التربية المتوازنة وتكوين شخصية الطفل السوي

 

يعرف الجميع أن لتربية الطفل وبيئته أثرًا كبيرًا في تكوين شخصيته، بل قد يبالغ البعض منا فينسبون للتربية والبيئة كل شيء يتعلق بالشخصية. وقد أكد علم النفس الحديث هذه الحقيقة، وإن لم يهمل الجوانب الوراثية المختلفة المتعلقة بهذا الموضوع، وتوصل الباحثون إلى كثير من الحقائق المهمة في هذا المجال، ويحسن بنا أن نشير إلى بعضها بإيجاز:

  • إن تأثير البيئة يبدأ منذ الأيام الأولى بعد الولادة، بل ويعتقد البعض أن هذا التأثير يبدأ قبل ذلك حين يكون الطفل في بطن أمه. وعدم تذكر الإنسان للحوادث والتجارب التي يمر بها في سنيه الأولى لا يعني عدم تأثيرها على تكوين شخصيته، بل إن حصيلة هذه التجارب تُختزن في الجانب اللاشعوري من عقل الإنسان، لتشكل القاعدة الأساسية لسلوكه العضوي في المستقبل. وهذا يعني أن علينا أن نهتم بالسنين الأولى من حياة الطفل أيما اهتمام، حتى لا نسيء إلى شخصيته النامية.
  • أصبحنا نعرف اليوم تطور الطفل الطبيعي، وكيفية نمو قدراته وإمكاناته الجسمية واليدوية والذكائية والاجتماعية، ومدى الاختلافات الطبيعية بين طفل وآخر، بحيث أصبح من السهل علينا معرفة ما يتوقع من الطفل وما يستطيعه في كل عمر من الأعمار.
  • معاملة الطفل السليم وسياسته الحكيمة، هي التي تتماشى مع درجة تطوره والتي تنمي مواهبه وقدراته، بحيث ينتقل من مرحلة الاعتماد الكلِّي على الأهل، إلى مرحلة الاستقلال التام بسلام وأمان وبصحة نفسية وجسمية جيدة لا عوج فيها.

العمليات العقلية المعرفية، فإنها تتأثر جميعًا بالحيز الثقافي وما يهيئه للأطفال من ظروف، حيث إن ما يكتسبه الطفل من خبرات ومهارات، تفعل فعلها في رسم العوالم الإدراكية للأطفال وفي توجيه تخيلاتهم نحو الإنشاء أو الهدم

ومن هذه المنطلقات نشأ حديثًا ما يسمى بـ”الطب النفسي الوقائي” تمشيًا مع القاعدة العامة بجعل الطب طبًّا وقائيًّا ما أمكن إلى ذلك سبيلاً. ووضع العلماء نظريات للتربية الوقائية، كما نبَّهوا على مواقف الأهل التربوية السيئة، التي إن أزمنت ساعدت على حدوث الانحرافات السلوكية والأمراض النفسية.

ولا ننسى أثر الثقافة وتأثيرها في نمو الأطفال، عقليًّا وانفعاليًّا وحركيًّا واجتماعيًّا.. وهذا التأثير لا يتخذ نسبًا واحدة، بل يتباين إلى حد كبير؛ فالبيئة الثقافية لا تؤثر في النمو الجسمي إلا في نطاق محدود، بينما تؤثر تأثيرًا كبيرًا في النمو الانفعالي والاجتماعي.

ففي مجال النمو العقلي الذي يتمثل في الذكاء، وكفاية العمليات العقلية -كالإدراك والتصور والتخيل والتفكير ونمو اللغة- يمكن التدليل على أثر الثقافة فيها من خلال الإشارة إلى ما تفعله هذه الجوانب؛ فالذكاء الذي يرتبط بالنجاح في التكيف مع البيئة الطبيعية والثقافية، والذي يقاس عادة بالقدرة على حل المشكلات أو بقياس ما لدى الطفل من مهارات ترتبط -في الوقت نفسه- بما يتعلمه الإنسان من بيئته الثقافية، إذ يتأثر (الذكاء) بتلك البيئة وبمدى ما تقدمه من عناصر. فالأجواء الاجتماعية التي يحيا فيها الطفل كالأسرة والمدرسة وجماعات اللعب والوسائط التربوية التي يشاهدها ويتمرس بها، ذات تأثير كبير في ذكائه.

