التفكير السليم

لا عشوائية في الكون، ولا فوضوية في الوجود، وكلما أمعن العقل البشري النظر فيما حوله رأى الهندسة الرائعة، والبناء المحكم الحكيم. أما ما نلمسه اليوم من عشوائية في التفكير، وفوضوية في الفكر، فتتأتّى من عمى ذهني تصاب به الأمة على حين غِرّة عندما ينتابها الإعياء عن حمل أمانة التفكير السليم، وعندما يهمد توقها إلى الحقيقة، ويضعف شوقها إلى المعرفة. وقد يطول هذا العمى الذهني أو قد يقصر، ولكنه في كلا الحالين لا بُدّ من أن ينهض من بين صفوف الأمة رجال فكر ينفخون في “صور” الإيقاظ لتنهض الأمة من جديد وتعود لتمارس عملية التفكير السليم.
وهؤلاء الرجال يلزمون أنفسهم برسم الخارطة الفكرية والروحية للأمة على أسس من عقيدتها وتاريخها وروح العصر وتوجهاته الفكرية والثقافية والحضارية. إن إنقاذ الأمة من فوضويتها الفكرية، وبعث فكرها الأصيل بموازينه الدقيقة يجعلها قادرة على امتلاك ناصية نفسها، وفي الوقت نفسه امتلاك المداخل إلى العقول الفهيمة المدركة. فمقال أستاذنا الشيخ فتح الله كولن “مهندسو الروح… الربانيون” المتصدر هذا العدد من حراء يضع أسس هذا البناء الفكري والروحي للأمة بروحية المهندس البارع الذي لا تفوته شاردة ولا واردة من مستلزمات هذا البناء المرتقب. إنه يفتح أفكارنا وبصائرنا لنرى الأعمق من كل شيء، ويريدنا أن نكون للعالم عيناً، وللكون قلباً، وأن نكون ربانيين وألاّ نكون حبيسي الفانيات، ضيقي الآفاق، مسطحي التفكير، ويَرْبأُ بِنَا أن نكون ضحلين نَهَاب الأعماقَ، ونخوض في الضحضاح من الشُّطْآن.

إن هذا النمط من الشعور بالمسؤولية وعزيمة الهمة العالية وإرادة القيادة الإرشادية، التي تتعدى حدود فرديتنا دائمًا، والتي تشكل أكثر المقومات حيوية في النظام الشامل للعالم كلاًّ وجمعًا، وأهمّ مصدر للأمان الكوني..

وأما الشيخ الأستاذ الفاضل محمد سعيد رمضان البوطي فإن مقاله في هذا العدد مكرسٌ لتفنيد نوع من أنواع هذه العشوائية التي تظن أن “التقديس” مصادرة لحرية البحث بينما هو ثمرة من ثمار هذه الحرية. والأصالة كذلك هي المحور الذي يدور حوله مقال الدكتور بركات محمد مراد ولزومية هذه الأصالة في التجربة التربوية في التراث الإسلامي.
وأما الدكتور “زغلول النجار” فيحدثنا عن الجيل القرآني وبنائه العلمي، وأما الأستاذ الشاعر والأديب حسن الأمراني فإنه يعقد مقارنة بين عملاقين من عمالقة الفكر الإسلامي هما “الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي” والشاعر الكبير “محمد إقبال”، إلى جانب مقالات أخرى يضيق المجال عن استعراضها في هذا التعريف المقتضب.
ونأمل أن تقدم “حراء” في كل عدد وجبة من الغذاء الفكري يسدّ بعض ما نشكو منه من مجاعات روحية وفكرية لا زلنا نعاني منها الشيء الكثير والخطير.