العولمة والقيم وسؤال الغايات

تعد العلاقات بين المفاهيم والظواهر في الفكر الإنساني من أكثر القضايا تعقيدا، حيث يكون تحديد العلاقة وتحديد تصور معين لها تأسيسا على بداهات العناصر التي تكون تلك العلاقة سببا في الكثير من اللبس، ولذلك يكون التفكير الإبستمولوجي مدخلا لازما لإعادة النظر في تلك المفهومات وما تنبني عليه من علاقات ونتائج. ضمن هذا السياق، يمكن تشغيل مقاربة تحاول تقديم رؤية للعولمة ضمن محاولة فهم الرؤية القيمية التي تنبني عليها، سواء في بعدها الوظيفي أو التاريخي، أو المعياري. حيث يعتبر الباحث في مقاربته أن الموقف من العولمة ينبغي أن يتأسس على حلول فلسفية ضمن مقاربة عميقة لإشكالية القيم. ضمن هذه الاقترابات الثلاث سنحاول إعادة النظر في سؤال العلاقة بين ظاهرة العولمة وظاهرة القيم من خلال سؤالين أساسيين:

إن العلاقة بين العولمة والقيم تأخذ منطقيا ثلاث مسارات على مستوى الرؤية، مسار الانفصال، مسار الاتصال، أو مسار التوسط.

هل تحمل العولمة في تكوينها وبنيتها قيما أخلاقية ودينية؟ وهل من طبيعة القيم سعيها للتعولم أو لتأحيد العالم وتنميطه؟ وهل تكتفي كل ظاهرة وتستقل بذاتها أم أن كل واحدة تحتاج للأخرى؟ ألا تحتاج العولمة للقيم وتحتاج القيم إلى التعولم؟ إذن، ألا يمكن التفكير في كون سؤال العلاقة بين العولمة والقيم ليس سؤال إستراتيجيات، بل هو في العمق سؤال غايات ومثل ومقاصد؟ أليس جوهر تلك العلاقة، في نهاية المطاف، ينبني على تكريم الإنسان وتخليصه من عقال التاريخ المادي القسري واشتراطاته الفيزيائية، نحو آفاق أرحب من السمو الحضاري والتعالي الروحي؟ هل يمكن إصلاح العولمة باعتبارها سيرورة تاريخية دون إصلاح الغايات التي تتقصدها؟ أو إسنادها بمرجعية معيارية وقيمية وحضارية جديدة تقدر على الارتقاء بتلك السيرورة إلى مستوى التعبير عن إرادة الإنسان في العدل والكرامة؟

مقدمة عامة

ثمة اختلافا كبيرا بين الدارسين في النظر لإشكالية العولمة من جهة، وإشكالية القيم من جهة ثانية، بالنظر إلى اختلاف تصوراتهم ومواقفهم العقائدية والأخلاقية والمنهجية والسياسية أيضا. وسنجد في هذا الصدد دراسات كثيرة حول الإشكاليتين المنفصلتين بعضها عن بعض. وبغض النظر عن مجمل تلك التباينات فإن الباحث يزعم أن اختلاف الحكم على ظاهرة العولمة يكمن جوهريا في اختلاف الرؤية حول قضية القيم. ومن ثم فإن تحديد طبيعة العلاقة بين العولمة والقيم تنطوي على تصور محدد للقيم أكثر منه موقفا من العولمة ذاتها. كما أن طبيعة تلك العلاقة وفلسفتها لها أهمية قصوى في عصرنا الحاضر، لما تنطوي عليه من آثار على مصير الإنسان في الآجل والعاجل. مما يجعل من التفكير في العلاقة بين العولمة والقيم تفكيرا ذا أهمية حيوية تحف بالمخاطر والمنزلقات من حيث مآلاتها المستقبلية.

إن العلاقة بين العولمة والقيم تأخذ منطقيا ثلاث مسارات على مستوى الرؤية، مسار الانفصال، مسار الاتصال، أو مسار التوسط. تتحدد الرؤية الأولى باعتبار العولمة نظاما منفصلا عن القيمأي نظاما بدون قيم وهنا يمكن أن نستدعي مجمل خطاب الأزمة: أزمة القيم، انعدام المعايير، انحدار الغرب، أزمة المعنى، موت الإنسان، نهاية العقل، حرب القيم وغيرها من العبارات التي تنم عن “الخواء القيمي” لنظام العولمة، وفي هذه الحالة نكون أمام حالة تاريخية وليس أمام نظام معرفي وحضاري جديد؛ إذ لا حضارة بدون قيم، ونظام العولمة نظام فاقد للقيم، مما يجعله نظاما مضادا لفلسفة الحضارة. وتنجلي الرؤية الثانية في اعتبار العولمة نظاما متماهيا مع منظومة قيمية متكاملة أو نظاما حاملا لقيم مميزة، سواء تمثلت تلك القيم في قيم الغرب (العلمانية، الليبرالية، الفردانية …)، أو في القيم الأمريكية على وجه التحديد (الأمركة)، أو في القيم الكونية التي أنتجتها البشرية عبر مسارات تاريخية مختلفة (الكوكبة). أما الرؤية الثالثة فتتوسط الرؤيتين السالفتين، بحث تعترف بان للعولمة نظاما من القيم، ولكنها في نفس الوقت تؤكد على ضرورة إصلاح ذلك النظام وتخليقه. وهذه الرؤية الأخيرة نجدها ضمن خطاب “أخلاقيات العولمة” الذي تقوده النخبة الدينية وبعض الفلاسفة في الغرب. إذن، فنحن أمام ثلاث رؤى: رؤية تقوم على النقد والاعتراض، ورؤية تقوم على التسويق والتبني، ورؤية تقوم على الإصلاح والتخليق.

