كان ولا يزال جدل يمتد بين المنتصرين للعلم بمضمونه الحديث، والغيارى على العقيدة الإسلامية أن لا تشوبها شائبة، وأن لا يتسرب إليها وهم باطل. كان ولا يزال ثمة جدل يثور بين هذين الطرفين، حول الكثير من المسائل التي كانت فيما مضى محجوبة عن حواس الإنسان بحجاب الغيب، ثم إن العلم الحديث كشف عنها -فيما يبدو- هذا اللثام، وأخضعها لحواس الإنسان.
كيف السبيل إلى التوفيق بين ما نعتقده ونجزم به مما يدل عليه كتاب الله سبحانه وتعالى، وبين هذا الواقع العلمي الذي لا مناص من الإيمان به؟ أحسب أن في كتاب الله عز وجل آية أنهت هذا الجدل واللجج وعقدت صلحا بين العلم الحقيقي، وبين العقيدة الصحيحة. بل أقول إن هذه الآية أكدت صلحا قائما من الأزل بين العلم الحقيقي والعقيدة الإيمانية التي جاء بها الرسل والأنبياء. هذه الآية هي قول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾(الأنعام:59).
فكيف أنهت هذه الآية هذا الجدل؟ عندما نتأمل في المطلع الذي صدّرت به هذه الآية، تجدنا أمام جملتين اثنتين، كل منهما يحصر مفاتح الغيب في ذات الله سبحانه وتعالى. الجملة الأولى أثبتت هذه الحقيقة، عن طريق تقديم الخبر على المبتدأ. وتلك أداة من أدوات الحصر: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ﴾، أي لا عند غيره. أما الجملة الثانية فقد شرحت وأكدت ونصت على ما دلت عليه الجملة الأولى: ﴿لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ﴾. والمهم هنا أن نتبين كيف أن الضمير يعود إلى “المفاتح” لا إلى “الغيب”: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ﴾، أي لا يعلم هذه المفاتح أحد إلا الله سبحانه وتعالى. وفي هذا دلالة عميقة ينبغي تدبرها، وينبغي الوقوف عندها، لندرك كيف أن العلم والإيمان يتعانقان منذ الأزل، ولا ينفك الواحد منهما عن الآخر.

الفرق بين الغيب ومفاتحه

ما الفرق بين الغيب ومفاتحه؟ أما الغيب فهو كل ما يتوقعه الإنسان مما لم يحدث بعد، بناء على دلائل اعتمدها. توقعُ الإنسان هبوط درجة الحرارة بواسطة رآها -بواسطة كتلة هوائية رآها كيف تسير- من الغيوب.. توقع هطول الأمطار في مكان ما بناء -على دلائل قطعا هي عملية- من الغيوب.. توقع الطبيب أن يولد الجنين ذكرا -بناء على مؤشرات رآها في الصبغيات أو الكروموزومات- من الغيوب.. توقع الشفاء بعد تناول الدواء، من الغيوب.. بل توقع الاحتراق، احتراق الهشيم بعد وضعه في النار، من الغيوب.. ذلك لأن هذه الأمور كلها لم تقع بعد، ولكنها متوقعة. والشيء الذي يجعلنا نتوقعها، بصيرة علمية رأيناها واعتمدناها، والبصائر العلمية مبثوثة في كون الله سبحانه وتعالى، هذا هو الغيب.
فما المراد بمفاتح الغيب، بقطع النظر عما ذكره علماء اللغة من المعاني المتعددة لكلمة مفاتح ومفاتيح، ومفتاح، ومفتح؟ فإنه مما لا ريب فيه أن المراد بمفاتح الغيب دساتيرها، أي الفاعلية الكامنة وراء هذه الأحداث المتوقعة، الفاعلية الكامنة وراء تسيار الكتلة الهوائية من مكان إلى مكان. نحن نرى هذه الكتلة الهوائية، ولكن ترى ما الدستور الكامن وراء تحركها أو تبددها أو وقوفها في مكان ما؟ نحن بوسعنا أن نتبين مؤشرات الذكورة في الجنين، ولكن من أين جاءت فاعلية العلاقة بين مؤشرات الذكورة في الصبغيات وبين النتيجة التي نتوقعها؟ نحن نتوقع -بل ربما نعلم- أن تناول الدواء يشفي، وأن تناول السم المهلك يهلك، ولكن ما مصدر الفاعلية الكامنة في العلاقة السارية بين هذا الدواء وأثره؟ ما مصدر العلاقة الخفية السارية بين هذا السم وأثره؟ ذلك هو الذي يعنيه البيان الإلهي بالمفاتح ﴿مَفَاتِحُ الْغَيْبِ﴾.
