الإيمان والشفاء

ظلت العلاقة بين الإيمان والشفاء محل نظر وجدل ولا تزال. فمعظمنا سمع عن أناس برءوا من أمراض مزمنة بسبب إيمانهم، وقد ظل استكشاف تلك العلاقة أمرا يثير السخرية بين أوساط العلماء والأطباء قرونا عديدة. ووصل الأمر في الخمسة عشر عاما الأخيرة أن اعتبر انتحارا أكاديميا أن يقدم أحد الباحثين دراسة يلمح فيها لأمر كهذا.
غير أن هذا المفهوم آخذ في التغيير، فقد بدأ المتخصصون في معاهد كبرى إجراء أبحاث علمية حول أثر الإيمان في الشفاء. ويمكننا تبين ذلك من المؤتمرات الحديثة المنعقدة في هارفارد وفي عيادة مايو وفي الجمعية الأمريكية لتطوير العلوم المعروفة اختصارا بـ (AAAS).
وفيما يلي أمثلة لهذه الدراسات العلمية والقائمين بها وما توصلوا إليه من نتائج:
د. ديفيد لارسون
الطبيب النفسي ديفيد لارسون هو رئيس المعهد القومي لبحوث العناية بالصحة ومؤلف الكتاب التعليمي “العنصر المنسي” الذي قام بتأليفه بالاشتراك مع زوجته سوزان.
ويناقش في كتابه هذا العلاقة بين الصحة والدين. وتقول الأرقام التي وردت في كتابه عن طريق استطلاع “جالوب” أن 95 بالمائة من الأميركيين يؤمنون بالله، وعلى الرغم من أن النصف يؤمنون بوجود النار فهناك 80 بالمائة يثقون بأن الله غفور رحيم ولا يعذب بها، وهناك 40 بالمائة يحضرون القداس الأسبوعي.
وأثناء عمله كطبيب نفساني مقيم في جامعة ديوك سأل لارسون أستاذا جامعيا عن كيفية إدماج الإيمان في الممارسة الطبية النفسانية، وكانت الإجابة: “أأنت من النوع الذي يحب أن يؤمن الناس كما تؤمن أنت؟” وعلى الرغم من أن إجابة لارسون كانت بالنفي إلا أن الأستاذ الجامعي استمر قائلا: “يبدو أنك ستضر بمرضاك”. ويقول لارسون إن أي أحد يثير أمرا كهذا سيُدمَغ بأنه أصولي، غير أن أبحاثه الواسعة ومنشوراته جذبت له الأنظار مما ساهم في تمويل المعهد القومي لأبحاث العناية بالصحة. فبرنامج الإيمان في الطب الذي يموله المعهد يعطي منحا قدرها عشرة آلاف دولار لمدارس الطب لدراسة مناهج حول الدين والصحة.
وكانت جامعتا جونز هوبكنز وجورج واشنطن من بين أحد عشر مدرسة تلقت تلك المنح.
د. هارولد كونيج
يعد هارولد كونيج -الذي يعمل أستاذاً مساعداً للطب النفسي ومديرا لمركز دراسة الدين والروحانية والصحة التابع لمركز جامعة ديوك الطبي- من بين رواد دراسة قدرات الإيمان الشفائية.
لاحظ كونيج لأول مرة أهمية الإيمان كعنصر مساعد للشفاء حين كان طبيب عائلة مبتدئ. فقد عرضت عليه حالة مريضة أدخلت إلى المستشفى لمدة شهر على إثر جراحة في الفخذ. مات زوج تلك المرأة من جلطة فجائية وسقطت المرأة على الجليد أثناء سيرها في جنازته وأصيبت بشرخ في الفخذ. أما طبيبها فقد حذر كونيج بأن المرأة منهارة عاطفيا. وفي الحقيقة واجهت المرأة أحداثا تؤدي بطبيعتها إلى الاكتئاب، وعليه تقوض عملية الشفاء.
من أجل هذا أصيب كونيج بالدهشة حين رأى تلك العجوز منبسطة الأسارير حين دخل غرفتها وسمعها تقول له: “هل من شيء أؤديه لك أيها الطبيب؟”
ولاحظ كونيج عدم وجود أي علامة ظاهرة تدل على الاكتئاب أو التعب أو حمرة العينين من الدموع أو صعوبة التركيز عند هذه السيدة. وبمحادثتها اكتشف كونيج أنها احتفظت بهذا المرح والرضا بقراءتها للكتاب المقدس، وانبرت المرأة قائلة له: “إذا استيقظت فوجدت نفسي وحيدة أو مذعورة فإنني أقرأ الكتاب المقدس أو أتحدث إلى الرب، فهو دائما معي حتى حين يتركني الأحباب، وهذا أهم شيء يبعث الأمل في جوانحي.”
وتعجب كونيج، وحين شفيت المرأة، وجد نفسه مدفوعا لدراسة الأثر الطبي لهذا الإيمان العميق. ومنذ ذلك الحين أخبره مرضى كثيرون كيف استطاعوا بإيمانهم التواؤم مع ما هم فيه وعجّل هذا الأمر شفاءهم.
بل وجمع فريقُه الطبي الذي درس حالات آلاف الأميريكيين منذ عام 1984 أدلة دامغة على أن الإيمان الديني لا يحسن الصحة العامة فقط ولكنه يساعد المرضى على الشفاء من الأمراض المزمنة.