إن تلكم الرؤى الثلاث تعكس الحاجة إلى تعريف القيم قبل تحديد الموقف من العولمة؛ إذ إن تحديد الموقف دون تحديد المفهوم الذي  ينبني عليه سيسقط صاحبه في الموقف الإيديولوجي لا محالة. إذن، نحن في هذا السياق نريد تحديد العولمة ضمن علاقتها بالقيم. وذلك عن طريق تحليل الرؤى الثلاث وبيان حدودها ومآزقها النظرية والعملية.

إن أزمة النموذج الحداثي الغربي تكمن جوهريا في انحلال وتفكك مرجعية المعنى، وتدفقاتها التي تنعش الحياة فيها بعد كل دورة تاريخية، مما جعلها إطارا فاقدا للمرجعية المتعالية…

ضمن هذا الأفق، فإن غرض الباحث يتحدد في إعادة بناء مجمل تلك الرؤى ضمن رؤية جديدة، لنطلق عليها الرؤية الحضارية التي تنبع من مركزية الإنسان في الوجود، ومن تكاملية المعنوي والمادي في الحياة الإنسانية، ومن جدلية الطبيعة والغيب والإنسان، حيث نميز بين العولمة باعتبارها معطى موضوعيا ممتدا في التاريخ وهو ما نسميه بالرحمانية العالمية، وبين العولمة باعتبارها معطى ذاتيا يتصل بإرادات موازين القوى المادية في التاريخ. إن المنظور الأول يتأسس على مفهوم الفطرة، في حين يتأسس المنظور الثاني على مفهوم السلطة القهرية.

أولا: العولمة نظام بلا قيمة

تصل بعض الخطابات التشاؤمية إلى إعلان “الخواء القيمي” لنظام العولمة. ويتفق في هذا الموقف دارسون من الغرب وآخرون في العالم العربي والإسلامي؛ فالعولمة في هذا الخطاب لا قيم لها ولا أخلاق فيها. وكما يقول أحد الباحثين: “العولمة لا قيمة لها إلا تحقيق أكبر قدر من الأرباح حتى لو أدى ذلك إلى تجريب أي شيء، مثل تجريب عقار الفياغرا في الأدوية وما تبين له من أضرار خطيرة[1]”، ويقدم هذا الخطاب أمثلة لا حصر لها تبين العقم القيمي للعولمة. من تلك الأمثلة ما يتعلق بإهدار كرامة الإنسان (انتشار الفقر، وعدم التكافؤ بين الشعوب في تقسيم ثروات العالم..)، ومنها ما يتعلق بالإضرار بالطبيعة (تلوث البيئة..)، ومنها ما يتعلق بالإضرار بالإنسان نفسه (التفكك الأخلاقي…). وهكذا فإن التجريبية المادية التي لا تهتم بسعادة الإنسان وكرامته ومصلحته تعتبر خروجا عن فلسفة القيم وأخلاقيات الحضارة مهما ساهمت تلك التجريبية المادية في تحقيق الربح المادي والتقدم التقني.

هذا “الخواء القيمي” لنظام العولمة يتجلى أيضا في غياب المرجعية الكلية. فالعولمة  “تتعامل مع الإنسان كفرد مقطوع الجذور والصلة بينه وبين أي انتماء إلى أي دين أو قومية، وهي تريد أن تتعامل مع وكلائها من السماسرة[2]”. إنها في النهاية تعبر عن تطور “آلة الشر الرأسمالية”. وهذا يدل في نهاية المطاف على أن العولمة لا تستند إلى مرجعية صلبة تقوم عليها، ومن ثم فهي ظاهرة ناطقة في تمظهراتها، صامتة في ماهيتها وكمونها، حتى أمكن القول إن العولمة نظام يعبر في تمظهراته عن كل شيء لكي لا يعبر في نهاية المطاف عن أي شيء.

هذه الرؤية تعتبر أن العولمة لا تعبر عن مضمون اعتقادي ما، بل تتجلى كصيرورة مادية غير مستندة إلى نظام اعتقادي أو قيمي أو منهجي أو بتعبير جون طوملينسون[3] فهي تعبر عن “حالة تجريبية للعالم الحديث”. الأساسي إذن، إن هذه الرؤية تجعل ما هو “مادي” صرف، مضادا لما هو قيمي. أي أن نظام القيم يتعالى على ما هو مادي ويستوعبه. فالعولمة لا تنتج القيم بل تقوم بإهدارها.

إن القيم محتاجة دائما للتعولم، أو بتعبير الأستاذ طه عبد الرحمن محتاجة “لإرادة الانتشار في الأرض”. فقد كانت أنظمة القيم عبر التاريخ تعبيرا عن السيرورة الموضوعية لإرادة الإنسان في اكتشاف ذاته ضمن أفق عالمي.

هذه الرؤية تلتقي أيضا في النقد البراني للعولمة مع الموقف الإيديولوجي الماركسي الذي يعتبر العولمة نظاما فاقدا للقيمة من جهة عدم عنايتها بقيمة العدالة الاجتماعية. وهذه الرؤية الأيديولوجية التي تمثلها النخبة الماركسية تؤسس لموقف ينطلق من فكرة التطابق بين العولمة وبين القيم الرأسمالية؛ إذ العولمة ضمن هذا الخطاب لا تعدو كونها تمثل “حقبة التحول الرأسمالي العميق للإنسانية جمعاء، في ظل هيمنة دول المركز وبقيادتها وتحت سيطرتها وفي ظل سيادة نظام عالمي للتبادل غير المتكافئ[4]”؛ بمعنى أن العولمة ليست ظاهرة تاريخية وحضارية موضوعية، بل هي آلية وسيرورة اقتصادية وسياسية لاستدامة النظام الرأسمالي وقيمه الحاكمة. فالعولمة في المنظور الماركسي لا تنتج قيما بل تستهلك القيم الرأسمالية وتعيد إنتاجها بأشكال وصور وتعبيرات جديدة تصل أقصى تعبيراتها في الثورة التكنولوجية الهائلة.