أما بالنسبة إلى العمليات العقلية المعرفية، فإنها تتأثر جميعًا بالحيز الثقافي وما يهيئه للأطفال من ظروف، حيث إن ما يكتسبه الطفل من خبرات ومهارات، تفعل فعلها في رسم العوالم الإدراكية للأطفال وفي توجيه تخيلاتهم نحو الإنشاء أو الهدم، وكذلك في تحديد أنماط ومجالات تفكيرهم، لذا يمكن أن تكون البيئة الثقافية عاملاً من عوامل إنضاج ذكاء الأطفال وعملياتهم العقلية أو عوامل كبت لها، إذ إن القدرات العقلية والعمليات المعرفية هي خصائص طيّعة (أي قابلة للتغير)، لذا يمكن للمجتمع أن يطفئها فتخمد، أو يلهبها فتنمو.

وفي مجال النمو الانفعالي الذي يعني مستويات النضج المتمثلة في قدرة الطفل على استخدام انفعالاته استخدامًا بنَّاء، فإن الثقافة تلعب دورها الكبير في ذلك؛ فالانفعالات هي ظواهر نفسية اعتيادية، ولكنها تميل إلى الانحراف عندما تنحو إلى ما يسمى بـ”الاضطراب الانفعالي”، وعندما تؤول الاستجابات إلى ما هو غير متناسق.

لا شك أن الطفل يتخذ من عواطفه معيارًا يقيّم على أساسه بعض المواقف أو الأشياء أو الأشخاص في الغالب، حيث إن العواطف تقوم على أساس شخصي لا عقلي، وكذا الحال بالنسبة إلى الميول، أما الاتجاهات النفسية التي تمثل حالة استعداد ذهني نحو الأشياء أو الأشخاص أو الأفكار، فإنها هي الأخرى تُكتسب من البيئة عن طريق الخبرة والتعلم، وهي تؤثر في سلوك الطفل بما في ذلك إدراكه لما حوله من مثيرات ثقافية واجتماعية.

وهنا لا بد من الإشارة إلى أن ما يكتنف الثقافة من ظروف غير اعتيادية -كالقوة أو الخوف الشديد أو القلق- تؤثر تأثيرًا سالبًا في النمو الانفعالي للأطفال، لذا فإن وسائل ثقافة الأطفال تعمل على إبعاد شبح هذه الظروف عن الأطفال. أما بالنسبة إلى علاقة الثقافة بالنمو الاجتماعي للطفل، فيمكن القول إنه ما دام الطفل يحيا في ثقافة اجتماعية قوامها الوحدات الاجتماعية الأولية المتمثلة في الأسرة والجيران وجماعات اللعب والوحدات الاجتماعية الثانوية المتمثلة بالمدرسة وغيرها من مكوِّنات المجتمع.. فإن الطفل يتفاعل مع مفردات هذه الوحدات، ويكتسب بعض عاداتها وقيمها ومعاييرها وأفكارها وأوجه سلوكها الأخرى، مما ينقله إلى كائن اجتماعي سوي.

ونتوقف هنا عند بعض القواعد والتوجيهات النفسية والتربوية ذات التأثير الإيجابي الكبير على تكامل ونمو شخصية الطفل، وينبغي للآباء مراعاتها دائمًا لتنشئة طفل متوازن انفعاليًّا ووجدانيًّا، ومن أهم هذه القواعد:

1- الاتفاق على نهج تربوي موحد بين الوالدين

إن الطفل هو صنيعة والديه، فعلى الوالدين أن يلتزما بقواعد سلوكية تساعد الطفل على أن ينشأ في توازن نفسي.

إن نمو الأولاد نموًّا انفعاليًّا سليمًا، وتناغمَ تكيفهم الاجتماعي، يتقرران -ولحد بعيد- بدرجة اتفاق الوالدين وتوحد أهدافهما في تدبير شؤون أطفالهم. ولذلك على الوالدين إعادة تقويم ما يجب أن يتصرفا به حيال سلوك الطفل، ويزيدا من اتصالهما ببعضها البعض خصوصًا في بعض المواقف السلوكية الحساسة. فالطفل يحتاج إلى قناعة بوجود انسجام وتوافق بين أبويه، كذلك شعور الطفل بالحب والاهتمام، يسهّل عملية الاتصال والأخذ بالنصائح التي يسديها الوالدان إليه.

