار بتلك النفخة خلقًا آخر كما أشارت الآية: ﴿ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَر﴾(المؤمنون:14)، وذلك بعد مرحلة النطفة والعلقة والمضغة المخلقة وغير المخلقة، وبعد أن أُرسل إليه الملك فنفخ فيه الروح فصار خلقًا آخر مغايرًا لما كان عليه الحال قبل، مخالفًا كل المخالفة للأصل الطيني.
الإنسان إذن، ليس من طين فقط وليس من روح فقط، إنما طبيعته مزدوجة، تخلقت من انسجام هذين العنصرين وأعطت هذا الإنسان كل الخصائص التي له، وبهذه الطبيعة المزدوجة استخلفه الله في الأرض فقال جل من قائل: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾(البقرة:30). فقبل أن يخلق آدم عليه السلام حددت الوظيفة التي له في الأرض (خليفة)، وحدد المكان الذي سيمارس فيه هذه الوظيفة (الأرض)، وكل ذلك جعلٌ من الله تعالى. ومادة “الجعل” عمومًا في القرآن الكريم تتجه إلى تنظيم الشأن العام الكوني، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً﴾(البقرة:21-22). هو الذي جعل إبراهيم عليه السلام إمامًا للناس، وهو الذي جعل البيت مثابة للناس، وهو الذي جعل وجعل سبحانه… ومن ذلك جعل آدم عليه السلام خليفة، وجعل ذريته من بعده تتوارث هذه الوظيفة يخلف بعضها بعضًا: ﴿وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ﴾(الأنعام:133).
فالإنسان مستخلف في الأرض، وطبيعة الخلافة تقتضي أن هناك مستخلِفًا له، وأن هناك عهدًا وميثاقًا لهذه الخلافة، وأن هناك ما تتجلى فيه هذه الخلافة، وذلك هو الشطر الثاني المحدد لطبيعة المهمة في هذه الخلافة وهي “العبادة”: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾(الذاريات:56).
كل الكائنات خُلقت لغيرها، وكلها خُلقت لهذا الإنسان؛ كثير من الأشياء خُلقت للنبات، والنبات خُلق للحيوان، والحيوان والنبات والجماد وكل ما في هذا الكون سُخر للإنسان، وهذا الإنسان إنما خُلق لله ولعبادة الله سبحانه وتعالى: ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ﴾(لقمان:20)، ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ﴾(الجاثية:12)، ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا﴾(البقرة:29). الكل في هذا الكون أُعدّ للإنسان، حتى الشمس والقمر: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾(إبراهيم:33-34).
هذا يدل على أن موقع هذا الإنسان عند الله سبحانه وتعالى عظيم جدًّا في هذا الكون، وحسبنا أنه خليفة وأن وظيفته في هذه الخلافة أن يعبد الله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ﴾(الذاريات:56-57)؛ خلافًا لما يشتغل به بنو آدم ويهتمون، إني أريدهم لي لا لغيري، وطلبت منهم أن يعبدوني لا أن يعبدوا غيري، وسخرت لهم -تيسيرًا لذلك- غيري، وذلك الكون إنما أعدّ ليخدم هذه الأرض التي أعّدت هي نفسها لتستقبل الإنسان.
فالمركزية في هذا الكون المنظور حتى الساعة هي لـ”الأرض”، والمركزية في هذه الأرض هي لـ”الإنسان”، وهذا الإنسان ذو طبيعة خاصة وذو رسالة خاصة.

