غريب أنت في هذه الدنيا،

فلا تضحك يا قلبُ لا تضحك، ابكِ. (يونس أمره)

الغرباء ثلة من أبطال القلوب وفدائيي المحبة، وقلة من القدسيين المجهولين. أنين متواصل هم، تأوّهات ممتدة لا تنتهي، حرقة أليمة تكوي الفؤاد كيًّا. إنهم عُشّاق حقيقة سامية وناشرو رسالة نبيلة. في سبيلها يتعرضون للأذى والضرب، ومن أجلها يُطرَدون عن الأبواب. تلفحهم عشرات المخاطر كل يوم، وتتهددهم إنذارات الموت كل لحظة، وتنهمر عليهم ألوان الإهانة والتحقير كل حين. تلك هي حياة الغرباء.

ليس الغريب من ابتعد عن وطنه وداره أو فارق أحبته وذويه، إنما الغريب من بات غير مفهوم في مجتمعه حالاً ومنهجًا وسلوكًا. فهو الحامل لأحلام سامية وغايات أخروية، وهو المضحّي بملذّاته الشخصية من أجل غيره، والمتألق بهمته العالية وعزيمته الخارقة. لذا فهو في تعارض دائم مع أبناء مجتمعه في رؤاهم وعاداتهم، يتعرض للإنكار والاستغراب والإقصاء في كل ما يبدر منه.

فالجموع التي هبّ لنجدتها تهدده حينًا وتطرده عن الأبواب، وتبطش به حينًا آخر وترمي به في السجون، أو تذيقه مرارة التشريد من منفى إلى آخر، أو تقيم له مشانق الموت هاتفة “لا ترحموه! اقتلوه!”؛ وهو صوّال جوّال في هذا الجو الكالح الذي تنذر فيه مئات من الكوارث بالويل، يواجه موتًا جديدًا هنا، ويسعى لنجدة مظلوم هناك. يقتحم لُجج المخاطر كبطل مغوار حينًا، ويتصدى لألسنة اللهب المنتشرة بطلاً من أبطال الإطفاء حينًا، ويئنّ أنين الأم الحنون رحمة وإشفاقًا أحايين أخرى. فلا يملّ أخو الجفوة من الجفاء، ولا الغريب من الوفاء.

وقد يخالط الغريبَ شعورٌ من الوحدة والغربة -فيما يبدو للناظر- حين يعجز عن الاندماج مع مجتمعه بالعمق الذي يتطلع إليه، وعن إقامة جسور متينة وحوار دائم معه؛ بيد أن تفانيه في همّ الغير الذي ملأ جوانحه، وإحساسه العميق بأنه موجود من أجل الآخرين، ينسيه غربته ووحدته. فقد يحس للحظة بوحشة يَتبعُها أنين، ولكنه في أغلب الأحيان -بفضل عوالم الأمل التي شيّدها في روحه- يَفيض بشرًا وسعادة وسرورًا.

الغرباء، كأزهار شقّت بأكمامها أديمَ الأرض مبكرة قبيل الربيع. فأزهار الفجر تلك، تواجه الثلج والجليد في كل بقعة تبرز فيها، تنتصر عليهما، ثم تخوض معركة بطولية مع العواصف والأعاصير. فما أروع أزهار الثلج التي ترسل بغمزاتها إلى الشمس، وتلوّح بمناديلها البيضاء وسط الثلوج الفضية تغنّجًا ودلالاً!.. وما أعظم قدر الغرباء في الملإ الأعلى.. أولئك الذين انطلقوا نحو النور مهللين بهتافات النصر!.. فهم يظهرون قبل أن تسقط الجمرة الأولى على الثلج، وقبل أن يذوب الجليد. يواصلون حياتهم بمشقة وعنت، يبارزون المخاطر الجسام التي تتصدى لهم، فيصابون بجراح قاتلة، وينزفون، وتَخور قواهم، وتتداعى أجسامهم. يغادورن الحياة دون أن يذوقوا منها أي لذة في معظم الأحيان، يغادرونها وقد “باتوا خرابًا وترابًا”، لكن يغادرونها مغادرة الأبطال. فعندما يؤوون إلى حضن التربة لا يتلاشون ولا يندثرون، بل يُزهِرون ورودًا، يموتون فُرادَى، وينبعثون عشرين عشرين.

