التلاحم الاجتماعي مقومات ومحصِّنات

شرع الإسلام مبدأ الأخوَّة في الدين، قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)(الحجرات:10)، وانتهج في تقريرها وبنائها منهجًا تربويًّا فريدًا يرتكز على عقيدة التوحيد الصحيحة الأصيلة، وما يندرج تحتها من مبادئ وقيم تضبط الفكر ورؤية الكون والحياة في ضوء العبودية الخالصة لله عز وجل، وما ينجم عنها من آثار إيجابية تنعكس على سلوك الفرد وتماسك الأمة، إلى جانب نظم الإسلام الشرعية وأخلاقياته السامية، التي أَوْلت الأخوَّة ووحدة الأمة عناية فائقة؛ بالأمر بها والحث عليها، وترسيخها في سلوك الفرد وبناء الأمة، ونبذ ما يمسها بسوءٍ أو يُصدِّع بنيانها أو يضعف تأثيرها من الاعتداد بالروابط المنافية لها، أو المواقف التي تجافيها، والأخلاق التي تصادمها.

أول ما انتهج الإسلام في تقرير مبدأ الأخوة ووحدة الأمة، أن جعل العقيدة هي الآصرة الأهم والمرتكز الأساس لتلك الأخوَّة دون غيرها من الأواصر الأخرى.

آصرة العقيدة

أول ما انتهج الإسلام في تقرير مبدأ الأخوة ووحدة الأمة، أن جعل العقيدة هي الآصرة الأهم والمرتكز الأساس لتلك الأخوَّة دون غيرها من الأواصر الأخرى، كآصرة النسب أو القبيلة أو اللغة أو التاريخ أو المناهج المتنوعة، والمصالح المختلفة، مع أن الإسلام لا ينكر تلك الأواصر ولا يلغيها ما دامت في مسلكها الفطري السليم، بل يعتني بها وما تستوجب من صلة الرحم، وحقوق القرابة والجوار، ومحبة الأوطان وكرامة الإنسان من حيث هو إنسان، وما تفرض تلك الكرامة من حقوق وواجبات وأخلاقيات وتواصل وتواد وتراحم وتعاون، وتضامن على البر والتقوى والعدل والإحسان..
ونحو ذلك من مكارم الأخلاق ومحاسن الخلال، وإذا كان قد ركَّز على آصرة العقيدة، والرابطة القائمة على أساسها، فهو إنما فعل ذلك لكونها “أخوَّة مستمدة من عناصر روحية لا تدانيها في التقارب أيُّ علاقة أخرى”، أمَّا لو اجتمعت الآصرتان معًا، فإن ذلك سيكون أبعد أثرًا وأعمق في التقارب؛ والإسلام يقر ذلك ولا ينكره. ولعل في سؤال نبي الله موسى ربَّه أن يَشُدَّ عضده بأخيه هارون -عليهما السلام- ما يؤكد هذا. بل إن الإسلام حينما وصف رابطة العقيدة بوصف الأخوَّة إنما فعل ذلك إقرارًا بمكانتها الغريزية، وما تقتضيه من العصبية والحميَّة من الأخ لأخيه في الدم والنسب، ولكنه أراد أن تكون تلك الرابطة مشدودة بعقيدة الإسلام وشريعته في المقام الأول، لأن “أخوَّة الإيمان أوثق روابط النفوس، وأمتن عرى القلوب، وأسمى صلات العقول والأرواح”؛ لتأسيسها على عقيدة التوحيد الخالص لله، التي “هي ملاك ذلك كله، لأنها هي التي تزود القلوب برصيد الحب الخالص، وروح الأخوَّة الصادقة، وتسل من النفوس ما يعلق بها من أوضار الحقد، وتطهرها من شوائب التنافر، وتصوغ الإنسانية صياغة فريدة، قوامها التناصح والتآزر، وجوهرها الإخلاص والوفاء، بحيث يحب المؤمن لأخيه ما يحب لنفسه، ويسعى لخيره وما يصلح شأنه سعيه لذاته وصلاح أمره”.

