العلم والأخلاق وأثرهما في بناء الإنسان عند النورسي

إن القارئ لرسائل النور، الدارس لنصوصها، المتأمل في سطورها، يجد لا محالة أن فكره قرآني المصدر والغاية، قرآني المضمون والمنهج، ومن ثم فإن العلم الذي تحدث عنه ودعا إليه وحثّ الناس عليه، وأودع مادته في رسائله، هو العلم القرآني الرباني الذي يفتح البصائر، وينوّر العقول، ويزيل الأقفال عن القلوب… هو العلم الذي يعرّف بالله جل جلاله، ويهدي إليه ويوصل إليه… هو العلم النافع الراشد الذي يستقيم به الإنسان ويحمله على الصلاح والإصلاح، ويكفّه عن العصيان والفساد والطغيان… هو العلم الذي يقود صاحبه إلى الفضائل ويحمله على التحلي بالأخلاق العالية ويوجهها ويرشّدها ويحافظ عليها، فهو قرينها وملزومها؛ إذ لا يحل العلم القرآني الرباني قلبًا إلا شرحه لأخلاق الإسلام ومكارمه، ولا يدخل عقلاً إلا أشبعه بالقيم العالية والمبادئ السامية، وحرَّك صاحبهما إلى العمل الرشيد والفكر السديد.

وإذًا فالعلم الذي لا يثمر هذه الأخلاق، ولا يفضي إليها ويحمل صاحبه عليها، هو في نظر النورسي لا قيمة له ولا جدوى منه ولا نفع فيه، وليس هو الذي يستحق أن يسمى علمًا.

والمتتبع لكلام النورسي في فقه علاقة العلم بالأخلاق، يجد أنها قائمة -في فكره- على أساس التأثر بخصائص العلم القرآني الرباني، وهي خصائص تميزه عما سواه، بعضها يحلي بالفضائل والكمالات، وبعضها يخلي من الرذائل والنقائص، وبهذه التحلية والتخلية يتم بناء الإنسان على النحو الأكمل، وتستقيم صياغته على الوجه الأجمل. فينشأ عن هذا البناء وهذه الصياغة مقام ثالث بين مقامي التحلية والتخلية، هو ما يمكن أن نسميه بـ”مقام التجلية”، وهو مقام تظهر فيه على الإنسان السالك الواصل آثار نعم الله، وتتلألأ حوله مصابيح البركات الرحمانية، وتتجلى فيه أنوار الفيوضات الربانية الصمدانية. ونستعرض -فيما يأتي- عشرًا من هذه الخصائص في ضوء رسائل النور وفكر النورسي، الخمس الأولى منها في التحلية، والخمس الأخرى في التخلية، مع كثير من الاختصار والإجمال، لأن القصد هو إبراز علاقة العلم بالأخلاق من خلال هذه الخصائص.

1- الدعوة إلى الإيمان

العلم القرآني الرباني يدعو بطبيعته إلى الإيمان، ويصقل فكر صاحبه ويعرفه بالله جل جلاله، فينبع من هذه المعرفة إيمان صادق يشعّ نوره في القلب، ويسري تياره إلى العقل… والإنسان في نظر النورسي مهيأ -بما أودعه الخالق فيه من خصائص ومقومات- لتلقي هذا العلم، والانخراط في سلكه، والاندراج في مجرته، والاستجابة إلى ما يدعو إليه من الإيمان… فهو يقرر أن العلة الكبرى لمجيء الإنسان إلى هذا العالم هي العلم المعرِّف بالله تعالى، المشعر بالعجز والافتقار إليه جل وعلا… ثم يعلّل ذلك بأن كل شيء في هذا الإنسان “موجّه إلى العلم ومتعلق بالمعرفة حسب الماهية والاستعداد، فأساس كل العلوم الحقيقية ومعدنها ونورها وروحها هو معرفة الله تعالى، كما أن أُسّ هذا الأساس هو الإيمان بالله جل وعلا”.

2- الدعوة إلى العمل

المقصود بالعمل هنا، العمل بمقتضيات الإيمان. فكما أن العلم القرآني يدعو الإنسان إلى أن يؤمن بربه ويعتقد الكمال المطلق في ذاته وصفاته وأفعاله، فإنه أيضًا يدعوه إلى العمل الصالح وفعل الجوارح المصدّقة لما انعقد عليه القلب والعقل من حقائق الإيمان وقيمه، ويستفيض النورسي في الحديث عن الإيمان والعمل وعمق العلاقة بينهما، وأنهما جزآن متكاملان يكونان بثنائيتهما صورة واحدة ذات شقين يدعو إليها العلم القرآني الرباني.