ينتشر الغرباء على أبواب المجتمع كل يوم، حاملين معهم باقة من الأفكار المباركة والرؤى السامية، يَمنحون المجتمعاتِ الميتةَ حياة، ويبعثون فيها القيم التي فقدتها من جديد، فيطرقون الأبواب مرة بعد أخرى دون كلل أو ملل، يبثّون مواجيد قلوبهم، ويفرغون إلهامات أرواحهم ثم يعودون. يتعرضون للنهر والضرب مرارًا، يقابَلون بالشتم والسبّ والأذى، يُطرَدون من الأبواب شر طردة، لكنهم لا يهِنون ولا يسأمون، ولا يَجِدون على أحد، ولا يقيمون قطيعة بينهم وبين أحد. عيونهم شاخصة نحو آفاق الغيب دومًا، يترقبون بشارة بعث مع مشرق كل شمس ومغربها. وفي مطلع كل يوم جديد يَصحُون وقد ازداد شوقهم نضرة وحماسهم اتقادًا، فينطلقون بأنفاس مبهورة، يقيمون مواقعهم في كل ممر وفي كل زاوية، يدلّون على الطريق المؤدية إلى معين الخضر عليه السلام.

من أدرك مُرادهم وشاركهم حالهم، اكتشف سر الخلود، وسعد بالوجود الأبدي. ومن نأى عنهم شقي بالموت أبد الآبدين. هؤلاء شاركوا جبريل عليه السلام مجلسه، والتقوا الخضر عليه السلام سبعين مرة. لذا تخضرّ البقاعُ التي يمرون بها، وتغدو الرمال التي تمسّ أقدامهم إكسيرًا للحياة، وتذوب جبال الكفر والإلحاد والضلال إزاء أنفاسهم الدافئة ذوبان الجليد، وتتحول الأراضي القاحلة التي تلمسها نفحاتُهم إلى حدائق إرم العجيبة.

المكابدة والمعاناة ديدنهم. كيف لا، وهم يرون المجتمع الذي تربّوا في أحشائه يتقلب من حال إلى حال أسوء، فتَغِيم رؤاه، وتبهَت أفكاره، وتخمُد مشاعره، وتفسد آدابه وتقاليده، فتعتصر تلك الصورةُ قلوبَهم عصرًا، وتقصِم ظهورَهم حزنًا وكمدًا. بيد أن قلوبهم -في الوقت نفسه- خفّاقة بالإيمان، عامرة بالأمل، فيّاضة بتحفز روحي عظيم. فإن شابهم في لحظة شعورٌ بالوحدة والاغتراب من إهانة مجتمعهم لهم، فهم مستبشرون فرحون مطمئنون في أغلب الأحيان.

آهٍ، ما من وجهٍ أليف،

ويْكأنّ الديار خِلوٌ من البشر،

آهٍ من سُبل شديدة الالتواء، عصيّة،

آهٍ من جبال ووديان وعرة،

تعبٌ، معاناة، تأوّه، وأنين..

هذا هو الطريق..

رغم ذلك ما أعذبه من طريق!..

وما أطيب الغربة!..