ومن هنا ندرك السبب في أن الله عز وجل سكت -إن جاز التعبير- عن الغيوب التي ضرب الأمثلة بها، وركز على حصر علم المفاتح في ذات الله سبحانه وتعالى. فما المعنى الذي ننتهي إليه من هذا التفصيل، ومن حصر الله سبحانه وتعالى مفاتحَ، أي دساتير وفاعليات الغيوب في ذاته عز وجل؟
هذا تنبيه لكل من سجن نفسه في سجن الطبيعة أو المادة؛ رأى ظواهر المادة فأعطاها هي فاعليتها، أعطى الدواء فاعلية الشفاء، أعطى النار فاعلية الإحراق، أعطى هذه الصبغيات أو مؤشر الـ”واي” (why) في الصبغيات فاعلية الذكورة. وهكذا يرد البيان الإلهي على هؤلاء قائلا: لكم أن تشاهدوا هذه الغيوب وأن تتوقعوها، وما أيسر أن تتوقعوها إن سلكتم مسلك الدارية والعلم. ولكن لا تنسوا أن هذه الغيوب التي تتوقعونها، ليست فاعليتها كامنة في ذات هذه المواد أو الطبيعة، فاعليتها آتية من عندي، ومن ثم فأنا أعلم كيف أتصرف بها. هذه الكتلة الهوائية، من حقكم أن تتصوروا كيف أنها تسير شمالا، ومن ثم فهي تصل بعد حين محدد إلى المنطقة الفلانية وتعمل عملها، ولكن لا تنسوا أنّ تحرك هذه الكتلة إنما هو عائد إلى سلطاني، مقاليد تحركها بيدي، فأنا الذي أعلم هل أسيّرها أم أوقفها أم أبددها.
ولعل أيسر تصوير لهذا الذي يبصرنا به كتاب الله عز وجل، أن نفترض أننا نشاهد سفينة عملاقة تمخر عباب البحر، متجهة إلى شاطئ، وإنّ بوسعنا أن نقول بناء على توجهها هذا إنها ستصل إلى شاطئها بعد ثلاث ساعات مثلا، ولكن الحصيف والواعي من الناس يعلم أن السفينة لا تتحرك تحركا آليا، وإنما هنالك ربان بيده مقاليدها. فهو الذي يسيرها كما يشاء، ولعل خاطرا يعنّ له يدعوه إلى أن يوقفها في مكان، أو أن ينهج بها سبيلا آخر. وهذا مثل نضربه لحياتنا الراهنة، وعلاقة ما بيننا، عندما نتذكر أن الله سبحانه وتعالى وهو فاطر السماوات والأرض، خالق الأسباب والمسببات ورابط ما بينهما بالعلاقة التي لا نتبين إلا نتائجها، هذا ما يعنيه بيان الله سبحانه وتعالى.
فما النتيجة التي ننتهي إليها؟ النتيجة التي ننتهي إليها، هي أن على الإنسان الذي آمن بالله عز وجل قيوما للسماوات والأرض أن يعلم أن هذه الأسباب والمسببات مرتبطة بمقاليد، وأن هذه المقاليد بيد الله سبحانه وتعالى. على الإنسان العالم -قبل أن أقول المؤمن- أن يعلم أن هذا الذي يراه في عالم المادة جنود لله سبحانه وتعالى، سخرهم الله لما شاء كما يشاء. وما ينبغي -إذا كان يحترم العلم ومصادر العلم- أن يخدع بالمظاهر عن الأسرار، أو بالصور عن المصور، ما ينبغي إطلاقا له أن يجنح إلى هذا النهج. هذا ما يحذر منه بيان الله سبحانه وتعالى.