فيروسات مدمّرة

أمَّا إذا ارتكزت الأخوَّة على عصبية النسب، والحمية الضيقة -جنسية كانت أم إقليمية- فإنها تكون “وليدة نزعات خاصة لا تعرف غير الجنس أو الإقليم، ولا تمت في أكثر أحوالها إلى القلب ولا إلى الصالح العام، وبها يذوي الضمير العالمي وتنكمش الروح الإنسانية، وينسى الرحم العام الذي يقضي بالتعاون العام والسلام العام، ويقضي بالحدب الشديد على المصالح العامة، ثم تجعل من أفراد الإنسان أو جماعاته حيوانات غابيَّة مفترسة، يفتك قويها بضعيفها، ويأكل كبيرها صغيرها”.

إذا ارتكزت الأخوَّة على عصبية النسب، والحمية الضيقة -جنسية كانت أم إقليمية- فإنها تكون “وليدة نزعات خاصة لا تعرف غير الجنس أو الإقليم.

لقد تميزت الأمة الإسلامية بأنها تقوم على مبدأ الأخوَّة ووحدة الأمة، الذي أعلنه رسول الهدى صلى الله عليه وسلم بقولـه: “أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي فضل على أعجمي إلا بالتقوى” (رواه مسلم).
إن هذه الرابطة التي قررها الإسلام وأعلنها رسول الله صلى الله عليه وسلم مشدودة بالعقيدة والإيمان، أصبح من لوازمها الولاء لله وللرسول وللمؤمنين. فالمسلم مطالب “بأن يكون ولاؤه القلبي والعملي لإخوانه في الدين”، ومقتضى ذلك الحب في الله، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “ثلاث من كنَّ فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرءَ لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يُقذف في النار” (رواه البخاري).

آصرة العبادات

مما انتهجه الإسلام في تحقيق الأخوَّة وبناء وحدة الأمة، ما أوجبه على عباده من عبادات يؤدونها في جماعة، وأخلاق يتعاملون بها في علاقاتهم الخاصة والعامة، ومقتضيات تفضي إليها الأخوَّة من التناصر والتراحم والتعاون والمناصحة.
أمَّا العبادات، فإن الإسلام حث على صلاة الجماعة، وفيها يلتقي المؤمنون المجاورون لكل مسجد في مسجدهم خمس مرات لأداء الفروض الخمسة من الفجر إلى العشاء، ويجمعهم لقاء أكبر يتم في كل أسبوع مرة لأداء صلاة الجمعة والاستماع لخطبتيها، ثم يجتمعون في عيد الفطر وفي عيد الأضحى، ويجتمعون لصلاة الاستسقاء وصلاة الخسوف وصلاة الكسوف ونحو ذلك.
وفي هذه اللقاءات التي تتكرر يوميًّا وأسبوعيًّا وفي العيدين ونحوها مما أشير إليه، تتجلى الأخوَّة ووحدة الأمة في أسمى معانيها، حيث تتضح الغاية من تلك الاجتماعات وهي عبادة الله والخضوع له والتذلل بين يديه، يلتقي من أجلها المؤمنون في بيت من بيوت الله يتقدمهم إمام يأتمون به، رمزًا لوحدة الغاية ووحدة الهدف، ويصطفون من خلفه في نسقٍ ونظامٍ متجهين لرب واحد، وقبلة واحدة، وعلى منهج واحد، اتباعًا لنبيهم محمد صلى الله عليه وسلم إمام الأمة وقدوتها الذي قال: “صلوا كما رأيتموني أصلي” (رواه البخاري)، والذي حث على صلاة الجماعة وقال بشأنها: “تَفْضُلُ صلاةُ الجميعِ صلاةَ أحدكم وحدَه بخمسٍ وعشرين جُزْءا” (رواه البخاري).
ولا يتسع المقام هنا لاستقصاء ما ورد من الحث على تلك اللقاءات، ولا ما تنطوي عليه من الفوائد والحكم التي تتميز بها الأمة الإسلامية على سائر الأمم الأخرى، والتي تعد -في الحقيقة- من نعم الله على هذه الأمة وعلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

آصرة المنظومة الأخلاقية

تأسست الأخوَّة ووحدة الأمة على المنظومة الأخلاقية التي جاء بها الإسلام، وهي من الأهمية بمكان، منها ما دعا الإسلام إلى التحلي به كالصدق والأمانة والعدالة والرحمة والصبر، ومنها ما نهى عنه وحذَّر منه مثل الحسد والحقد والغل والغضب ونحو ذلك.

