الشعر في خدمة القرآن

حاز الشعر عند أهل الجزيرة عناية خاصة على امتداد مختلف المراحل الثقافية. وقد جرى تداوله دون منهج منظم قبل الإسلام. لكن الحاجة الدينية الماسة اقتضت تحول الشعر إلى ثروة لغوية توظف في تفسير القرآن وفهم معانيه.
كان الشعر عند العرب منذ قديم عصوره يتناقل مشافهة اعتمادا على الذاكرة، وكان الناشئ من الشعراء يتتلمذ على شاعر أرسخ قدما، فيختص به ويصبح راويته. وظل الرواة إلى حدود القرن الأول الهجري يتناقلونه اعتمادا على الذاكرة، وكان هذا الفعل مصدرا من مصادر جمعه وتصنيفه. وهو الذي فرض على علماء الشعر وضع قواعد صارمة أخضعوا لها الرواة وما يحفظونه ضمانا لمادة أمينة غير محرفة ولا منحولة.
وإذا كان القرن الأول قرن الفتوحات، وتكوين دعائم الدولة وإرساء قواعدها، فإن القرن الثاني كان قرن الاستقرار وبناء دعائم الحضارة وانصراف الناس إلى المجهود الفكري والثقافي المتمثل في جمع مختلف الآثار المعرفية، والتأمل فيها واستخلاص الأصول. ولم يكد القرن الثاني يبلغ ذروته حتى بلغ التدوين أشده، بجهد العلماء الذين قاموا بعمل جليل في إنقاذ الثروة اللغوية، خاصة بعد أن أودت عوادي الزمن بالعديد من حملة هذه المعارف. وإلى ذلك يشير ابن سلام الجمحي في الطبقات بقوله: “فجاء الإسلام فتشاغلت عنه العرب، وتشاغلوا بالجهاد وغزو فارس والروم، ولهت عن رواية الشعر، فلم يؤولوا إلى ديوان مدون وكتاب مكتوب وألفوا ذلك وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل، فحفظوا أقل ذلك وذهب عليهم منه كثير”.
عرف هذا القرن العديد من الرواة وعلماء الشعر، كعمر بن العلاء، والمفضل الضبي، وخلف الأحمر، وحماد الراوية، والأصمعي، وأبي زيد الأنصاري، وابن سلام الجمحي، وأبي سعيد السكري، وأبي عمرو الشيباني، ومحمد بن حبيب، وابن السكيت وغيرهم.. ويظن أن لا سبيل إلى تحديد أسماء من قاموا بجمع الشعر في العصر الأموي، ولكن عددا ليس قليلا من العلماء قاموا بذلك، واعتمدوا في جمعه وتدوينه وتنظيمه على قدر مكتوب منه إلى جانب الرواية الشفوية.
الحفاظ على الثروة الشعرية
إن جهد العلماء الرواة قد حافظ على قدر مهم جدا من الثروة الشعرية، بالاعتكاف على التصنيف والترتيب. ومن السهل تحديد خمسة أنماط حافظت على الشعر وهي:
1- الدواوين الفردية التي تخص شاعرا في حد ذاته.
2- المختارات الشعرية، وهي مجموعات تتضمن قصائد أو مقطعات منتخبة من آثار عدد الشعراء.
3- المجموعات الشعرية الخاصة بشعراء قبيلة واحدة.
4- مؤلفات تحت عنوان “طبقات الشعراء”، أو “أخبار الشعراء”، أو “الشعر والشعراء”.
5- مؤلفات الثقافة الأدبية العامة تتضمن من جملة ما تتضمن أخبارا عن الشعراء ونماذج من أشعارهم.
فبالنسبة لدواوين الشعراء يورد ابن النديم في الفهرست لائحة من العناوين مبنية وفق نمط موحد، هو ذكر اسم الشاعر مضافا إلى مصطلح ديوان أولا ثم زيادة مصطلح الصنعة أو العمل إليه مضافا إلى اسم الصانع وفق الصيغة الآتية: ديوان، واسم الشاعر، وصنعة أو عمل، واسم الشخص الذي عني به.
ونظرا لأن أغلب هذه المصنفات مفقودة، فإننا لا نستطيع معرفة الصياغة الفعلية لبنية العنوان فيها، لكن مصطلحات كـ”الصنعة” و”العمل” بدأت تظهر خلال هذه المرحلة، وهي تشهد على مدى العناية التي أصبح الشعر يحظى بها من جهة التوثيق، والإشارة إلى الصانع لم ترد اعتباطا وإنما لضرورة التمييز بين الثقاة من العلماء والوضاعين، خاصة بعد انتشار ظاهرة النحل والوضع. فالصنعة توازي التحقيق في الوقت الراهن، ويبين ذلك أن العنوان صار بؤرة تتشكل من عناصر أساسية هي:
– الإشارة إلى الجنس وهو الشعر وقد يكون اختيارا.
– اسم الشاعر أو الشعراء أو القبيلة.
– اسم الصانع أو المحقق أو الجامع.
العنوان وظيفة تداولية
والعنوان عندما يرد على هذه الصورة يؤدي وظيفة تداولية، تستهدف المتلقي الباحث عن الشعر بمختلف أصنافه، لذلك فإن عناوين الدواوين تتضمن في الغالب النص على الراوي أو الشارح كأن يقال: “شعر النابغة برواية ابن السكيت” مثلا، أو “شعر لبيد بن ربيعة عمل أبي عمرو الشيباني أو الأصمعي أو الصولي أو ابن السكيت.. وهكذا”. ومعنى ذلك أن الراوي أو الصانع كان يجمع الشعر من مصادر مختلفة مدونة وشفهية، ويقوم بعد ذلك بشرح المفردات، وبيان بعض الحروف الواردة في بعض الروايات. لأن العقلية الإسلامية السائدة آنذاك فرضت عدم الاكتفاء بالتلقي الاعتباطي، وأصبحت تبحث عن المعرفة الصافية والمنظمة، بالنظر إلى كونها مادة يتم توظيفها في أمر جليل وهو التعمق في معاني القرآن.
لقد أثمرت الفتوحات انضمام غير العرب إلى الإسلام، الأمر الذي وسع دائرة التفاعل مع القرآن. وتلك حاجة غير متأتية إلا بمعرفة اللغة العربية التي يوجد قدر منها في الشعر. ومن هنا فإن بنية العنوان خلال المرحلة تتجسد على هذا التوجه، من خلال التركيز على الشرح والتفسير. ويخصص الباحث التركي المعاصر “فؤاد سزكين” حيزا من كتابه “تاريخ التراث العربي” لذكر شروح دواوين أغلب الشعراء المعروفين. فعناوين هذه المرحلة تركز على حاجة المتلقين بمختلف مستوياتهم إلى الشروح بالدرجة الأولى، لأن المتلقي جديد لم يعد في حاجة إلى التأكد من صحة الرواية فحسب، بل أصبح في حاجة إلى الزاد اللغوي الضروري الذي يعينه على الفهم الصحيح لأحكام الدين، أو لبسط ذلك لمن يهمه الأمر، أو الارتقاء في مراتب السلم الاجتماعي، وأمثلة ذلك كثيرة نذكر منها:
– شرح الأعلم الشنتمري (توفي سنة 476هـ/1083م).
– شرح أبي بكر عاصم بن أيوب البطليوسي (توفي سنة 494هـ/1100م).
– شرح محمد بن إبراهيم بن محمد الحضرمي (توفي سنة 609هـ/1212م).
تبين هذه النماذج على قلتها أن نمطا عنوانيا جديدا دخل ساحة الفعل الثقافي، وهو ربط الشرح بالشارح وفق بنية نمطية مركبة هي:
العنوان التجنيسي: شعر، والمضاف إليه (اسم الشاعر أو الشعراء)، والشرح مضافا إلى اسم الشارح.
يقوم العنوان الفرعي بوظيفة مزدوجة، الأولى تداولية تتمثل في كون المقصود هو الشرح وشارحه، والثانية عملية هي كون العنوان الوجه الظاهر المصاحب للنص في شكله المادي. وبهذا نكون إزاء بنية نمطية عميقة هي العنوان الأصلي مضافا إلى العنوان الفرعي.
وأما دواوين القبائل فكان حظها أفضل من حظ الدواوين المفردة. فقد ذكر ابن النديم في “الفهرست” قدرا مهما منها، وأضاف “فؤاد سزكين” عددا آخر، مرجحا احتمال وجود قسم منها قبل مرحلة الصناعة، ومن عناوين هذا الصنف التي ذكرها ابن النديم: أشعار الأسد (الأزد)، وأشعار أشجع، وأشعار بجيلة، وأشعار بني أسد، وأشعار بن الحارث، وأشعار بني حنيفة، وأشعار بني ذهل، وأشعار بني ربيعة، وأشعار بني شيبان، وأشعار بني مية.
لقد صيغت هذه العناوين على نمط واحد ارتكز على مصطلح “الأشعار” مضافا إلى اسم القبيلة وفق البنية الآتية: العنوان التجنيسي في الجمع (الأشعار)، واسم القبيلة.
العناوين والعصبية القبلية
وتستمد هذه العناوين قوتها من العصبية القبلية التي جرى تأجيجها أيام بني أمية. فكانت القبائل تجتهد في جمع قصائد شعرائها لتتطاول بها على القبائل. ولكن من حسنات هذه الظاهرة أنها مكنت من جمع قدر مهم من الشعر ظل متفرقا بين القبائل. وغالبا ما ترفق هذه العناوين بآخر فرعي يدل على جهد الجمع والتأكد من الصحة، متمثلا في “الصانع” أو “العامل”، فتصير بنية العنوان: العنوان الأساسي، والعنوان الفرعي (اسم الصانع) كـأن نقول: “أشعار الأزد (عنوان رئيسي)، صنعه ابن السكيت (عنوان فرعي).
ومع ذلك نتساءل عما إذا كانت هذه الصورة التي ذكر ابن النديم، هي النمط الفعلي للعنوان الموجود في مقدمة الكتاب أم هو مجرد صفة نمطية تميز هذه الأشعار؟ وما كنا متسائلين لولا الذي ذكره الآمدي في كتابه “المؤتلف والمختلف”، حيث أورد مجموعة من أشعار القبائل على غير نمط واحد وفق الصورة الآتية:
ترجح هذه الملاحظة وجود هذه الدواوين مكتوبة ومصدرة بعناوين معروفة. وما ذكره الآمدي مرة تحت مصطلح “كتاب” أو مصطلح “شعر” أو “أشعار”، ومرة تحت مصطلح “مقطعات” يؤكد ذلك. ولهذا فالآمدي لم يكن سوى ناقل أمين لهذه العناوين.
وأما المختارات الشعرية فلا يمكن إنكار البعد النقدي الذي تنطوي عليه، لارتكازها على التصور النقدي للمصنف، وعلى رؤيته الفنية وتقييمه للإبداع الشعري بصفة عـامـة وهي كثيرة نذكر منها:
• المعلقات
• المفضليات
• الأصمعيات
• حماسة أبي تمام
• حماسة البحتري
• جمهرة أشعار العرب.
ونتوقف عند “المعلقات” لننظر في طبيعة العنوان الذي وازاها في مراحل مختلفة. فقد شدت المعلقات الانتباه منذ جمعت أول مرة إلى يومنا هذا. وتأتي الشروح في مقدمة مظاهر الاهتمام الذي عكسه العنوان كما في النماذج الآتية:
– شرح لخمس معلقات، لمحمد بن أحمد بن كيسان، (توفي سنة 299هـ/921م).
– شرح أبي بكر محمد بن القاسم الأنباري (توفي سنة 328هـ/940م).
– شرح لأحمد بن محمد النحاس (توفي سنة 338هـ/950م)
– شرح أبي سعيد الضرير (شرح المعلقات)، لأحمد بن خالد (توفي سنة 682هـ/895م).
– فتحة المغلقات لأبيات السبع المعلقات، لعبد القادر أحمد الفاكهي (توفي سنة 808هـ/1405م).
– كتاب إمتاع البصر والقلب والسمع في شرح المعلقات السبع، ألف بين (1742م-1870م).
– مفتاح المغلقات في شرح المعلقات، لأحمد بن محمد بن عبد الكريم الموسوي المعلم، ألف بعد (1276هـ/1862م).
– عقود اللآلئ المنسقات في شرح السبع السموط والثلاث المعلقات، أكمله أحمد بن محمد بن إسماعيل المعافي النحوي (توفي سنة 1287هـ/1870م).
تطور الوعي بوظيفة العنوان التداولية
تبين هذه العناوين التطور الذي عرفته شروح المعلقات إلى حدود القرن التاسع الهجري. فقد بقي العنوان محافظا على نمطية بسيطة وغير مركبة تشير إلى طبيعة التأليف (الشرح) ثم إضافة اسم المصنف. لكن هذه البنية ما لبثت أن أصبحت مركبة مع ميل العنوان إلى الطول من جهة، وإلى استغلال بعض المؤثرات كالسجع والطباق، كما في “إمتاع البصر والقلب والسمع في شرح المعلقات السبع، وفي عقود اللآلئ المنسقات في شرح السبع السموط والثلاث المعلقات”.
فالتكلف في العنوانين واضح، ولكنه تكلف يجلب الأنباه ويحث على التدبر، وهي مكونات تداولية تجلب المتلقي بالنظر إلى ما يجده فيها من عناصر الإغراء. وبذلك يكون العنوان قد دخل مرحلة جديدة يجسدها تطور الوعي بوظيفة العنوان التداولية. إذ لم يعد مجرد لحظة عابرة أو ثانوية، بل صار بؤرة أساسية تستوجب العناية والاهتمام. ومما يسترعي الانتباه على هامش المعلقات هو استمرار فكرة الشرح إلى حدود القرن ما قبل الماضي، مما يدل على أن لكل فترة شرحها الذي ينسجم مع مستوى الذوق السائد رقيا ونزولا. فتوالي الأجيال وابتعاد بعضها عن تذوق العربية يرفع من احتمال عدم فهم الأشعار القديمة، وتدبر آيات الذكر الحكيم مما يحتم ظهور الشروح بين الحين والآخر.
وأما كتب المعاني التي يقصد بها “المجموعات من الأبيات المرتبة وفق مفاهيم ومعان وموضوعات محددة، وتعنون بمثل: “كتاب المعاني”، “كتاب معاني الشعر”، “كتاب أبيات المعاني”.. فهذا الصنف من المختارات الشعرية يغلب عليه الطابع الموضوعاتي لتركيزه على إيراد الأشعار التي وردت في معنى من المعاني، ويقوم على بنية حدية واحدة لا تتغير. وأورد “سزكين” مجموعة من هذه الكتب التي حافظت على النمط السالف، باستثناء عنوان واحد مركب هو: “كتاب الترجمان في الشعر ومعانيه” للمفجع محمد بن أحمد المتوفى سنة (327هـ/939م).
يذكر “سزكين” في معرض حديثه عن كتب المعاني محتويات بعضها ككتاب ديوان المعاني لأبي هلال العسكري، وهو مقسم تقسيما غير الذي أورده “سزكين”، إذ قسم إلى كتب هي كما في الجزء الأول منه: “كتاب المبالغة: في المدح والتهاني والافتخار، وهو الباب الأول من كتاب ديوان المعاني وهو ثلاثة فصول”، ثم “كتاب المبالغة في أوصاف خصال الإنسان المحمودة من الجود والشجاعة والعلم والحزم والعقل، وما يجري من ذلك وهو الباب الثاني من كتاب ديوان المعاني”، وتصدير عبارة “كتاب المبالغة”، بالبسملة مع دعاء استهلالي يجعلنا نظن أن:
– الكتاب في الأصل عدة كتب أو رسائل متفرقة تم جمعها في كتاب واحد.
– وأن له عنوانين هما “كتاب المبالغة” و”ديوان المعاني”. ومن الراجح أن يكون العنوان الأول من وضع النساخ، لأن صاحب الكتاب يخبر في أكثر من موضع أن الكتاب اسمه “ديوان المعاني”.
والصيغة الغالبة على هذه العناوين هو إشارتها إلى موضوع الفصل بدقة متناهية، يدرك ذلك بالاطلاع على تقسيم “كتاب الترجمان في الشعر ومعانيه”، الذي أورده “سزكين” كالآتي: كتاب حد الإعراب، كتاب حد المديح، كتاب حد البخل… إلخ.
والكتاب مقسم وفق صورة نمطية واحدة تتشكل من لفظة “كتاب”، التي توازي مصطلح فصل أو باب. وارتبطت موضوعات المصنف بلفظة “حد”، التي تقوم بمهمة تأطير الأنماط المعرفية ووصفها في إطارها الدقيق عن طريق تمييزها عن غيرها، واستقلالها عن الأنماط الأخرى. الأمر الذي يفسر بأنه ابتعاد عن الانطباعية وسيطرة الدوافع العلمية.