نظرة علمية منصفة

ولكن هل هذا الكلام الذي يؤكده بيان الله بعبارة غريبة معجزة أخاذة في هذه الآية يؤيده العلم الحديث؟ مع العلم أننا لسنا بحاجة إلى علم حديث يؤيد بيان الله، بل العلم الحديث بحاجة إلى أن يجد دلائل صدقه في بيان الله سبحانه وتعالى. ولكن فلنحاور هؤلاء الإخوة الذين يعتدون بالعلم:
أذكر أني قرأت كلاما لـ”دافيد هيوم” -وهو العالم الوضعي المعروف- يقول فيه: “لو أنني رأيت أن هشيما احترق في النار آلاف المرات، فلن أستطيع أن أدلي بقرار علمي بأن هذا الهشيم سيحترق يقينا للمرة الجديدة، إلا إذا جربت، وألقيت هذا الهشيم فاحترق”. فهو لا ينطلق من قرار ديني، وإنما ينطلق من موازين علمية هو دقيق في تبينها.. ذلك لأن الأمور التي نراها أمامنا إنما استخرجنا قواعدها من التجارب الماضية، والتجارب الماضية لا تغطي دائما الأحداث المستقبلية.
لعل خارقة تقع، لعل أمرا غير متوقع يحصل، أنا أظن ظنا راجحا وقويا أن هذا الهشيم سيحترق، ولكني لا أستطيع أن أجعل تصوري وقناعتي أو يقيني هذا قرارا علميا بالمعنى الأكاديمي لكلمة “العلم”.
هذا الذي يقوله هيوم، إنما يقوله انطلاقا من تذوق علمي. وها نحن نرى كتاب الله سبحانه وتعالى يبين لنا أن علينا أن لا نرتاب في أن هذه الصور التي نراها إنما يسيرها الله عز وجل.
في كتاب الله عز وجل صورة لحوار أخّاذ بين سيدنا نوح وابنه، يجسد هذه الحقيقة التي أقولها، يبرز المنطق الوهمي الطبيعي الذي يسجن صاحبه في ظلام من الحيرة، ويبرز الموقف العلمي الذي يستنشق صاحبه عبير الإيمان بالله عز جل، والارتباط بالله سبحانه وتعالى. عندما اهتاج الطوفان، وتحولت الأرض اليابسة إلى بحار تهتاج بالأمواج المتلاطمة، وكان لنوح ابن شارد عن صراط الله عز وجل، يصور البيان الإلهي حوارا يقول فيه: ﴿وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا﴾(هود:42)، اركب معنا في السفينة التي أمرنا الله عز وجل أن نجتمع فيها ﴿يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلاَ تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ﴾(هود:42-43)، ذلك هو منطق الإنسان الذي يسجن نفسه في المادة أو الطبيعة.
إن هذا الماء المنهمر من السماء أو المتفجر من الأرض، إن كل ذلك إلا طغيان طبيعة، وها أنذا سألتجئ من الطبيعة إلى حصن الطبيعة، سألوذ من طغيان الطبيعة بهذا الجبل الأشم. لم يتصور أن هنالك فاعلية كامنة في هذه الظاهرة إلا داخل هذا العالم الذي رأى. فماذا كان منطق النبوة؟ ماذا كان جواب الوالد الشفوق على ابنه الذي دعته شفقته إلى أن يجذبه عن هذا التيه إلى صعيد الإيمان بالله عز وجل؟ ﴿قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ﴾(هود:43).