وبالتالي، يجب على الوالدين رسم خطة موحدة لما يرغبان أن يكون عليه سلوك الطفل وتصرفاته، لذلك شجِّعْ طفلك بقدر الإمكان على الإسهام معك عندما تضع قواعد السلوك الخاصة به، وخاصة حين يكون مدركًا لذلك وواعيًّا به، أو حين تعديلها، فمن خلال هذه المشاركة يحس الطفل أن عليه احترام ما تم الاتفاق عليه، لأنه أسهم في صنع القرار.

كما أن على الأبوين عدم وصف الطفل بـ”الطفل السيئ” عندما يخرج عن هذه القواعد ويتحداها. فسلوكه السيئ هو الذي توجَّه إليه التهمة وليس الطفل لئلا يحس أنه مرفوض لشخصه، مما يؤثّر في تكامل نمو شخصيته مستقبلاً وتكيفه الاجتماعي، ولذلك لا بد من توفير الوقت الكافي للاعتناء بالطفل ومشاركته في اهتماماته وألعابه، بما يتناسب وتطوره العقلي والنفسي. فالطفل بحاجة ماسة إلى ذلك، ويجد متعة كبيرة في ملاعبة أهله له فيأنس بهم ويتعلم منهم السلوك الواجب اتباعه مع الآخرين، كما يتعود عقد صلات الصداقة الطيبة مع الآخرين.

2- التدليل وفرط الحماية

يتمثل التدليل في تشجيع الطفل على تحقيق منظم لرغباته الملحة وغير الملحة في التو واللحظة دون تأجيل، وقد يتضمن التدليل تشجيع الطفل على القيام بألوان من السلوك قد نعتبرها معيبة، أو من الأساليب السلوكية غير المرغوب فيها اجتماعيًّا، وقد يتضمن أيضًا دفاع الأب عن هذه الأنماط السلوكية غير المرغوبة فيها، ضد أي توجيه أو نقد يصدر إلى الطفل من الداخل أو الخارج.

والطفل المدلل ينمو ضعيف الشخصية، يعتمد على الغير، وغالبًا ما يسهل استثارته واستمالته للفساد، كما يتسم بعدم الاستقرار على حال، وعدم النضج الانفعالي.. ويتسم أيضًا بانخفاض قوة “الأنا” وتقبل الإحباط، وهذه بالطبع مؤشرات دالة على انخفاض الصحة النفسية. وكما أن من حق الطفل أن تلبى طلباته وبسرعة في السنة الأولى من العمر، لأنه لا يدرك حقائق الأشياء، ولا يعي متطلبات الظروف، ولأنه لا يطيق صبرًا على الحرمان أو عدم الاستجابة، فيبكي لأتفه الأسباب ولأقل حرمان، لكن من الواجب ومن تمام محبة الطفل، أن تعوده من مطلع السنة الثانية من عمره، بالتدرج وبالشكل المتوافق مع درجة نموه وفهمه.

ولذلك ومع تقدم الطفل في السن، يتمادى في غيه ولا تنضج شخصيته بالشكل السوى، ويتعود الخضوع لرغباته ونزواته الابتدائية، أو بالأحرى يصبح أسيرًا لها بعد أن عوده أهله الخضوع لرغباته غير الناضجة وغير المتوافقة مع سنه، والنتيجة هو أن يصبح الطفل نزوانيًّا غير مكترث بالآخرين، عجولاً سريع الغضب في حال عدم تلبية رغباته.

3- عدم الإفراط في العقاب

وهذا الموقف كثير المشاهدة في البيئات المتأخرة خاصة، أي معاقبة الطفل على كل خطأ كبير أو صغير وبشدة لا تتناسب مع درجة الخطأ، بل قد يكون الخطأ نتيجة عدم نضج الطفل وعدم إدراكه لنتيجة تصرفه، وفي هذه الحال لا تجوز المعاقبة، بل الواجب تنبيه الطفل وإرشاده إلى طريق الصواب، وأما في حال تكرار الخطأ وتعمده رغم التنبيه الكافي ورغم نضج الطفل، فيجب المعاقبة ولكن بشروط معينة؛ فالعقاب يجب أن يتناسب مع درجة تطور الطفل، وأن يكون المقصود منه واضحًا للطفل، وأن يتوقع منه أن يكون مجديًا، وأن لا يترافق بالانفعالات الشديدة، وأن يكون هدفه الواضح للطفل هو مصلحة الغير أو مصلحته التي يجب المحافظة عليها، لا حب الانتقام أو التشفّي أو التفريج عن الكبت، أو التعبير عن كراهية أو حقد له ولو من وجهة نظر الطفل.