طبيعة القرآن ووظيفته

يقول الله جل وعلا: ﴿مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا﴾(الشورى:52)، ويقول جل من قائل: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾(المائدة:15-16).
الطبيعة الأولى للقرآن: إنه روح من أمر الله وهو نفس التعبير الذي عبر به القرآن عن الروح التي نعرفها: ﴿وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً﴾(الإسراء:85). وخاصية الروح أنها تمنح كل خصائص الحياة للكيان. فهو روح حين تحل في الإنسان الفرد تمنحه الحياة بعد الموت فيصير بها خلقًا آخر، وهو روح حين تحل في جمع من الناس يصيرون جسدًا واحدًا وأمة واحدة. وما صارت هذه الأمة ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾(آل عمران:115) إلا بحلول روح القرآن في أفرادها جميعًا وفي كيانها العام جميعًا؛ “مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم مثل الجسد إذا اشتكى منه شيء تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى” (رواه البخاري). وما صنعت هذه الأمة ما صنعته في التاريخ إلا حين حلّت في أفرادها ومجموعها روح القرآن.
الطبيعة الثانية للقرآن: إنه نور ﴿جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا﴾(الشورى:52). إنه نور من نور الله و﴿اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾(النور:35)، ولا نور لأحد إلا من نوره، وشأن النور أن يعطي الأمان وأن يوضح الرؤية وأن يبرز الأشياء على حقيقتها.
إن هذا القرآن نور للقلوب وللعيون وللألسنة وللجوارح، ونور للفرد وللأسرة وللأمة وللبشرية… حين يحضر تحضر كل خصائص النور ومزاياه، وحين يغيب تحضر كل مصائب الظلام وأخطاره. ولا سبيل إلى حضوره والانتفاع به إلا باتباع رضوانه: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾(المائدة:15-16).
وإن وظيفة هذا القرآن -بناء على تلك الطبيعة- هي “الهداية”، قال تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾(الإسراء:9)، ولذلك كان هذا الدعاء الوحيد الفريد الذي ندعو به الله جل وعلا في سورة الفاتحة كل يوم سبع عشرة مرة إجباريًّا، وإلا لا تصح صلاتنا: ﴿اِهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾(الفاتحة:6)، وهل نطلب من الله تعالى في هذا الدعاء الوحيد الفريد إلا “الهداية”؟ كل ما قبلها في الفاتحة مقدمة لها، وكل ما بعدها تفصيل لها. فأين الجواب عن هذا الطلب؟ ذلك ما نجده أول ما ندخل إلى سورة البقرة أولِ سورةٍ بعد الفاتحة التي هي بمثابة المقدمة لهذا الكتاب العظيم: ﴿ألم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ﴾(البقرة:1-2)، كأن الله تعالى يقول لنا: أنتم تطلبون الهداية؟ فها هو الكتاب أمامكم فيه ما تريدون، هو محض هدى على الوقف على ﴿لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾، وهو يتضمن الهدى على الوقف على ﴿لاَ رَيْبَ﴾، هو هداية لمن اتقى (أي للمتقين) ولمن اتبع رضوانه: ﴿يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رضوانه﴾(المائدة:16)، أما الذي لم يتبع رضوانه فلن يهتدي: ﴿جَزَاءً وِفَاقًا﴾(النبأ:26).
فالقرآن من حيث هو دلالة وإرشاد، هو هدى للناس جميعًا، ولكن لا يهتدي وينتفع به إلا المتبعون المتقون، وما من خير إلا ودلّنا عليه القرآن، وما من شر إلا ونهانا عنه. إنه محض هدى، فهل يطلب الهدى في غيره؟ كلا: ﴿قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى﴾(البقرة:120) بالحصر.
والحقيقة الواضحة الصريحة هي أن هذا القرآن هو الهدى وهو الميزان لكل هدى، حتى هدى العقل الذي أودعه الله سبحانه وتعالى في بني آدم حين ﴿أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾(طه:50)، إذ لا يمكن الاستفادة من ذلك إلا إذا وزن بميزان القرآن الذي هو الهدى: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾(الكهف:103-104).