لا عاصم اليوم، المسألة ليست مسألة طغيان طبيعة، ليست المسألة أن طبيعة استشرى بها الطغيان حتى تتصور أن بوسعك أن تلجأ منها إلى جبل أشم. إنه أمر الله سبحانه وتعالى. الماء الهاطل من السماء المتفجر من الأرض، والأعاصير المختلفة، إنْ ذلك كله إلا جنود مجندة لله عز وجل. والجند إنما يأخذ تعاليمه من غرفة العمليات، إنما يأخذ تعاليمه من قائده. فهذا العالم كله جنود ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ﴾(المدثر:31)، هؤلاء الجنود مرتبطون بمقاليد، مرتبطون بمفاتيح، والمفاتيح بيد الله سبحانه وتعالى. هذا الكلام، هذا المشهد الحواري يعمق هذه الحقيقة التي يتحدث عنها بيان الله سبحانه وتعالى بعبارة علمية إيمانية واضحة.

بين الغيب والسنن الكونية

ولكن أحسب أن هنا إشكالا قد يطوف في أذهان كثير منا. إذا قلت إن مفاتيح هذه الغيوب بيد الله عز وجل وليس للأسباب التي نراها في عالم الطبيعة أي فاعلية إطلاقا، وإذا كان علينا أن ندرك ذلك فإننا سنجد أنفسنا في حالة لا نستطيع أن نتعامل فيها مع الحياة، لأن الثقة بيننا وبين عالم الأسباب والمسببات تنقطع. لن آخذ نفسي بعلاج، فلعل هذا الدواء تزول فاعليته. لن أنهض من أجل أن أتسبب برزق، ذلك لأن هذا السبب لا قيمة له، إنما الفاعلية بيد الله سبحانه وتعالى، بل لن أحمي نفسي من النيران المهلكة، أو السموم المميتة، فلعل هذه الفاعلية التي أراها تنجاب وتنفصل عنها.
وهكذا فإن الإنسان إذا استسلم لهذا التصور فربما أداه هذا التصور إلى عدم الثقة بهذا الكون، ومن ثم فإن الإنسان لن يتحرك ابتغاء هدف. وهي مشكلة، فما الجواب عنها؟
لعل خير من أجاب عن هذه المشكلة هو حجة الإسلام الإمام الغزالي. في كتابه “تهافت الفلاسفة” صور هذا الإشكال، ثم قال: أجل، إن الغيوب التي نتوقعها ليست حتمية الوقوع، لأن مقاليدها ومفاتيحها بيد الله عز وجل، ولكن لله عز وجل سنة في الكون، أي قانون سار. أقام على هذا القانون علاقة ما بين الأسباب والمسببات، وأعلن في كتابه المبين أن سنة الله لا يلحقها تبديل ﴿سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً﴾(الإسراء:77).
نعم، وقد أكد البيان الإلهي هذا المعنى في أكثر من آية، فإذا رأينا أن الطعام يشبع والماء يروي، وأن الدواء يشفي، وأن النار تحرق، وأن دلائل الذكورة في الصبغيات مرتبطة فعلا بالذكورة، وكذلك العكس، فينبغي أن نعلم أنها سنة ماضية في عالم الله سبحانه وتعالى، وقد قال الله عز وجل: ﴿سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً﴾(الإسراء:77)، هذا قانون، العالم ليس فوضى، ومن ثم فإننا نملك ما يسميه الإمام الغزالي “اليقين التدريـبي”، بأن ما استمر على نهجه في الماضي سيظل مستمرا في الحاضر وفي المستقبل.
نعم، ولكن هنا لفتة دقيقة جدا. الله عز وجل يقول: ﴿وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً﴾ أي لن تقوم سنة جديدة مقام السنة القديمة. لن يقوم نظام جديد مكان النظام الذي شاءه الله عز وجل في علاقة ما بين الأسباب والمسببات، لكن الاختراق ممكن، والاختراق غير تحويل السنة إلى سنة أخرى.