من بين الحجج التاريخية التي تتأسس عليها الرؤية القائلة بـ”الخواء القيمي” للعولمة ما يتصل بسيادة منطق الصورة[5]” باعتباره تكثيفا للنموذج الإدراكي المادي الذي تحمله العولمة. ضمن هذا السياق يمكن استدعاء الفيلسوف الفرنسي ريجيس دوبريه الذي يقول: “إن عالم الصور الذي تصنعه العولمة التقنية هو الذي يؤسس الواقع، وهذا الواقع الذي تؤسسه الصورة ليس له زمن، ذلك أن الصورة محددة في ذاتها ومؤسسة على منطق اللذة؛ بحيث إذا كانت الصورة هي الواقع فإن الواقع هو اللذة، وإذا ما تحكم منطق الصورة فيعني ذلك تلقائيا تحكم منطق اللذة”. إن منطق الصورة بهذا المعنى هو منطق فاقد للمرجعية القيمية التي تؤسس للوصل بين منظومة المثل ومنظومة الواقع. ولذلك فان العولمة تتحدد ضمن هذه الرؤية باعتبارها تكريسا للقيم المادية على حساب القيم الجمالية، وذلك عن طريق سلطتها القاهرة التي تقتحم الحميمية الفردية وتعيد تشكيلها في مداها المادي الاستهلاكي الصرف. مما حدى بدوبريه إلى إعلان موقفه من العولمة بشكل واضح بقوله: “أن العولمة ظاهرة مزدوجة، فهي من ناحية عولمة اقتصادية وتقنية للأرض، لكنها تترجم في نفس الوقت بلقنة سياسية وثقافية، ومن هنا فإن الصورة أصبحت تصريفا للمطالبة بالتفرد[6].

تجد هذه الرؤية النقدية، بشكل عام، بعض تعبيراتها ضمن تصورات الموقف الاعتراضي الذي يتبناه التيار العالمي المناهض للعولمة، الذي هو الآخر يظل “حركة طارئة” و”موجة عفوية” لا تعبر عن نظام قيم يساعد على الانفكاك مما يتصوره هؤلاء مشكلة إنسانية. كما يبقى التحليل الاقتصادي المادي محور الرحى في هذا الخطاب بما لا يساعد أيضا على التجاوز؛ إذ إنهم كما لاحظ طارق رمضان[7] لا يقدمون خطابا منفتحا على التنوع الثقافي والديني في العالم.

إن هذه الرؤية باختلاف منطلقاتها الإيديولوجية (الموقف الماركسي) والفلسفية (منطق الصورة) والاحتجاجية (التيار العالمي المناهض للعولمة) تنطلق من فرضية أصلية تقوم على أن نظام العولمة لا ينتج قيما بل هو يهدرها ويعدمها، ولكن هذه الرؤى في نفس الوقت، لاشك أنها، تتأسس على رؤية مضادة تنطلق بالضرورة من رؤية معينة للقيم، قد تكون معلنة كما هو الحال في الرؤية النقدية الماركسية التي تنطلق من قيمة العدالة الاجتماعية باعتبارها قيمة تأسيسية، وقد تكون كامنة كما هو الحال في التصورات الفلسفية حول “منطق الصورة” التي تستبطن تصورا للقيم ينبني على الواقع والوجدان. ولذلك فان تنزيل نفس المنطق على العولمة يدل على امتلاكها لنظام قيمها الداخلي، ذلك أن أي ظاهرة أو سلوك بشري ينطلق بالضرورة من منطلقات قيمية. حيث يصير المشكل ليس في وجود أو غياب القيم، بل في طبيعة تلك القيم ومدى قدرتها على صناعة حضارة إنسانية تسعد الإنسان وتحفظ كرامته.

ثانيا: العولمة نظام متكامل من القيم

تنطلق الرؤية التي تقوم على التبني والتسويق إلى اعتبار العولمة نظاما قيميا متكاملا، سنجد ذلك واضحا في التعريفات المعجمية وأيضا في التعريفات التي تتبناها المؤسسات الدولية الكبرى. فالعولمة في التعريف المعجمي ترجمة لكلمة “Mondialisation” الفرنسية التي تعني “جعل الشيء على مستوى عالمي”؛ أي نقله من المحدود المراقب إلى اللامحدود الذي ينأى عن كل مراقبة. (المحدود) هنا هو الدولة القومية أما (اللامحدود) فهو العالم؛ أي الكرة الأرضية. والكلمة الفرنسية هي ترجمة للكلمة الانجليزية “Globalization” التي تعني “إكساب الشيء طابع العالمية وبخاصة نطاق الشيء أو تطبيقه عالميا أو بعبارة أخرى تعميم الشيء وتوسيع دائرته ليشمل الكل[8]”. ومن هنا فإن الدلالة المعجمية في القاموس الغربي تحيل على اعتبار “التعولم” قيمة القيم.

مع بداية حركة العلمنة في الغرب انفصل حقل القيم عن حقل الوجود وحقل المعرفة. لم يعد ممكنا الحديث عن القيم الوجودية والقيم المعرفية، بحيث صارت القيم تعبر عن النسبي والمتغير، وأصبح فهم القيم يتأسس على ما تحققه من منفعة ومصلحة.