علاقة القرآن بالإنسان

أ- علاقة الروح بالجسد (الحياة والموت): ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾(الأنعام:122)؛ الإنسان بدون قرآن ميت حتى تحل فيه روح القرآن وبالقرآن يتم إحياء الإنسان. فأول علاقة بين القرآن والإنسان هي علاقة الروح بالجسد، ذلك بأن الإنسان -كما تقدم- مكون من عنصرين “طين” و”روح”، وأما العنصر الطيني مسيَّر من قبل العنصر الروحي، فهو الذي يقود الإنسان إلى الخير أو يقوده إلى الشر: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾(الشمس:7-10).
هذه الروح هي التي تقود الإنسان إلى المسجد أو تقوده إلى الحانة، وهذه الروح هي التي تزين له الخير أو تزين له الشر، ولكن بم تتغذى هذه الروح؟ نحن نغذي أجسامنا عادة كل يوم ثلاث مرات، ولكن نغذي العنصر الطيني فقط، أما العنصر الروحي فإنما يُغذى بغذاء من جنسه هو “الوحي”، والوحي فقط هو الذي يغذي الأرواح، وإنما يكون في الكلام ضرب من غذاء الأرواح على قدر ما فيه من روح القرآن وهدى القرآن.
ولمعرفة خطورة غيبة هذا الغذاء الروحي، يكفي أن ننظر في تشريع الصلاة حيث أوجبها الله تعالى في اليوم خمس مرات وفي أوقات معينة: ﴿إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً﴾(النساء:103). فالعنصر الروحي في الإنسان يحتاج إلى التزود بالطاقة خمس مرات في اليوم وبذلك الترتيب، وإلا صار مهددًا بالانطفاء والموت.
الجوع الديني في الإنسان أكبر من الجوع الطيني بدليل هذا التشريع، وعبر الصلاة يتم التزود. فنحن نقف بين يدي المولى عز وجل لنتزود ونستمد من أسمائه الحسنى المعاني الحسنى، وإذا لم يقع اتصال لا يقع استمداد ولا إمداد.
وعليه، فالضرر يلحق بالفرد حين لا يصلي الصلاة التي أمر بها الله بشروطها وحقوقها وعلى رأسها الذكر: ﴿وَأَقِمِ الْصَّلاةَ لِذِكْرِي﴾(طه:14)، ذلكم الذكر هو الذي به يحدث الاتصال، فإذا كان هناك سهو: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ﴾(الماعون:4-5)، سواء كان هذا السهو عنها جملة أو عن بعضها فيها؛ إذ يوجد الشبح ولا توجد الروح، وإنما روح الصلاة الذكر، فبذلك الذكر فقط يحدث الاتصال، وبالاتصال يحدث التزود بالطاقة الروحية حقًّا.
بـ- علاقة النور بالإبصار: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾(المائدة:15-16)؛ القرآن نور وبالنور نبصر، ولو تصورنا أنه لم يبق نور، ليس فقط نور الكهرباء، بل لم يبق نجوم ولا قمر… ما الذي يحدث نتيجة ذلك؟ يحدث التخبط التام والهلع ويصطدم هذا بهذا ويدفع هذا ذاك ولن يهتدي الناس إلى سبيل.
فبالنور إذن تتم الرؤية الواضحة، وحاجة الإنسان إلى هذه الرؤية كحاجته إلى الهواء والماء، لأنه جاء من غيب ويتجه إلى غيب ولا يدري الآن شيئًا من الغيب: ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ﴾(لقمان:34).علاقتنا بالدقائق القادمة لا نعرف عنها شيئًا، نتواجه في كل لحظة مع الغيب… فكيف إذن نتصرف في هذا الواقع بأمان؟ الله عز وجل أرشدنا بهذا النور إلى تصرف يكفل لنا أن نُحفَظ ونحن نخترق الغيب: “احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك” (رواه الترمذي)، ذلك بأن الغيب -وإن كان مستورًا عنا- هو معلوم لله جل جلاله، فإذا تصرفنا كما أمر الله تعالى في كتابه وسنة رسوله، حُفظنا بأمر الله من أمر الله.
أجل، إنه النور الربّاني، إذا صرنا نحن بني البشر وفق هداه ربحنا دنيانا وأخرانا وإلا خسرناهما معًا: ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾(العصر:1-3).
جـ- علاقة الماء بالأرض (الخصوبة والجدب): وأحسن بيان لهذه العلاقة، بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الهدى المشهور: “إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضًا، فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا ورعوا، وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه الله بما بعثني الله به فعلِم وعلّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلتُ به” (رواه مسلم)، هذا الحديث يوضح بجلاء وجهًا من وجوه العلاقة بين القرآن والإنسان. إذا كانت العلاقة الأولى تقوم بوظيفة الإحياء، والعلاقة الثانية تقوم بوظيفة الإبصار، فإن هذه العلاقة تقوم بوظيفة التخصيب إذ بها يُحدِث الإنسان فعله الحضاري النافع.
ذلك بأن الوحي (الهدى والعلم) الذي أوتيه محمد صلى الله عليه وسلم إسعادًا للناس ورحمة للعالمين، مثَله كمثَل الماء النازل من السماء إغاثة للناس ونشرًا للرحمة في الأرض.
فكما أنه لا خصوبة في أي أرض بغير ماء، بل لا حياة: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾(الأنبياء:30)، فكذلك لا هداية في أي قلب، بل لا حياة بغير قرآن: ﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ﴾(فصلت:44).