والعمل الناجح هو الصالح المطبوع بطابع الإخلاص، الموصول إليه بالتضحية والفداء مع نكران الذات والنجاة من الرياء.

وأعلى مراتب العمل ما تجاوز مصلحة الفرد إلى مصلحة الجماعة، لذا فقد ألح النورسي على وجوب رعاية العمل في الحياة الاجتماعية، والسير به فيها نحو مقاومة الاختلاف، ومناصرة الوحدة والاتفاق في ظل قانون آية الأنفال: ﴿وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾(الأنفال:46)، وآية المائدة: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾(المائدة:2).

3- الدعوة إلى العبادة

العبادة بمفهومها الواسع عند النورسي، هي إظهار الإنسان عجزه وافتقاره إلى ربه جل وعلا في كل شيء، إظهارًا يعبر عن عبوديته المشربة بالمحبة والطاعة والإخلاص. والعبادة بهذا المعنى داخلة في ساحة العلم، لأن غايته الكبرى -كما تقدم- هي الوصول بالمتعلم إلى معرفة الله تعالى التي تدفعه إلى عبادته وطاعته، لأن معرفة المعبود على ما هو عليه من الكمال المطلق توجب محبته، ومحبته توجب طاعته، وطاعة المعبود هي ثمرة العبادة، فلزم أن العلم داعٍ إلى العبادة وجالبٌ لها، وأنها من مشمولاته، ولا سيما وهي وقود الإيمان وأبرز مظاهر العمل وأشرف صوره، وقد سبق أن من خصائص العلم، دعوته إلى الإيمان والعمل.

4- الدعوة إلى حفظ الفطرة

الفطرة قرينة الإيمان والعبادة، لأن الإيمان لا يكون راسخًا إلا عند ذوي الفطر السليمة، والعبادة لا تخلص لله تعالى إلا مع صفاء الفطرة ونقائها. وإذًا فكل من رسوخ الإيمان وإخلاص العبادة منوط بصفاء الفطرة. ولما كان العلم القرآني الرباني يدعو إلى الإيمان والعبادة -وهما لا يستقران إلا مع الفطرة السليمة- فإن من خصائص هذا العلم، اللازمة عن ذلك دعوته إلى حفظ الفطرة وبقائها صافية نقية. ومن هنا يقرر النورسي أن العلم بحقائق الشريعة، يحافظ على موازنة قوانين الفطرة وروابط الاجتماعيات.

5- الدعوة إلى مكارم الأخلاق

الشريعة الإسلامية كلها مكارم وفضائل، والتحلي بها إنما يكون بتطبيق هذه الشريعة التي هي بمنزلة الشجرة وثمراتها؛ المكارم والفضائل، وتطبيقها مأتاه؛ العلم بها، وفي غياب العلم بها يمتنع تطبيقها على الوجه الصحيح المرضي، وعند ذلك تحل الرذائل محل الفضائل، والنقائص محل الكمالات، والشقاوة محل السعادة… يقول النورسي وهو يقرر ذلك: “أجل، إنه لا سعادة لأمة الإسلام إلا بتحقيق حقائق الإسلام، وإلا فلا، ولا يمكن أن تذوق الأمة السعادة في الدنيا، أو تعيش حياة اجتماعية فاضلة إلا بتطبيق الشريعة الإسلامية، وإلا فلا عدالة قطعًا ولا أمان مطلقًا؛ إذ تتغلب عندئذ الأخلاق الفاسدة والصفات الذميمة، ويبقى الأمر معلقًا بيدي الكاذبين والمرائين”.

هذه بعض خصائص العلم الرباني في شقها القائم على التحلية، دعوة إلى الإيمان والعمل والعبادة والفطرة ومكارم الأخلاق. وعلاقة العلم بالأخلاق من موقع هذا الشق، هي علاقة الحفظ الوجودي للأخلاق، أما شقها الثاني القائم على التخلية، فعلاقة العلم فيه بها هي علاقة الحفظ العدمي. ونستعرض ها هنا خمس خصائص أخرى من هذا الشق متوالية ومتسلسلة مع الخمس السابقة.