تأسست الأخوَّة ووحدة الأمة على المنظومة الأخلاقية التي جاء بها الإسلام، وهي من الأهمية بمكان، منها ما دعا الإسلام إلى التحلي به كالصدق والأمانة والعدالة والرحمة والصبر.

فأما الصدق فقد أوجب الإسلام على كل مسلم أن يتحلى بهذه الصفة في اعتقاده، وفي قوله وفعله، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر” (متفق عليه). وحقيقة البر في الإسلام تتناول كل خير يفعله الإنسان في محيطه، بدءًا بأسرته ومجتمعه ووصولاً إلى المجتمع الدولي بعامة. وعندما يتصف سائر أفراد المجتمع بالصدق على هذا النحو، ويتحقق البر بمعناه القويم، تقوم أخوَّة الإسلام ووحدة الأمة على أساس متين يسهم في قوتها، إضافة لغيره من الأسس الأخلاقية الأخرى ومنها:
• صفة الأمانة كأساس آخر لتلك المنظومة الأخلاقية المهمة في بناء الأخوَّة الإسلامية ووحدة الأمة، والنصوص الشرعية من الكتاب والسنة تتضافر في الأمر بها والنهي عما يقابلها قال تعالى: (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا)(النساء:58)، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: “لا إيمان لمن لا أمانة له” (رواه الإمام أحمد). ويدخل في الأمانة، أداء ما أوجبه الله على الإنسان من حقوق لله تعالى، وحقوق لعباده، وحقوق لنفس الإنسان ذاته.
وما ينبغي التوجيه إليه والتأكيد عليه هنا من معنى الأمانة، هو تعامل الفرد المسلم مع أخيه، ثم تعامل الأمة بعضها مع بعضها الآخر ومع غيرها من المجتمعات البشرية والأمم الأخرى، والضابط في ذلك هو؛ أن يتعامل الإنسان مع غيره بمثل ما يحب أن يعاملوه به من النصح والصدق والإخلاص والوفاء في شتى ميادين الحياة، ومجالات التعامل الإنساني، إلا أن هناك فرقًا يتميز به الفرد المسلم، وتتميز به الأمة الإسلامية في التعامل مع الآخرين، وهو أن الإسلام “ينهى عن خيانة الذين يخونوننا، أي أن اقتراف جريمة الخيانة من قبل الآخرين لا يسوغ لنا خيانتهم. فالخيانة ليست من الاعتداءات التي تقابل بالمثل” قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك” (رواه البخاري). وهذا معنىً عميق للأمانة امتازت به الأمة الإسلامية على غيرها من الأمم، وعلى هذا فإن الأخوَّة الإسلامية ووحدة الأمة، ترتكز على أساس متين آخر هو الأمانة بهذا المفهوم الإيجابي الخير كفضيلة من الفضائل الأخلاقية المهمة، لقيام حياة الأمة في شتى نواحيها، وفي الناحيتين الاجتماعية والاقتصادية بصفة خاصة.
• صفة العدالة حرص الإسلام على تحقيقها بين أفراد الأمة على نحوٍ يوازن بين الحقوق والواجبات والمسؤوليات الفردية والاجتماعية. وهناك معنىً لطيف آخر للعدل، بأن يتجسد العدل ابتداءً في ذات الفرد المسلم وهو “أن يأخذ المرء ويدع طبقًا لمبادئ الإسلام”. وعند ذلك يحقق المسلم العدل في ذاته أولاً، ثم يتخلق به في تعامله مع غيره ثانيًا، فتقوم الأخوَّة الإسلامية ووحدة الأمة على أساس من العدل في الأخذ والعطاء وفي المواقف كلها.