القرآن غيث ورحمة

والناس في استقبال هذه الرحمة وهذا الغيث طوائف ثلاثة:
• طائفة طيبة قبلت الماء، أي سمحت له بأن ينفذ إلى أعماقها ليحدث الأثر المطلوب كما قال تعالى: ﴿وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾(الحج:5). هي طائفة استقبلت هدى الله ووعته وعملت به، ثم أرسلته وبلغته وعلَّمته فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها خير كثير للبلاد والعباد، فهي أفضل الطوائف.
• طائفة أجادب صُلبة لا ينفذ إلى باطنها الماء، فما قبلت الماء لكن أمسكته، فاستفاد الناس من مائها وإن لم تستفد هي منه، فشربوا منها وسقوا وزرعوا، وهذا النوع من الحاملين للعلم وإن كان غير منتفع فهو نافع.
• طائفة قيعان سَبخة ملساء لا يستقر فيها الماء، إذا نزل عليها الماء لا تمسكه كالطائفة الثانية، بَلهَ أن تنبت كالطائفة الأولى، فهي لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، وهذه لا تنفع ولا تنتفع، فهي أسوأ الطوائف.
ما السر في أحوال هذه الأنواع الثلاثة الصالحة والطالحة؟ إنه الفقه في دين الله تعالى أو عدمه. قال صلى الله عليه وسلم : “من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين” (متفق عليه)، وقال أيضًا: “الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا” (رواه البخاري). الفقيه في الدين منتفع نافع، والفقيه في الدين عالم عامل معلّم للناس الخير، إذ الرسالة مستمرة والأمة شاهدة على الناس. ولابد لمن تعلّم أن يعلّم لتتواصل الأمانة وتتواصل الشهادة حتى قيام الساعة، فذلك مثل من فقه في دين الله فعلم وعلّم، أما من لم يقبل هدى الله، فمن أين له فقه الدين حتى ينتظر منه الخير الكثير أو القليل؟!
وعليه، فإن المخصِّب لهذا المعدن البشري ولهذا الصلصال، إنما هو هذا القرآن، هو الذي يخصّبه فيحدث الفعل الحضاري الصالح من جنس ما أحدثه الرسول والصحابة من بعده، وأحدثه الجيل الراشد الذي حمل النور في الكرة الأرضية شرقًا وغربًا شمالاً وجنوبًا في ظرف قياسي لم تعرفه أمة من الأمم قط.

مؤسسات التعليم الثلاث

وأخيرًا ما الذي يجب على هذه الأمة الآن لكي تتوب من هجر القرآن؟ إنها تحتاج إلى توبة نصوح ولا سيما في حقل التعليم، ذلك بأن التعليم هو الذي يُنـزل الغيث أو يُنـزل القحط
ويسجله في قلوب الأطفال وقلوب الشباب. وقبل التعليم توجد الأسرة، ومع التعليم يوجد الإعلام. فالمعلمون الكبار للخير أو للشر مؤسسات ثلاث:
1- مؤسسة الأسرة: لقول الرسول صلى الله عليه وسلم : “كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه” (رواه البخاري)، والفطرة هي “الإسلام” لقول الله تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾(الروم:30).
لماذا الأبوان؟ لأن الاحتكاك الأول يكون بهما، فإذا قام الأبوان بوظيفتهما في غرس روح ونور القرآن، فإن شوطًا كبيرًا سيقطع في اتجاه إعادة الأمة إلى الرشد والعطاء الحضاري.
2- مؤسسة التعليم: لأن التعليم يتلقى الطفل في سن مبكرة، ويحدث التأثير فيه بطرق متعددة، بطريق القدوة الذي هو الأستاذ أو الأستاذة، وبطريق الوسائل والوسائط السمعية والبصرية، وبطرائق المعلومات التي يقدمها له… كل ذلك يدفع في اتجاه واحد هو جعل هذا المتعلم قد خزن فيه وأعدّ لما ينفع الناس ويمكث في الأرض، أو خزن فيه وأعدّ لما يضر الناس ويفسد الأرض. وهذه حقيقة تثير تساؤلاً ضخمًا عن رسالة التعليم ووظيفة التعليم في الأمة اليوم. ما هي تلك الرسالة؟ ما نوعية الخريج الذي ينبغي أن يصنعه التعليم في الأمة اليوم؟ لابد أن نتساءل عن هذه النقطة وأن نتعاون على جعل التعليم مؤسسة لتربية وتكوين الخريج الذي أصله ثابت ورأسه في السماء يؤتي أكله كل حين بإذن ربه.
3- مؤسسة الإعلام: الإعلام اليوم أصبحت له وسائل لا تستأذن أحدًا ولا تقبل محاصرة أو تحديدًا، أصبحت تدخل إلى عمق البيت وتدخل إلى عمق المدرسة. ما الرسالة الحقيقية لهذا الإعلام؟ إن رسالته أن يعلّم الناس الخير، إن رسالته أن يعلّم ما ينفع الناس ويمكث في الأرض، إن رسالته التمكين لروح القرآن ونور القرآن وهدى القرآن لإنقاذ هذا الإنسان.