6- الحماية من الضلالة

من خصائص العلم الرباني أنه يحمي صاحبه من الضلالة، سواء كانت ناشئة عن جهل أو عن علم. والحماية منها تكون قبلية وبعدية، فالقبلية هي وقاية الإنسان من الوقوع فيها وإبعاده عن دائرتها، والبعدية هي إنقاذه منها إذا وقع في مستنقعها.

ويقرر النورسي في هذا الصدد أن الإنقاذ من الضلالة الناشئة عن جهل، أيسر وأهون من الناشئة عن علم؛ لأن الواقع في الثانية معجبٌ بنفسه، غارقٌ في هواه، لا يكاد يرى حقيقة أمره من سوء ما هو فيه من الوهم. يقول النورسي: “فيا أخي، إنك تعلم جيدًا أن الضلالة إن كانت ناجمة من الجهل فإزالتها يسير وسهل، ولكن إن كانت ناشئة من العلم فإزالتها عسير ومعضل. وقد كان هذا القسم الأخير نادرًا فيما مضى من الزمان، وربما لا تجد من الألف إلا واحدًا يضل باسم العلم. وإذا ما وُجد ضالّون من هذا النوع ربما يسترشد منهم واحد من الألف، ذلك لأن أمثال هؤلاء يعجبون بأنفسهم، فمع أنهم يجهلون يعتقدون أنهم يعلمون”.

وقد نفى النورسي العلم عن الواقعين في الضلالة عن علم. فعلمهم هذا إنما هو في وهمهم، ولو كان عندهم علم حقيقي ما وقعوا في الضلالة، لأن العلم يحمي منها، فلزم أن ما معهم مما يتوهمون أنه علم، ليس بعلم. وهذا الذي يقرر النورسي هنا، هو مستمد من القرآن ومقتبس من نوره، فقد قال ربنا جل جلاله: ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ﴾(الأنعام:119)؛ فقد صرحت الآية بنفي العلم عن الواقعين في الضلالة والموقعين فيها، وأن مستندهم في ذلك إنما هو أهواؤهم، ويستفاد من الآية عن طريق مفهوم المخالفة، أن المتحصن بالعلم الرباني محمي من الضلالة.

7- الحماية من الفساد

الفساد نتيجة الضلال، وكما أن الضلال والإضلال سببه الجهل ولو توهم الضال أنه على علم، فكذلك الفساد والإفساد سببه الجهل ولو كان باسم العلم، والحامي منهما معًا هو العلم القرآني الرباني، فمعه لا مجال للفساد والإفساد.

والحديث عن الفساد كثيرًا ما يقرنه النورسي بالحديث عن الضلال، لما بينهما من علاقة التلازم. وفي كل منهما يتحدث النورسي عن الناشئ عن جهل، والناشئ عن علم، وأن الأول أهون من الثاني وأيسر في رفعه وإزالته.

8- الحماية من المعاصي

الحديث عن المعاصي كالحديث عن الفساد والضلال، لأن المعصية ضرب من الفساد، وهما معًا من مشمولات الضلال. والعلم الرباني يحمي من ذلك كله حماية قبلية بالوقاية، وبعدية بالعلاج. فلا سبيل إلى وجود المعاصي إذا كان الإنسان متسلحًا بالعلم، متحصنًا برشادته وهداه. ويستدل النورسي على ذلك بأدلة كثيرة من النقل والعقل والمشاهدة؛ نجتزئ من ذلك بحديث أنس رضي الله عنه الذي قال: لأحدثنّكم حديثًا لا يحدثكم به أحد بعدي، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “من أشراط الساعة أن يقل العلم ويظهر الزنا” (رواه البخاري).

فواضح من الحديث أن الزنا -وهو المعاصي- إنما يظهر ويفشو إذا قل العلم وفشا الجهل، وهذا يدل عن طريق مفهوم المخالفة أن العلم يحمي من هذه المعاصي.

9- الحماية من البدع

البدع هي ما أُحدث في الدين مما ليس منه من أمور العبادات، وهي ضلالة كما سماها النبي صلى الله عليه وسلم: “كل بدعة ضلالة” (رواه النسائي)، واستدل النورسي على بطلانها، وأنها مردودة على صاحبها بأدلة منها قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾(المائدة: 3). ففي القرآن كفاية، وما لم يفصل فيه فالسنة شارحة له ومبينة مفصلة بما فيه الشفاء والغناء؛ “إن شعاع السنة المطهرة لهو الإكسير النافذ، فالسنة المطهرة كافية ووافية لمن يبتغي النور، فلا داعي للبحث عن نور في خارجها”.