• الرحمة أساس متين وركن ركين للأخوَّة ووحدة الأمة بصفتها “فضيلة من فضائل الإنسان تدفع إليها العواطف النبيلة والإحساس الإنساني الشريف، وقد وصف الله بها نفسه، وتفضل بها على خلقه، والله يحب من عباده أن يكونوا رحماء فيما بينهم، فيعطف كبيرهم على صغيرهم، ويوقر صغيرهم كبيرَهم، يواسي غنيهم فقيرهم، ويعين قويهم ضعيفهم، ويرشد عالمهم جاهلهم، ويهدي حكيمهم سفيههم، ويرى المحكوم رحمة الحاكم به، كما يرى الأبناء رحمة الآباء، والتلاميذ رحمة المعلمين، والمرضى رحمة الأطباء، أولئك هم الذين يرحمهم الله ويعطف عليهم، ويسعدهم بحسن لقائه، وينجيهم من فتنة الحياة والممات “الراحمون يرحمهم الرحمن”. وكما أوجب الله تعالى على الإنسان أن يرحم أخاه الإنسان، أوجب عليه أن يرحم الحيوان”.
فالرحمة تشمل في قلب المؤمن سائر خلق الله من حيوان وطير ونحوها. ومن لطف الله وكرمه أن رحمته سبقت غضبه كما في الحديث: “إن الله كتب كتابًا قبل أن يَخلق إن رحمتي سبقت غضبي” (رواه البخاري). وقد بين الله  أن رحمته وسعت كل شيء، وأنه يختص بها من يشاء، وأنه سيكتبها لعباده المؤمنين. ولئن كانت الرحمة بهذا الشمول والعمق والتأثير، فإن ما يتعلق منها بالأخوَّة الإسلامية، يتمثل في ذلك القلب النابض بالحب والرأفة والحدب على غيره الذي يكتنفه كل مسلم.
ومن هنا تكون لبنات الأمة الإسلامية سليمة الطوية، مرهفة الحس تتعاطف وتتآلف، وقدوتها في ذلك وفي كل خلق كريم سيد الأنبياء وخاتم المرسلين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ فقد لازمته الرحمة في أصعب الظروف والمواقف، وعندما طُلِبَ منه أن يدعو على المشركين قال: “إني لم أبعث لعَّانًا، وإنما بعثت رحمة” (رواه مسلم). وبهذه الرحمة وما تفعله من آثار، وما تتصل به من صفات الجلال والكمال، بنى الرسول صلى الله عليه وسلم صرح الأمة الإسلامية.
• الصبر، انتهج الإسلام في بناء الأخوَّة الإسلامية ووحدة الأمة وضمان استمرارها وسلامتها، الأمر بالصبر والحث عليه، لأهميته في حياة الأمة كركيزة من ركائز المجتمع الإسلامي السليم. وتتسع دائرة الصبر في الإسلام على مستوى الفرد والأمة ليشتمل على أنواع كثيرة منها؛ الصبر على طاعة الله، والصبر عن معاصيه، والصبر على البلايا والمصائب والشـدائد، أي الصـبـر في البأساء والضـراء. والصبر فضيلة ينبغي على المسلم وعلى الأمة الإسلامية التذرع بها لمواجهة مصاعب الحياة وأعبائها، كي يتحقق لها الفلاح والنجاح. ومما تفرد به الإسلام وتميزت به الأمة الإسلامية، أن الصبر مأمور به بصفة مستمرة، وأنه من المبادئ الأساسية في الحياة الخاصة والعامة.
هذه أهم الأخلاق التي يقوم عليها بناء الأخوَّة والوحدة في الإسلام، يتصل بها جملة أخرى من مكارم الأخلاق وفضائل الأعمال، أمر بها الإسلام وندب إليها وحث عليها، مثل الوفاء والعفو والصفح، والستر على المسلم وحفظ سره ونحو ذلك.
إلى جانب هذه الأخلاق الفاضلة المأمور بها والمندوب إليها أخلاق مذمومة نهى الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم عنها؛ منها البغض والحسد والتدابر والقطيعة والسخرية والاستهزاء وإساءة الظن والغيبة والنميمة والتجسس والغضب، ونحوها مما يفسد أواصر الأخوَّة، ويهدم وحدة الأمة من مرذولات الأخلاق ومساوئ الأعمال.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) كلية الشريعة، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية / المملكة العربية السعودية.