إن نمو الأولاد نموًا انفعاليًّا سليمًا، وتناغم تكيفهم الاجتماعي، يتقرران بدرجة اتفاق الوالدين وتوحد أهدافهما في تدبير شؤون أطفالهم، ولذلك على الوالدين إعادة تقويم ما يجب أن يتصرفا به حيال سلوك الطفل.

إن استجابة الطفل لكثرة العقاب هو الشعور بالخوف والتردد، والشعور بالضعف والنقص والعودة للسلوك المستدعي للعقاب، مما يترتب عليه إذا استمر انتقاص الذات وتشكل مركب النقص عنده.

4- طلب الكمال

ويقصد به مطالبة الطفل بإنجازات على درجة من المهارة والإتقان هي أعلى من مستواه وقدراته العقلية وإمكاناته الجسدية، وهذا الموقف الخاطئ كثير المصادفة إن لم نقل إنه عام، ولكن على درجات متفاوته، ويقف الأهل هذا الموقف بدافع من حرصهم على تفوق ابنهم وسرعة نضجه. ونلاحظ أن الأمهات يردْنَ لأولادهنَّ التفوق على بقية الأولاد في كل شيء أو مجاراتهم على الأقل، ويشعرن بالغيرة في حالة تقصير أولادهنَّ هذا إن لم يبلغ بهنَّ الحال إلى درجة الحزن والقلق والإحباط.

وفي مثل هذه الظروف يستجيب الطفل ببذل الجهود والطاقة، ويبدي اهتمامًا ذهنيًّا زائدًا لتحسين سلوكه وإنجازاته، ولكن حين لا يدرك المستوى المطلوب يبدأ بانتقاص نفسه، ويبدأ مركب النقص بالتشكل عنده.

5- الإفراط في التوجيه

ويقصد بذلك زيادة مراقبة الطفل وتوجيهه أو إعطائه الأوامر في كل كبيرة وصغيرة، فلا يترك الأهل لطفلهم حرية التصرف أو المبادرة أو إنجاز الأعمال بالطريقة التي يريدها، بل يتدخلون -وبشكل غير معقول- في حياة طفلهم أو يافعهم في سلوكه وأعماله رغم أنه أصبح في غنى عن توجيههم، أو أن له الحق في التصرف بشكل آخر غير الذي يرونه هم ليتعلم من تجاربه وأخطائه.

إن الطفل لا يستطيع فكاكًا من أهله بطبيعة الحال، فلذا نراه يستجيب تجاه هذا الموقف المرضي بالتخاذل والاعتماد على التوجيه الخارجي، وبالمماطلة والتردد والنسيان، أو على العكس من ذلك بالتمرد والعصيان والعناد، أي إن استجابة الطفل تكون بالمقاومة الخفية أو بالمقاومة الظاهرة.

6- التساهل والإهمال

قد يقاسي بعض الآباء في مطلع حياتهم من الأساليب اللاتربوية التي كانوا يُعامَلون بها في أسرهم من ظلم واستبداد، الأمر الذي يؤلمهم فيكبتونه كخبرة سيئة، وعندما يتشكك هؤلاء الآباء في قيمة النظام والسلطة، فيتركون أطفالهم يفعلون ما يشاؤون بلا ضابط أو رابط، فيؤدي هذا إلى تنشئة أطفال لا يحفلون بمراعاة القواعد والأصول، سواء داخل المنزل أو خارجه.

أما الإهمال فهو يتمثل في ترك الطفل دون تشجيع من والديه -وخاصة الأب- على أي سلوك مرغوب فيه أتى به، أو دون محاسبة على أي سلوك غير مرغوب فيه فعله وقام به، هذا بالإضافة إلى تركه دون توجيه إلى ما يجب أن يفعله من سلوكيات، أو ما لا يفعله.

ومن هنا يتبين أهمية التوازن في تربية الطفل وتنشئته، وكذلك أهمية الانضباط، والذي يعني تعليمه السيطرة على ذاته وسلوكه السلوك المناسب والمقبول. وبذلك يتعلم الطفل احترام ذاته، والسيطرة عليها من خلال تلقي الحب والانضباط من جانبك.