10- الحماية من الاستكبار

من آثار الجهل الاستكبار، ومن الاستكبار الأنانية التي تحدث عنها النورسي في مواضع كثيرة من رسائل النور، وبيّن أن التخلص منها ومن آفاتها وأضرارها، لا يتم إلا بحب الجماعة والذوبان في بوتقتها، ولا يرتقي لهذه الدرجة إلا مَن أُوتي نصيبًا من العلم.

جاء في “ملحق قسطموني” ما نصه: “فينبغي للقريبين من دائرة رسائل النور من أرباب العلم وأهل الطريقة وأصحاب المشارب الصوفية الانضمام إلى تيار النور، ليمدوه بما لديهم من رأسمال سابق، والسعي لتوسيع دائرته، وحث طلابه، وبث الشوق في نفوسهم، وإذابة الأنانية وإلقائها كقطعة ثلج في حوض الماء السلسبيل للجماعة، ليغنم ذلك الحوض الكوثري كاملاً، وإلا فمن يفتح نهجًا جديدًا ويسلك طريقًا آخر، يضر هذه الجادة القرآنية المستقيمة القويمة من دون أن يشعر، ويتضرر هو بنفسه أيضًا، بل قد يكون عمله نوعًا من العون للزندقة دون شعور منه”.

أثر علاقة العلم بالأخلاق في بناء الإنسان

سبق في المبحث الأول، الحديث عن علاقة العلم بالأخلاق، ووجه هذه العلاقة الذي تفسّره خصائص العلم الرباني، التي يتكامل فيها ما يتجه في وظيفته نحو التحلية، وما يتجه نحو التخلية. ونريد ها هنا أن نبين -بشيء من الإجمال أيضًا- ما ينشأ عن ذلك، وينبني عليه من الآثار التي تنعكس على الإنسان، وتعود عليه بإحكام بنائه وإتقان صياغته فردًا وأسرة ومجتمعًا، في فكره وقلبه وروحه وسائر مقوماته المادية والمعنوية. وهذه الآثار كثيرة الانبثاث في رسائل النور، راسية في فكر النورسي، نجتزئ منها بعشرة تُعتبر أصولاً لما سواها ولبنات أساسية في بناء الإنسان.
الأثر الأول هو اكتساب زاد الطريق: إن الأثر الأول واللبنة الأولى من لبنات بناء الإنسان الناشئ عن علاقة العلم بالأخلاق، هي دفعه إلى اكتساب زاد الطريق إلى الله جل وعلا، والاستعداد للقائه والعرض عليه. فمن اكتسب زاد الطريق سار، ومن سار وصل. “إن جميع أهل الاختصاص والشهود، وجميع أهل الذوق والكشف من العلماء المدققين والأولياء الصالحين، متفقون على أن زاد طريق أبد الآباد وذخيرة تلك الرحلة الطويلة المظلمة ونورها وبراقها، ليس إلا امتثال أوامر القرآن الكريم واجتناب نواهيه”.

الأثر الثاني هو التكمل والاكتمال. والأثر الثالث هو الترقي: غالبًا ما يرادف النورسي بين هذين الأثرين، ويتحدث عنهما في نفس واحد. والتكمل هو بذل ما فيه كلفة لنيل درجة الكمال، والاكتمال هو نتيجة التكمل ومطاوعه. والترقي هو بذل الكلفة للارتقاء في درجات الكمال، فهذان أثران من آثار العلم القرآني الرباني في علاقته بالأخلاق، وهما لبنتان من لبنات بناء الإنسان السوي. وقد تحدث عنهما النورسي في مواضع من رسائله، وبين أن التكمل والاكتمال يكون بالتعلم، وأن الترقي يكون بكسب العلم والمعرفة، وأن الإنسان يتميز بهما عما سواه من المخلوقات السفلية، وأنهما محطته الأولى للسير إلى الأمام والعروج إلى المقامات العليا.