من العلم الحتمي إلى اليقين التدريـبي

كثيرا ما تقع اختراقات باسم المعجزات أو خوارق بقطع النظر عن ارتباطها بنبي جاءت المعجزة تأكيدا لصدقه. تقع هذه الخوارق. ووقوعُ هذه الخوارق أنزل التوقعَ من العلم الحتمي إلى ما يسميه الإمام الغزالي اليقين التدريـبي. فأنا كطبيب مثلا رأيت حياتي كلها ظاهرة تربط بين نوع من الصبغيات وبين ذكورة الجنين، فمن حقي أن أجعل من هذه الظاهرة يقينا لكن تدريبيا، لا يقينا علميا أكاديميا حتميا. وجدتُ أن الدواء يشفي، فمن حقي أن أتعامل مع هذا الدواء على هذا الأساس. ذلك لأن هذه “سنة الله” ﴿وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً﴾(الفتح:23).
وجدت أسباب الهلاك، ورأيت أن الله جعل أسبابا للهلاك، إذن أتعامل معها. بل تقوم شريعة الله على هذا الأساس: “تداووا عباد الله فإن الله ما أنزل داء إلا وأنزل له دواء” (رواه الأربعة).
ولو أن إنسانا تفاعل مع هذه الآية الربانية ونسي سنة الله في الربط بين الأسباب والمسببات، وألقى نفسه في مهلكة لكان منتحرا، ولكان آثما وعاصيا. ولو أن إنسانا قال: أنا -وقد ظمئت- لن أسعى إلى الماء لأرتوي منه، فإن الله عز وجل قادر أن يرويني، يقول العلماء: هذا الإنسان يسيء الأدب مع كون الله عز وجل لأن الله عز وجل أقام سببا لريي، كما أقام سببا لشبعي، وإذا كان الأمر كذلك فما ينبغي أن أتجاهل السنة الربانية التي أقامها الله سبحانه وتعالى بين عباده.
وهكذا فإن المشكلة تنجاب. نتعامل مع الحياة طبقا للأسباب والمسببات التي أقامها الله عز وجل بيننا. إذا سمعت نشرة الارصاد الجوية أتعامل معها، وأعلم أن هؤلاء لم ينطلقوا من قرارهم وبيانهم إلا من يقين تدريـبي. ويقصد الإمام الغزالي باليقين التدريـبي اليقين الذي تكامل وتكاثف من التجارب الكثيرة الكثيرة الكثيرة التي أورثتني يقينا، ولكن احتمال الشذوذ قائم.
احتمال الشذوذ هو الذي يذكرني بقوله تعالى: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ﴾، عنده مفاتح الغيب، ولعلنا جميعا نعلم أن هنالك كتابا ألفه باحث أو صحفي أمريكي سماه “غرائب العالم”، وحشد فيه مئات الغرائب التي تخالف العلم، وتخالف -في الظاهر- سنن الله سبحانه وتعالى. وكل ظاهرة من هذه الظواهر تجعل الإنسان وتضعه أمام حيرة، ولكنها لا تضع المؤمن أمام حيرة قط.
تفسير ذلك أن الله سبحانه وتعالى يرينا بين الحين والآخر، من خلال هذه الخوارق ما يذكرنا بأن مقاليد هذا الكون بيد الله، وبأن مفاتيح الغيوب عائدة إلى الله سبحانه وتعالى. وفي هذا يقول لنا: تعاملوا مع هذا الكون طبق السنة التي أقمتها، ولكن إياكم أن تسجنوا أنفسكم من هذه السنة في تصور مادي طبيعي أرعن، تذكروا أنني أنا الذي وضعت هذا المنهج.
أحسب أن هذا الكلام ينبّه العلم إلى حقيقة ما يقوله الله سبحانه وتعالى، ولابد أن ينغض الرأس لبيان الله، وأحسب أن الإنسان الغيور على العقيدة الإسلامية لابد أن ينغض الرأس أيضا للحقيقة العلمية التي تجعلنا نتفاعل مع عالم الأسباب والمسببات، ولا ننسى أن الجذع الواحد عائد إلى الله. فروع الأسباب كثيرة جدا جدا نتعلق بها، ولكن ما ينبغي أن نفصل ما بين هذه الفروع وجذعها الذي يعبر عنه بيان الله سبحانه وتعالى بكلمة “مفاتح”.
والآن ما النتيجة العلمية التربوية التي ننتهي إليها من هذا الكلام الذي وعيناه؟ النتيجة العلمية واضحة، لكنني لا أحب أبدا في الموضوعات التي نتناولها أن نكون نظريين فقط. أحب أن أجند كل مسألة علمية لوظيفة سلوكية تربوية. ما الفائدة السلوكية التربوية التي يجنيها المسلم من خلال هذا الذي قلناه؟ الفائدة هي أن الإنسان إذا وعى هذه الحقيقة عاش مع ما يقوله الربانيون، مع وحدة الشهود. وما وصل إنسان إلى الإيمان الحقيقي بالله سبحانه وتعالى إلا بعد أن ارتقى إلى وحدة الشهود هذه، بل ما ذاق الإنسان المؤمن نشوة الإيمان بالله سبحانه وتعالى ولذة اليقين به إلا إذا ذابت الأكوان أمام بصره، وهو موقن بها ببصيرته ليرى من خلالها المكون.
وكم يسأل كثير من الناس ما السلّم الذي يرقى بي إلى سدة وحدة الشهود؟ أكون مع الأكوان وأتعامل معها، ولا أرى من خلالها إلا المكون، ما السبيل إلى ذلك؟
السبيل إلى ذلك أن يهضم عقلي باستمرار هذه الحقيقة التي ذكرناها، أن يعلم الإنسان أن الغيوب المتناثرة في الكون مردها إلى مقاليد بيد الله عز وجل فهو العليم بها، وهو المتصرف بها. وليغذ يقينه العلمي هذا بالكثير من ذكر الله سبحانه وتعالى.
فالإنسان إذا وعى هذه الحقيقة يعيش وهو يتعامل مع الأكوان، مع المكون سبحانه وتعالى. إن تناولتُ الماء على ظمأ وشعرت بلذة الري تسري في كياني تذكرت الله سبحانه وتعالى، وعشت مع قبس وهاج من محبة الله سبحانه وتعالى، وإن تناولت الدواء وقد وصفه لي الطبيب، ونظرت فوجدت أن الله قد شفاني بعد تناوله أنسى الدواء، وأعيش مع المداوي الحقيقي، مع الله سبحانه وتعالى، أعيش مع مفاتيح هذه الغيوب.
نعم، كذلك عندما أتناول طعامي، كذلك عندما أجد أن هنالك أخطارا تطوف بي، ثم أن أسبابا أيا كانت أبعدت هذه الأخطار عن كياني، أعيش مع مفاتيح الغيب، أي مع من بيده مقاليد هذه الغيوب كلها، وإذا استمر بي الحال على هذا المنوال، فلسوف أستطيع أن أجمع بين أمرين طالما صعب على كثير من الناس الجمع بينهما؛ أكون إنسانا فرشيا يتعامل مع الأكوان تاجرا مزارعا سياسيا قائدا، أكون مع خضم هذا الكون، ولكن عقلي ومن ثم وجداني، كل ذلك منصرف إلى شهود الله سبحانه وتعالى.
هذه هي النتيجة، نتيجة النتيجة. النتيجة الأولى أن نحقق عقيدتنا الإيمانية بالله سبحانه وتعالى التي تجمع بين العلم الحقيقي وبين العقيدة الصحيحة التي جاء بها كتاب الله سبحانه وتعالى. ثم إنا إذا أخذنا أنفسنا بهذا الذي يقوله الله سبحانه وتعالى، وغذينا أنفسنا بمزيد من الأدلة، فإننا نرقى إلى مستوى وحدة الشهود.
إن الإنسان الذي ذاق لذة هذا المعنى ينظر إلى الأكوان كلها من حوله وكأنها ألواح من الزجاج الصافي الدقيق، هذه الألواح موجودة، ولكنه مهما حدق فيها لا يرى فيها إلا ما وراءها، لا يرى فيها إلا المكون سبحانه وتعالى. نحن نقرأ قول الله سبحانه وتعالى: ﴿اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾(البقرة:255) نقرأ هذا الكلام وندركه علما، ولكن هل نتفاعل به وجدانيا؟ هذه هي النتيجة التي أرجو وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يكرمنا بها جميعا.