قلبُ الغريب المنكسرُ ونظراتُه الغائمة، مسرح للمكابدات والأحزان. إنه بأنّاته المتواصلة يذكّرك بآدم عليه السلام، وبتأوّهاته الحارقة يُشعِرك بداود عليه السلام. فهو ينظر إلى حاله، فيجد نفسه وحيدًا في ديار الاغتراب، وقد نالت أيدي التجريح والإهانة منه، وباتت ديار الحبيب بعيدة قصيّة، فترتفع نداءاته شجية: “فلما اغتربتُ عن الغانيات الحسان، هتفتُ بحرقةٍ وا حسرتاه”(1). ويعود يترقب يوم وصل الحبيب ولحظة لقائه والأنسِ به بشوق لا يوصف. وفي حالة الترقب تلك، لا تفتأ نسمات عليلة من ديار الرحمة تهبّ على قلبه الذي تحوّل مبخرةً متواصلةَ الاحتراق، فينتشي بوصل جديد يتبعه شوق من نوع آخر في كل حين. وإذا عثر الغريب على قلوب متفتحة يمكن أن يُفرِغ فيها مواجيد فؤاده وإلهامات روحه، فارت سواكنه، وفاضت مشاعره، وغدا شلالاً متدفقًا. في هذا السبيل الذي خاضه عشقًا، لو تناثرت ثروته وتبددت، وخمدت جذوةُ ناره، وتهدمت دارُه، لا يبدي أدنى شكوى أو تأوّه؛ بل كلما رأى شرارات النار التي قدحها في روح أمته قد انتشرت في أرجاء المعمورة، شعر وكأن هامته بلغت أطراف الجِنان، وهتف ممتنًا “وا خليلاه.. وا خليلاه”، محلّقًا عاليًا نحو آفاق الأبد.

طوبى وألف طوبى للغرباء!.. بشرى وألف بشرى لهؤلاء الذين يتنفسون أملاً، وينشرون أمنًا وسكينة وسلامًا، ناسين ملذاتهم الذاتية من أجل سعادة المجتمع وطمأنينة الأمة، في زمن تلتهم فيه نار الفتنة والفساد الأخضر واليابس!

في مقابل هؤلاء غرباء، أو بالأصح بؤساء، ابتعدوا كل يوم خطوة عن ذاتهم وإنسانهم وثقافتهم فأضحوا أجانب منكَرين. هؤلاء يشبهون غرباءنا حزنًا ومكابدة واضطرابًا. لكنهم متهافتون، متهدّمون، يائسون، من الإيمان محرومون. إذا بحثتَ عن حياة قلبية أو روحية لهم فهيهات أن تجد شيئًا من ذلك. لا صوت لحركة، ولا بصيص نور، ولا بارقة أمل. أيام هؤلاء أشد ظلمة من لياليهم، ولياليهم مقابر حالكة السواد. هؤلاء البؤساء الذين انبتّوا عن جذورهم، وانقطعوا عن جوهرهم الذاتي، فخمدت جمرة أرواحهم، وبهت بريقها وسط ألف دوامة ودوامة من التناقضات والانحرافات.. هؤلاء يمثلون صنفًا من البشر تحت خط الإنسانية؛ بل هم أضل من ذلك وأشقى. فالهواجس والمخاوف التي تمطرها عقولهم على أرواحهم، تحرمهم حتى من الاستمتاع الشكلي لملذات الحياة. وإنّ نظرة واحدة إلى قلوبهم المظلمة، وأفكارهم المشوشة، وأعينهم الزائعة، وعقولهم التي تتصارع فيها أكوام من الأسئلة الحائرة والألغاز المعقدة، لكفيلة بأن تذكّرك بسكان جهنم. وهيهات أن تكون الحياة التي يحيونها جديرة بالعيش. ولكن، لا حيلة لهم -والموت يعني العدمَ في نظرهم- سوى اختيار هذه الحياة التي تتقاذفها الشكوك والأسئلة والألغاز.

الحياة بالنسبة لهؤلاء الحيارى عذاب في عذاب..وإنسانيتهم مصيبة كبرى.. فالموت عندهم دوامة مرعبة وثقب أسود، والكون فوضى.. والمَخرج الوحيد لتجنب الشعور بالألم هو اللجوء إلى السُّكْر المقيم.

وا حسرتاه على هذا النوع من التفكير.. وا أسفاه على هؤلاء البؤساء.. وما أشد تعاسة هذا الصنف من الغرباء.

 

(*) نشر هذا المقال في مجلة سيزنتي التركية، العدد:45 (أكتوبر 1982). الترجمة عن التركية: نوزاد صواش.

الهوامش

  • من قصيدة للشاعر الصوفي التركي محمد لطفي ألوارلي، وهو أحد مشايخ المؤلف. (المترجم)