ونفس المعنى نجده في تعريف المفكر الفرنسي برتراند بادي الذي يعتبر “أن العولمة عملية تؤدي إلى قيام نظام دولي يتجه نحو التوحد في القواعد و القيم والأهداف ، مع توقع إدماج مجموع الإنسانية ضمنه[9]”، بحيث إن التوحد والإدماجية قيمتين أساسيتين للعولمة. غير أن “التعولم” و”التوحد” و”الإدماجية” ليست قيما في حد ذاتها، بل هي تعكس وظائف العولمة وفعالياتها ذات الطبيعة العالمية. ويضيف البعض التأكيد على الطابع القيمي للعولمة، حيث يرى فليب مورو ديفارج Philippe Moreau Defarges[10] أن العولمة “تزيل غرور العالم وتضع جميع المعتقدات موضع المنافسة، وتقيم سوقا كوكبية للقيم والمعتقدات والإيديولوجيات وتقضى على كل مصادر التعصب وتتيح لكل شخص أن يصلح معتقده”. وهنا نحن أمام تعبير جديد في أدبيات العولمة هو “سوق القيم”؛ أي أن القيم تصبح مجالا للعرض والطلب والمنافسة، بحيث يتم تجاوز الطابع الكلي للقيم وإكسابها روح النسبية التاريخية.

ويقدم تعريف المؤسسات الاقتصادية الدولية وعلى رأسها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي البعد الاقتصادي باعتباره جوهر نظام العولمة، معتبرا إياها “ترمي إلى التعاون الاقتصادي المتنامي لمجموع دول العالم والذي يحتمه ازدياد حجم التعامل بالسلع والخدمات وتنوعها عبر الحدود، إضافة إلى تدفق رؤوس الأموال الدولية والانتشار السريع للتكنولوجيا في جميع أنحاء المعمورة[11]”. في العام  2000 أصدر صندوق النقد الدولي موجز قضايا حمل العنوان المثير للتأمل: “العولمة: تهديد أم فرصة؟” وصف خبراء صندوق النقد الدولي العولمة على أنها “عملية تاريخية، ناتجة عن الابتكارات الإنسانية والتقدّم التكنولوجي. وتشير إلى التكامل المتزايد بين الاقتصادات العالمية، وبالأخص من خلال التجارة والتدفقات المالية[12]”، وهذا التعريف الذي يعتبره الكثيرون التعريف التأسيسي للعولمة يكاد يحصر العولمة في “قيم السلعة” و”قيم السوق”؛ أي في القيم الرأسمالية التي يتأسس عليها النظام الاقتصادي الغربي.

ضمن هذه الرؤية فإن نظام القيم الغربية الذي تحمله العولمة سيحقق فوائد ثقافية واقتصادية جمة للإنسانية. في هذا السياق يمكن استحضار هذه الصورة التي عبر عنها العالم الاقتصادي البريطاني فيليب لوغران الذي كتب يقول: “يكمن جمال العولمة في قدرتها على تحرير الناس من استبداد الجغرافيا. فهي تعني أنه من غير المفروض على المولود في فرنسا أن لا يطمح إلاّ للتكلم بالفرنسية، ولا يأكل إلاّ أطعمة فرنسية، ولا يقرأ إلاّ كتباً فرنسية، ولا يزور إلاّ متاحف فرنسية، وهلم جرا. فالفرنسي، بنفس قدر الأمريكي، يمكنه قضاء عطلاته في إسبانيا أو فلوريدا، و أن يلتهم السوشي أو السباغيتي للعشاء، و أن يحتسي الكولا و أن يشاهد عرضاً هوليوودياً مدويّاً أو حفلة تؤديها فرقة “المدوّر اللاتينية”، و أن يستمع إلى موسيقى البانغرا أو الراب، وأن يمارس اليوغا أو الكيك بوكسينيغ، وأن يطالع مجلة  “إل” Ell أو “إلكونوميست” The Economist، وأن يكون لديه أصدقاء من جميع أنحاء المعمورة[13]. ينضم أيضا المعلق الصحفي في صحيفة نيويورك تايمز، توماس فريدمان، إلى معسكر المتفائلين بالنسبة لتأثيرات العولمة. فاستناداً إلى كتابه الأخير الذي راج كثيراً، “العالم مسطّح” The  world is flat  “فإنه مع تكنولوجيات الإنترنت صار بالإمكان نقل العمل إلى أي مكان من العالم بحثاً عن الخبرة والأجور المنخفضة للأيدي العاملة.

وبذلك سوف يتعزّز التعاون الخلاّق. يقوم الأطباء في بنغالور، بالهند، بتفحص صور أشعة مرضى أميركيين في الحين الذي يرقد فيه هؤلاء ليلاً في النوم، وهو تطور يفيد كلا البلدين، في رأي فريدمان. فطبقاً للاستعارة التي يفضلها فريدمان، لقد تمت تسوية أرض ملعب المنافسة الاقتصادية[14]”. وتصل هذه الرؤية التي تساوي العولمة بنظام القيم الغربية، إلى الحد الذي تجعل فيه العولمة تعبيرا عن القيم الأمريكية على وجه التحديد، باعتبار أن أمريكا قد قادت الغرب للانتصار على نموذج القيم الاشتراكية، مما حدى بالباحث المتأمركفرانسيس فوكوياما إلى إعلان “نهاية التاريخ” واعتبار الإنسان الغربي “الإنسان الأخير”.

إن هذه الرؤية تجعل العولمة في مفترق الطرق الذي يحمل كل التيارات الفكرية ويعبر عن مجمل السيرورات التاريخية في  الغرب. إذ ضمنها تلتقي الرأسمالية والعلمانية والحداثة والامبريالية وغيرها من المفاهيم التي تنتمي للرؤية الغربية. كما أن هذه الرؤية لا تقدم رؤية تعارفية للقيم بل تقصرها على مجتمعات وثقافات بعينها. مما يجعلها رؤية غير منفتحة على التنوع الثقافي والحضاري والديني في العالم.

ثالثا: العولمة نظام قيمي يحتاج إلى الإصلاح

تنطلق الرؤية الإصلاحية للعولمة من منطلق أن العولمة تملك نظامها القيمي الداخلي، لكنها تحتاج إلى إصلاح. ونجد أن هذه الرؤية تنطلق من منظورين إصلاحيين أساسيين: المنظور الفلسفي والمنظور الديني.

لم ينتشر الإسلام في مراحله الأولى في العالم بالقوة العسكرية، بل حقق انتصاراته الباهرة من خلال ثورة ثقافية أعطت هدفًا جديدًا للحياة، وأعطت حياة جديدة للكتل البشرية التي كانت تسكن الإمبراطوريات المنحلة في ذلك الوقت..وكان الحوار والإقناع وتقديم أنموذج السلوك هو أفضل أدواته ووسائله.

1. المنظور الفلسفي[15]؛ يعد في العمق استمرارا لجهود نقد الحداثة الغربية؛ إذ إنه مع بروز منطق الليبرالية الشاملة (أو ما يعرف بالنيوليبيرالية) والتي تحاول توظيف منظومة العالم وتعميم هذا النموذج كونيا، صار الاهتمام الإنساني يرتكز على منطق السوق والتقنية والعلاقات الممكننة، مما سينعكس لا محالة على مستوى المفاهيم التي  يفهم بها الإنسان العالم ويفهم من خلالها أيضا موقعه في هذا العالم، بحيث إن إرادة الهيمنة عبر تنميط العالم بتعبير سيرج لاتوش وتوسيع دائرة الاستهلاك المادي لاستعادة النموذج الرأسمالي بقوته سينعكس على طريقة التعاطي مع مكونات الحضارة المعاصرة.

لقد تنبه الفكر الفلسفي الغربي إلى هذه الإشكالية أخيرا، وتعالت الأصوات المنادية بالحاجة لاستعادة الضمير الأخلاقي للعولمة حتى تصير أكثر إنسانية، وهي نداءات انتصرت للمعرفة التأملية التي تحترم التفكير الإنساني وتمجده، على حساب المعرفة التقنية التي تحبس أنفاس الإنسان وخياله في أرقام بلا جواهر، ومعادلات حسابية بلا روح، كما أنها انتصرت للنزعة الإنسانية المتحررة من عقال العقلنة الأداتية القاتلة والاستهلاكية المنتفخة الجسد والفاقدة للروح والمعنى.

2. المنظور الديني؛ الذي يتلخص في خطاب أخلاقيات العولمة[16] Global Ethics والذي يقوده بعض القيادات الدينية في الغرب، والذي يمكن مكاشفته، اليوم، من خلال خطاب ضخم يروم إصلاح العولمة ومسارها، كمثل “الإعلان من أجل أخلاق عولمية”، و”جوارنا العولمي”، و”تنوعنا الأخلاقي”، و”الإعلان العالمي لمسؤولية الإنسان”، و”مشروع الأخلاق العالمية لليونسكو”، و”الإعلان عن حقوق وواجبات الإنسان” (أو ما سمي بـ “مشروع فالنسيا) 1999″، وغيرها من المبادرات.

وهذا الخطاب يعترف أن للعولمة قيما ذاتية وينادي بتخليقها، من خلال التذكير بقيم قديمة كحقوق الإنسان والمساواة، أو من خلال الدعوة إلى قيم ظهرت حديثا كالحكامة والشراكة والتنمية البشرية والتضامن الاقتصادي والمواطنة العالمية واحترام البيئة وغيرها من المفاهيم التي تنتمي لخطاب جديد تبلور في العديد من المؤتمرات الدولية.

غير أن هذه المبادرات تعاني من ثلاث حدود أساسية: فهي أولا لا تنم عن جهد لإصلاح جذري لنظام العولمة، بل عن تهذيبه وتجميله، وفي بعض الأحيان لا تتعدى تلك المبادرات حدود وضع المساحيق على الوجه البشع للعولمة كما تتجلى في حالات كثيرة، وثانيا؛ فإن هيمنة الاقتصادي على السياسي والثقافي تظل واضحة للعيان، مما يجعل من اقتراحات “النخبة الدينية” التي تتقصد القيام بدور سياسي محل احتواء واستيعاب من قبل المنطق التسليعي للعولمة الذي تريد تلك النخبة إصلاحه وتقويمه، ومن ذلك بروز خطاب جديد يحتوي تلك الأخلاقيات من قبيل “أخلاق العولمة، فعالية الأخلاق، كلفة الأخلاق، السوق المفتوحة، التنمية الإنسانية…”، وثالثا؛ إن تلك المبادرات تعيد إنتاج نفس القيم التسليعية “العلمانية التوجه والمادية التحقق الكامنة[17]” في نظام العولمة دونما العودة إلى أنظمة القيم الأخلاقية والدينية والفلسفية لإعادة بناء ذلك النظام وتقويمه. ومن ثم نستخلص أن ذلك الخطاب يظل “توافقيا” و”تصالحيا” ولا يقدر على مجابهة إرادة الاقتصادي والتأثير في اختياراته، ومن ذلك فإن هذا الخطاب قد ينتهي، بوعي أو بدونه، إلى تبرير ما يريد انتقاده والمساهمة في الالتواء على مطالب “الجماهير” في العالم بأنسنة العولمة وتخليق أهدافها[18] واتجاهاتها وليس فقط التعامل القسري مع نتائجها وآثارها.

رابعا: القيمة المركزية وحتمية المرجعية النهائية

إن الرؤى الثلاث التي استعراضنا أهم ملامحها وتوجهاتها، وبينا أهم حدودها النظرية والعملية، تدفعنا إلى الاستخلاصات التالية:

إن تجاوز الإسلام لأساطير المكان والزمان والذاكرة الضيقة والأنانية الجامدة سيسهم لا محالة في تأسيس حضارة الرحمة.

ـ تنطلق النظرة النقدية للعولمة بالضرورة من نظام قيم تستند عليها في النقد والاعتراض، حيث نجد أن ذلك الخطاب لا يعلن تحيزاته القيمية كاقتراحات للتجاوز والتصحيح.

ـ تلتقي الرؤية التسويقية للعولمة مع نزعة المركزية الغربية، حيث تنطوي العولمة في تلك الرؤية على هيمنة النموذج القيمي الغربي واستعلائه وتجاوزه لفلسفة التنوع الثقافي والحضاري في العالم، مما يناقض منطق العالمية الذي تدعيه تلك الرؤية.

ـ يرتكن خطاب إصلاح العولمة على نفس القيم المادية العلمانية التي يحملها نظام العولمة، ولا يتجاوزها إلى اقتراح منظومة قيمية قادرة على تقويم مسار العولمة وإصلاحها بشكل جذري بما يخدم كرامة الإنسان ويحقق سعادته.

في سياق تحليل تلك الرؤى الثلاث نجد أن إشكاليتها العميقة تتجلى في تبسيط مفهوم القيم وربطه بالتفكير الوضعي المادي سواء من جهة الرؤية النقدية أو الاعتراضية أو التسويقية أو الإصلاحية، مما يجعلها غير قادرة على التفكير في نظام العولمة وتحليله بمنظور جديد قادر على مجاوزة معضلاته وآثاره. ومن ثم يعتقد الباحث أن الإشكال الجوهري في نظام العولمة وباقي الأنظمة المتصلة به يكمن في النسق الفلسفي للحداثة الغربية، ولذلك فإن الجهد المعرفي لإصلاح العولمة ينبغي أن ينطلق من أسسها الفلسفية الكامنة.

ضمن هذه الاستخلاصات فإن إعادة صياغة مفهوم القيم في حد ذاته يصير مسالة حيوية لتجاوز التفكير في قضية العلاقة بين العولمة والقيم من نسق الاستراتيجيات إلى رحابة المقاصد والغايات.

إن القيم في المنظور الذي نقترحه “هي أنساق متكاملة تتداخل عناصر كثيرة في تركيبها، ولذلك فهي تستعصي في حالات عديدة عن التجزئة والتفكيك”. بحيث لا تكون مادية صرفة، أو مثالية صرفة[19]. إنها تدل على ذلك “النسق من الأحكام المعيارية التي تتضمن مثلا وأهدافا ومبادئ وأخلاقا سامية ضابطة للوجود الاجتماعي فكرا ونظما وممارسة، ولها صفة الضرورة والالتزام والعمومية[20]، ونفس المعنى نجده في تعريف طه عبد الرحمن، فالقيم كما يؤكد هي: “تلك المعاني الفطرية الهادية للإنسان والسامية[21]“، نقترح لتطوير مفهوم القيم ضمن هذا التصور ربطه بمفهوم “المرجعية النهائية” حيث نعتبر أن كل سلوك بشري مرتبط بمرجعية نهائية نظرية أو معيارية، بمعنى منظومة اعتقادية موجهة للتصورات وللسلوكيات وللعلاقات، كما نقترح مفهوم القيمة المركزية؛ أي تلك القيم الكلية التي تعبر عنها فلسفة حضارة ما، كقيمة العدل أو قيمة الحرية أو ما إلى ذلك.

خامسا: من أزمة الحداثة إلى عولمة العلمنة

إن أزمة النموذج الحداثي الغربي تكمن جوهريا في انحلال وتفكك مرجعية المعنى، وتدفقاتها التي تنعش الحياة فيها بعد كل دورة تاريخية، مما جعلها إطارا فاقدا للمرجعية المتعالية، بحيث تشخص نظام القيم في المؤسسة القانونية ثم في المقاولة ليصير إلى التعبير عن فعاليته من خلال نظام الصورة، بمنطقها التجريدي الذي لا يعير اهتماما للواقع أو للمعاناة الإنسانية الحقيقية.

إن القيم محتاجة دائما للتعولم، أو بتعبير الأستاذ طه عبد الرحمن[22] محتاجة “لإرادة الانتشار في الأرض”. فقد كانت أنظمة القيم عبر التاريخ تعبيرا عن السيرورة الموضوعية لإرادة الإنسان في اكتشاف ذاته ضمن أفق عالمي. ولتأسيس حضارة المشترك الإنساني العام. ولو لاحظنا تطور حقل الأنثربولوجيا التأويلية لظهر لنا بشكل جلي تلك النزعة العلمية والثقافية الكامنة في الإنسان لإدراك المشترك الإنساني وتمثله من خلال أشكال التعبير الثقافي والفني ومختلف الرؤى الفلسفية والوجودية التي تحملها الحضارات الكبرى. تتجلى القيم ضمن عوالم التفاعل الثقافي الإنساني كتعبير عن المضمون الثقافي العميق للجماعات البشرية المختلفة، بما تمثله من غنى للإنسانية جمعاء. ولاشك أن علماء الأنثربولوجيا قد بذلوا جهدا نوعيا في الكشف عن حقيقة تلك القيم وجعلها ملكا للإنسانية. في الاتجاه المقابل، كانت هناك دائما تلك التصورات “المتمركزة حول ذاتها” التي تلتقط صورا “انتقائية” خاضعة لإرادة السياسي في تسويق صورة معينة لبعض المجتمعات البشرية.

لقد أسس النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم لتلك النقلات على مدى إنساني عميق ومؤثر

مع بداية حركة العلمنة في الغرب انفصل حقل القيم عن حقل الوجود وحقل المعرفة. لم يعد ممكنا الحديث عن القيم الوجودية والقيم المعرفية، بحيث صارت القيم تعبر عن النسبي والمتغير، وأصبح فهم القيم يتأسس على ما تحققه من منفعة ومصلحة. لم تعد القيم نابعة من الفطرة الإنسانية، بل صارت تصدر عن مجال المنفعة. “فالقيًم هو ما هو نافع ولا قيمة لما لا نفع له”.

ضمن هذا السياق تشكل فضاء العولمة كفضاء لعلمنة القيم على صعيد عالمي؛ أي فصل حركة التاريخ ونمط الحياة عن إرادة الارتقاء نحو قيم السماء والارتكاس إلى قيم الأرض. وقيم الأرض تتجلى في “نظام السوق وحركة السلع”. وقد لخص طه عبد الرحمن هذه الرؤية عندما عرف العولمة بأنها: “انتشار تسليعي في العالم يوصل إلى الإخلاد إلى هذا العالم، عن طريق الحرية المتسيبة، والتنافس المفترس، والربح المتوحش، والأنانية المفرطة، والقوة المتسلطة، والمادية المنسقة، متسببة في فساد كبير في العالم[23].”

وحقيق بنا القول أنه لم يستطع نظام في التاريخ أن يحقق عالمية العلمنة كما يفعل نظام السوق وحركة السلع؛ إذ استطاع نظام السوق تحييد جميع الإرادات الإنسانية للتعبير عن قيم الفطرة الإنسانية. بحيث تتحدد العولمة باعتبارها “حركة انتقال السلع والأشياء والأشخاص على صعيد عالمي” من دون أن تكشف تلك الحركة عن فلسفتها ونظام قيمها ومنهجها. إن هذا الاستخلاص نتاج لتطور تاريخي أدى إلى هيمنة الاقتصادي على مختلف النشاطات الإنسانية الأخرى مما انعكس بالضرورة على تغييب الأخلاقي وتحييد الروحي. حيث تتشابك ضمن نظام العولمة الرأسمالية الاقتصادية المتوحشة مع العلمانية الشاملة لتنتهي إلى أبشع صور الحداثة وتمظهراتها اليوم. ما حدى بأحد أهم الفلاسفة المعاصرين اليوم ونقصد يورغن هابرماس إلى القول بـ”أن مشروع الحداثة مشروع لم يكتمل”. لقد توقف مشروع التنوير في منظور النزعة الإنسانية ليترك المجال لمشروع آخر: هو مشروع أقصدة الحياة economization of life، ولذلك لم تطرح القيم في مقابل إرادة تحقيق العالمية إلا عندما صارت تلك الإرادة تعبر عن أزمة الإنسان وعن قلق الحضارة.

سادسا: المقاربة الحضارية للعولمة: رؤية مفتاحية

تنبنى الرؤية الحضارية على مفهوم الحضارة[24]. حيث الحضارة تنبني على أسئلة كبرى لا فكاك من طرحها: وتلك الأسئلة تنبع من سعي الإنسان للارتقاء بذاته ضمن الأوجه المختلفة للنشاط الإنساني. ففي المجال الاقتصادي يطرح سؤال العدالة في توزيع الأرزاق بين الناس، وفي المجال السياسي يطرح سؤال العدل في ممارسة السلطة، وفي المجال القيمي تطرح أسئلة السعادة والخير والجمال، وفي المجال العقدي تطرح أسئلة الوجود والكون والغيب. ولا تصير الحضارة كذلك إلا إذا أجابت عن تلك الأسئلة التي تجمع البعد المادي والمعنوي الروحي ضمن أفق إنساني عالمي. وحينما تفقد حضارة متعينة تلك القدرة يأفل مجدها وتدخل مرحلة “ما بعد الحضارة” بتعبير مالك بن نبي.

لا مراء أن منظومة الإسلام في مرجعيتها القيمية والوجودية الراقية تقدم نظرة للمستقبل، أو كما عبر عن ذلك الأستاذ مصطفى المرابط[25] “فالإسلام يسكن المستقبل”، ذلك أن القيم تتعالى عن معايير العقل، فتشمل العقل ولا يشملها العقل؛ لأنها من خالق يعرف دقائق الحياة والوجود والكون. من هذا المنظور الذي يؤمن بمستقبل الإسلام وإسلام المستقبل في إطار جدلية نسقية متكاملة فلسفيا ومنهجيا، فإن مسؤولية المسلمين تزداد عظما ودورهم يزداد عمقا، من خلال موقعهم كأمة حاملة للحضارة ولفقه حضارة إنسانية شكلت مدرسة لانبعاثات وانبثاقات فكرية واجتماعية متجددة، والموقع لا شك يحدد لكل طرف حضاري الدور والوظيفة.

إن استدعاء الخبرة الحضارية للمسلمين، وأيضا استدعاء تلكم النقلات التي أحدثها الإسلام في مسيرة الإنسانية، وهي بالأساس ثلاث نقلات عميقة الجذور والنتائج، فأما النقلة الأولى فكانت نقلة عقدية ووجودية، تتأسس على فكرة التوحيدية البنائية، وتستبطن جدلية بين الغيب والإنسان والطبيعة، وتلك نقلة لها مسبوقها على مستوى الإطار المرجعي العام، ولكن من زاوية إصلاحية جزئية ارتبطت بقوم محددين وتلك هي النقلة الإبراهيمية، أما النقلة الثانية فكانت نقلة منهجية وأخلاقية تنطلق من الأولى لتؤسس لتفاعل مع حركة التاريخ الطبيعي تأثيرا وتأثرا، وهو ما يمثله قانون السببية وقانون الزوجية، بما هما قانونان حاكمان للطبيعة الواقعية للإسلام أي باعتباره معيشا إنسانيا، وفي نفس الوقت نموذجا متعاليا من المبادئ والمثل، ثم ثالثا النقلة المعرفية التي تتأسس على فكرة العقل المسدد بتعبير الدكتور طه عبد الرحمن؛ أي العقل المتصل بالأخلاق والوحي فيستحيل فؤادا وإيمانا.

لقد أسس النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم لتلك النقلات على مدى إنساني عميق ومؤثر، يقول رجاء غارودي[26] في هذا الباب: “لم ينتشر الإسلام في مراحله الأولى في العالم بالقوة العسكرية، بل حقق انتصاراته الباهرة من خلال ثورة ثقافية أعطت هدفًا جديدًا للحياة، وأعطت حياة جديدة للكتل البشرية التي كانت تسكن الإمبراطوريات المنحلة في ذلك الوقت..وكان الحوار والإقناع وتقديم أنموذج السلوك هو أفضل أدواته ووسائله.”

إن تلكم النقلات الثلاث وما تحمله من أبعاد وآفاق لم تكتشف وتستنبط بعد بالشكل الكافي، وإنها لتحتاج لجهد معرفي عميق حتى تصير حقيقة إنسانية يستوعبها أهل الحضارات جميعا، ومن ذلك فإن الفعالية الحضارية للمسلمين لن تتحقق فعلا فقط بالانفتاح على الغرب واستهلاك ما انتهى إليه فقط من نتائج، بل إن تلك الفعالية ستتحقق بالقدر الذي يستوعب فيه المسلمون كل ما هو إنساني وعالمي؛ بمعنى آخر، أن تلك النقلات الثلاث التي جاء بها الإسلام تعرضت للجمود بفعل انحصارها في دائرة الفهم “الجزئي” للدين، وارتباطها بأشكال من الهوية الميتة والاستعلائية الساذجة، ومن ذلك فإن تجاوز الإسلام لأساطير المكان والزمان والذاكرة الضيقة والأنانية الجامدة سيسهم لا محالة في تأسيس حضارة الرحمة.

المصدر: www.alihyaa.ma

باحث مغربي مقيم في الولايات المتحدة الأمريكية

الهوامش


[1] . محمد إبراهيم مبروك (مؤلف جماعي): “الإسلام والعولمة”، الدار القومية للنشر، 1999، ص64.

[2] . المرجع نفسه.

[3] . جون، توميلنسون، “العولمة والثقافة: تجربتنا الاجتماعية عبر الزمان والمكان”، مجلة عالم المعرفة، العدد 354، ص11.

[4] . جون توملينسون، “تحديات العولمة وآثارها على العالم العربي”، مجلة اقتصاديات شمال إفريقيا، عدد6، ص24.

[5] . عزالدين العزماني: “الحداثة والسياسة والدين وسؤال القيم”، مجلة الإحياء، الرابطة المحمدية للعلماء، دار أبي رقراق: الرباط، المملكة المغربية، عدد مزدوج 32/33، (رمضان 1431ﻫ/غشت 2010م)، ص120.

[6] . المرجع نفسه، ص.

[7]. Tariq Ramadan: “Globalisation Critics Are Naïve”, 2004, This article was originally published in the German daily “Frankfurter Rundschau”. http://www.qantara.de

 

[8] . محمد عابد، الجابري: “قضايا في الفكر العربي المعاصر”، مركز دراسات الوحدة العربية، 1997، ص135.

[9] . غربي، محمد: “تحديات العولمة وآثارها على العالم العربي”، مجلة اقتصاديات شمال افريقيا، عدد6، ص22.

[10] . المرجع نفسه، ص23.

[11] . المرجع نفسه، ص24.

[12] . المجلة الالكترونية “قضايا عالمية”: ” تحديات العولمة”، فبراير 2006، وزارة الخارجية الأمريكية، مكتب برامج الإعلام الخارجي (ص6).

[13] . المرجع نفسه، (ص7).

[14] . المرجع نفسه.

[15] . الحداثة والسياسة والدين وسؤال القيم، م، س.

[16]. Taha, Abderrahman: “A global Ethic: Its scope and limits”, Tabah papers series, Number 1, June 2008.

[17] . طه، عبد الرحمن: “سؤال القيم و تحديات العولمة”، الندوة الشهرية لمركز الجزيرة للدراسات، 29/10/2007.

[18] . يؤكد طارق رمضان  على ضرورة إصلاح العولمة، فقد كتب يقول: “إن العولمة تعاني من الفقدان الرهيب للأخلاق”:

Tariq Ramadan: “Globalisation Critics Are Naïve”, 2004

[19]. Oxford Dictionary: third edition 2003. Oxford university press

[20] . منجود، مصطفى: “القيم والنظام المعرفي في الفكر السياسي”، مجلة إسلامية المعرفة، العدد 19، 1999، ص35-36.

[21] . طه، عبد الرحمن: ” سؤال القيم وتحديات العولمة ” الندوة الشهرية لمركز الجزيرة للدراسات والأبحاث، م، س.

[22] . المرجع نفسه.

[23]. المرجع نفسه.

[24]. Ali A.Mazrui, Patrick. M.Dikirr, Shalahudin.Kafrawi: “Globalization and Civilization: are they Forces in Conflect?”, Global scholarly Publication, New York, 2008, page: 22.

[25] . المرابط، مصطفى: “الإنسان، الثقافة والعلم”، موقع الجزيرة. نت.

[26] . روجيه غارودي  ترجمة: أبو بكر الفيتوري  مجلة كلية الدعوة الإسلامية عدد7، 1990، ص637.