الأثر الرابع هو النظر البعيد. والأثر الخامس هو التأني. والأثر السادس هو الحكمة: هذه الآثار الثلاثة كلها من نتائج العلاقة التلازمية بين العلم والأخلاق، وكلها أدوات لبناء الإنسان الأرقى، وهي متلازمة متكاملة يأخذ بعضها بحجز بعض. فالنظر البعيد معناه: اعتبار مآلات الأمور، ووزن الأفعال والتصرفات بعواقبها وخواتمها. والتأني ضد العجلة، فاتخاذ القرارات مثلاً ينبغي أن يكون محكومًا بالأناة والتؤدة وطول النظر وعمق التفكير حتى لا يقع الخلل. والحكمة وضع الشيء في موضعه المناسب، وكل من هذه القيم العالية والمعاني السامية هي محطات في تكوين الإنسان الراشد. وكثيرًا ما يتحدث عنها النورسي في نسق واحد، لأنها ثلاثية متماسكة تكاد لا تتجزأ في كلامه ورسائله.

الأثر السابع هو القوة. والأثر الثامن هو العزة. والأثر التاسع هو التوفيق: هذه الثلاثة هي أيضًا من آثار علاقة العلم بالأخلاق، وهي محطات مهمة في بناء الإنسان وتخريجه قويًّا عزيزًا موفقًا… والقوة في ميزان التربية الإسلامية لا تنفك عن الأمانة، ولا يقارنها بطش ولا إهانة. والعزة لا تنفك عن العدل والحق ولا يصاحبها غرور. والتوفيق لا ينفك عن الشكر. ونظرًا لتلازم هذه الثلاثية وتكاملها، فإن بديع الزمان النورسي كثيرًا ما يتحدث عنها في سياق واحد عاطفًا بعضها على بعض.

الأثر العاشر هو الصلاح والاستقامة: وهذا أثر الآثار وتاجها. فهو غاية التقلب في مدارج التربية والبناء، ومنتهى سلوك التزكية والارتقاء، ولا يصل إلى هذا المقام إلا الصالحون الأتقياء، الذين تذوقوا حلاوة التربية النبوية وهديه الراشد، فانخرطوا في سلك مدرسته الربانية، ونهلوا من ينابيعها الصافية. يقول النورسي رحمه الله: “إن الأصفياء والأولياء الصالحين الذين بلغوا من الكمال ما بلغوا، إنما كان بتربيته السامية، وبهدي شريعته الحقة، فهو مرشدهم وسيدهم، لذا فهو جامع لسر كرامتهم وتحقيقاتهم العلمية وإجماعهم، إنما تمثل ركيزة لصدق أستاذتهم الطاهر وصواب دعوته”.

وبعد، فهذه قطوف من روض رسائل النور لبيان علاقة العلم بالأخلاق في فكر النورسي وأثر هذه العلاقة في بناء الإنسان.

وإن الحاجة ماسة في واقعنا المعاصر إلى فقه هذه العلاقة وآثارها، وترسّم خطى منهج رسائل النور ومدرستها في تنزيل قيمها ومضامينها على الحياة… كما أن الحاجة ماسة إلى إحياء العلم القرآني الرباني، وبثّه في العقول والبيوت والمجتمعات، لنعيد البناء، ونصحح السير… وفي رسائل النور مادة خصبة صالحة لذلك.

يقول بديع الزمان النورسي في لهجته الصادقة الأمينة: “اجعلوا بيوتكم مدرسة نورية مصغرة، وموضع تلقي العلم والعرفان، كي يتربى الأولاد الذين هم ثمار تطبيق هذه السنة على الإيمان، فيكونون لكم شفعاء يوم القيامة وأبناء بررة في هذه الدنيا”.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المراجع

(1) الكلمات، لبديع الزمان سعيد النورسي، ترجمة: إحسان قاسم الصالحي، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة.

(2) المكتوبات، لبديع الزمان سعيد النورسي، ترجمة: إحسان قاسم الصالحي، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة.

(3) اللمعات، لبديع الزمان سعيد النورسي، ترجمة: إحسان قاسم الصالحي، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة.

(4) الشعاعات، لبديع الزمان سعيد النورسي، ترجمة: إحسان قاسم الصالحي، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة.

(5) الملاحق، لبديع الزمان سعيد النورسي، ترجمة: إحسان قاسم الصالحي، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة.

(6) صيقل الإسلام، لبديع الزمان سعيد النورسي، ترجمة: إحسان قاسم الصالحي، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة.