يعود الفضل في إنجاز الأعمال الكبرى التي شكلتْ منعطفات حادّة في مسيرة الحضارة الإنسانية، إلى المغامرين من ذوي الأرواح الاندفاعية العظيمة، الذين يرون في المغامرة انفلاتًا من حبوس الجمود على العاديات والمكرورات في حياتهم المعيشية اليومية. فالرغبة من الانفلات من القيود هي من طبيعة الروح، فهي تتضايق وتَمَلُّ من المكوث الطويل في حال واحدة، فتسعى دومًا للمضي نحو الأبعد، والارتقاء نحو الأعلى والإيغال في المبهم والغامض والمجهول، بينما يظلُّ “العقل” دون تطلعات “الروح” محكومًا بتوجّساته وحساباته وتردّداته، فيقدّم رِجْلاً ويؤخر أخرى، فهو لا يقدم قبل أنْ يتثبَّت لأنه يخاف الخطأ أو الوقوع في الفشل، وعلى العكس من ذلك، فإن “الروح” يقدم دومًا وقد يخطئ لكنه لا يتردّد.

فأكثر المكتشفات والمخترعات التي كان لها الفضل في بناء لبنات الحضارة الأولى، كان روّادها أصحاب أرواح مغامرة. فأول مَنْ حاول الطيران وهو “عباس بن فرناس” كان مغامرًا، و”كولمبس” رائد البحار ومكتشف القارّات كان من المغامرين الكبار، و”نيوتن” صاحب الجاذبية الكونية، و”أديوسن” صاحب أول مصباح كهربائي، وغير هؤلاء من المكتشفين والمخترعين إذا ما استعرضنا حياتهم عرفنا أن “الروح المغامر”، هو كان دافعهم ومحرّكهم إلى اكتشاف ما اكتشفوا أو اختراع ما اخترعوا. ثم ألمْ يكن “محمد الفاتح” فاتح القسطنطينية، صاحبَ روح مغامر وقف العقلُ إزاء مغامراته حائرًا منكفئًا عاجزًا بعقلانيته ومنطقيته عن تفسير هذا الحدث العظيم، الذي غيّر تاريخ العالم فأصبح فتح “القسطنطينية” نهاية تاريخ وبداية تاريخ جديد؟

وقبل ذلك ألم يكن أولئك الرجال من الرعيل الأول من المسلمين، مغامرين يحملون معهم “الإسلام” على صهوات أفراسهم التي كانت تنهب بهم الأرض نهبًا إلى مشارق الأرض ومغاربها، وإلى مجاهيل من الأرض لم تطأها أقدامهم من قبل، وإلى بلدان وأقوام وشعوب ولغات، فلا يبالون من أجل ما يحملون من أمانة التبليغ أن يقعوا على الموت أو أن يقع الموت عليهم؟

ولماذا نذهب بعيدًا ولنا هنا وبين ظهرانينا بعض نماذج مِن فِعْل أولئك الرعيل الأول من المسلمين؛ فبيننا شباب مغامرون يدفعهم روحهم المغامر التّواق المندفع إلى ترك الحياة المرفَّهة في صالونات بيوتهم ذات الرياش الفاخر، والزرابي المبثوثة، والأرائك الوثيرة، والدفء الذي يشيع الاسترخاء في الأبدان… يترك أحدهم كُلَّ هذا ثم يغادر بيته غير آسف ولا حزين، ثم يضرب في الأرض بدافع من شعور مؤرق بمسؤوليته الإنسانية والروحية نحو روح العالم الذي تحيق به الأخطار من كل جانب، وتهدد جذوته بالانطفاء، هذه الجذوة التي تستنير بها البشرية وتعود إليها في كل مرة من فوق ظلمات الأرض إذا ما زادت كثافتها وسدَّت منافذ الأنفس والآفاق… فيذهب هذا المغامر متحديًا من أجل الرسالة التي يحملها لَأْواء الغربة والاغتراب، ومشاق الأسفار، وقساوة الأجواء، والصقيع والجماد… وسرعان ما يتغلب على كل هذا بإرادته القوية، وصبره الذي لا ينفد، ويشق طريقه بين الناس، ويكسب ودَّهم واحترامهم حتى يكاد يغدو معْلمًا من معالم حياتهم، فيأخذ بيدهم ليزرعوا معًا شجرة الروح الكبرى فوق أرضهم، ويسقوها معًا بنبع روح الأنبياء والرسل، وبالينبوع الأعظم والأثرى لسيدهم وخاتمهم محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم.

فالروحانيّون -أي أصحاب الأرواح الكبيرة- هم حركيّون بطبيعتهم، لا يطيقون المكوث والسكون، وهم مغامرون تجذبهم الأبعاد، وتأخذهم المجاهيل، وتستهويهم الكشوفات… وربما كان مصطلح “الكشف” الذي يتردد أحيانًا على ألسنة روّاد الروح الكبار مأخوذ من هذا النازع الكشفي الذي ينزع بهم نحو الغوص في أعماق الروح، والذهاب إلى أقاصيها، واكتشاف أصقاعها، وأماكن بعيدة فيها غير مكتشفة ولا معروفة من قبل… فكما للزمان أبعاد وأقاص وامتدادات، فكذلك للروح أبعاد وأقاص وامتدادات لا تقاس بالأمتار والأشبار، ولكنها تقاس بعمق الحياة وكنه الوجود. فالروح والزمان سيَّان، فكما أن الزمان حركة لا استقرار فيها، وامتداد لا توقف فيه، فالروح كذلك في صعود دائم، وفي امتداد دائم، لا يقف عند حدٍّ من الحدود، وإنْ كنا على شيء من المعرفة بحقائق المكان غير أننا لا زلنا أكثر ما نكون جهلاً ببواطن الروح، وبما يضاهيها من بواطن الزمان. فأوجع ما يوجع الروحاني أنْ يتحول مع الأيام إلى شخصية خامدة متعادلة متخلية عن جنوحها الاستكشافي وتطلعاتها الانفلاتية من حبوس الأمكنة، فينتابه من جرَّاء ذلك قلق روحي مرضي مفزع قد يتسرب إلى جسده فيوقعه صريع المرض، لذلك فهو دائم التعرض لذلك الْمَدّ من الطوفان المنبثق من بحر الروح، والذي يدفعه إلى الإبحار من النقطة التي توقف عندها إلى شواطئ أبعد وأعمق، وإلى موانئ أكثر بعدًا مهما كانت متناهية في خطورتها، فهذا هو قدره الذي يمسك بتلابيبه ولا يفلته إلى أنْ يقضي الله أمرًا كان مفعولاً.

ولئن كنّا قد أعظمنا من شأن الروح هذا الإعظام فلأننا نعظم كذلك من شأن الحياة هذا الإعظام، وكل محاولة للفصل بين الشؤون الروحية والشؤون الحياتية فهو إيذان تام بموت الحياة وبموت الروح، سواء ذلك في الأفراد أو الشعوب والأمم… فكلما زادت الروح عنفوانًا زادت الحياة انفساحًا وعطاءًا وتوهّجًا وغبطة، حتى لتغتبط الحياة بالحياة، والإنسان بأخيه الإنسان.

(*) كاتب وأديب عراقي.