يقول كونيج: “حين يصلون لله يكتسب المرضى نوعًا غير مباشر من التحكم في عللهم وهم يوقنون أنهم ليسوا وحدهم في كفاحهم ضد المرض، فالله معهم بنفسه. ويساعدهم هذا اليقين على التغلب على الإحساس بالوحدة الشعورية والذي يؤذي الكثير من المرضى”. وفي دراسته لـ 455 حالة من مرضى مستشفى العجائز وجد كونيج أن الأشخاص الذين يحضرون إلى الكنيسة أكثر من مرة أسبوعيا يقضون 4 أيام فقط في المستشفى، بينما يقضي أولئك الذين لا يذهبون إلى الكنيسة أو يذهبون إليها نادرا حوالي 10 إلى 12 يوما حتي يتم شفاؤهم.
ديل ماثيو
ديل ماثيو يعمل أستاذًا مساعدًا للطب النفسي بالمركز الطبي التابع لجامعة جورج واشنطن بواشنطن. أثناء عمله كطبيب داخلي مبتدئ في أوائل الثمانينات قابل ماثيو مريضًا على قدر كبير من الإيمان ترك أثرًا كبيرًا على حياته. وقبل أن يسمح له بالشروع في علاجه قال الرجل له: “أنا مسيحي صالح، فإن كنت تريد أن تصبح طبيبي فإني أريد منك أن تصلي معي”. لم يتحدث ماثيو من قبل عن إيمانه مع مرضاه، ولذا فقد كان متمنعا في البداية. ولكنه وضع يده في يد الرجل الذى أمل أن يظل الأمر سرا بينهما، فهو لا يريد أن يصمه الناس أنه “غير علماني”، غير أنه انتبه على صوت الرجل الذي دوى في غرفة الكشف، لكنه تبين أن مريضه كان كلا متكاملا وليس أعراضا تجمعت وشكلت حالة معينة. وقد دفعه هذا إلى أن يصبح حساسا لأي إشارة تبين أن الإيمان هام للمريض. فإذا ما خاطبه أحد قائلا: “أتمنى من الله ألا يظهر شيئا سيئا في هذه الاختبارات” أجابه ماثيو قائلا: “أخبرني عن صورة الله في عقلك”. ويقول ماثيو: “قد لا يمكننا أن نثبت علميا أن الله يشفي، لكنني أعتقد أن بإمكاننا أن نثبت أن الإيمان بالله يترك آثارًا طيبة”. ولذا ضمّن ماثيو كتابه الأخير “عنصر الإيمان” حكما دينية وأبحاثا علمية وقصص المرضى حتى يثبت العلاقة بين الإيمان والصحة.
نتائج إحصائية
بدأت معاهد الرعاية الصحية في الاهتمام بالعلاقة بين الإيمان والصحة. فقد قامت مدرسة الطب بهارفارد، عيادة مايو، والجمعية الأمريكية لتطوير العلوم برعاية مؤتمرات حول الصحة والروحانية، بل إن ما يقارب نصف كليات الطب الأمريكية تدرس مناهج دراسية في هذا المجال.
وفيما يلي نتائج بعض الدراسات المنشورة في هذا المضمار:
في استطلاع تم توزيعه على 269 طبيبا عام 1996 في أحد اجتماعات الأكاديمية الأمريكية لأطباء العائلات قال 99 بالمائة إنهم يعتقدون أن المعتقدات الدينية يمكن أن تساهم في الشفاء. وحينما سئلوا عن تجاربهم الشخصية أجاب 66 بالمائة من الأطباء أن الله تدخل وحسن أحوال مرضاهم، بل وبدا الحماس على المرضى بشدة وهم يبينون أن الصلاة أداة فعالة في الشفاء.
كما أظهرت استطلاعات الرأي المنشورة في التايم وسي إين إين أن ثمانين بالمائة من الأمريكيين يرون أن الإيمان والصلاة يمكن أن يساعدا الأفراد على الشفاء من المرض أو الإصابة، وأكثر من 60 بالمائة يعتقدون أن على الأطباء أن يتحدثوا إلى المرضى حول الإيمان بل ويصلون مع من يطلبون ذلك.
طبقا للباحثين في جامعة كولومبيا فالأطفال أبناء الأمهات الملتزمات دينيا أقل عرضة للاكتئاب في المراحل المتأخرة من حياتهم. وفي الدراسة تمت متابعة 60 أما و 151 طفلا لمدة 10 سنوات لتحديد ما إذا كان هناك علاقة بين التزام الأم دينيا وتعرض طفلها للإصابة بالاكتئاب. وأظهرت الدراسة أن الإناث -وليس الذكور- اللائي ولدن لأمهات ملتزمات دينيا كنّ أقل عرضة للاكتئاب بنسبة 60 بالمائة خلال متابعة دامت طيلة 10 سنوات. وكان ثاني العناصر أهمية في وجود الإصابة بالاكتئاب هـو مدى اعتناق الطفل لدين الأم؛ فحين اتحد مذهب الأم وابنتها تبين أن الاكتئاب يقل بنسبة 71 بالمائة بينما تصـل النسبة في الذكور إلى 84 بالمائة.
أحد أبرز النتائج أيضا هو أن الأمهات الملتزمات هم أنفسهم أقل عرضة للاكتئاب. فقد أظهرت متابعة 10 سنوات أن الأمهات اللاتي يجعلن جل اهتمامهن هو الدين يقل تعرضهن للاكتئاب بنسبة 81 بالمائة. وتوافقت هذه النتيجة مع الدراسات الأخري التي بينت العلاقة العكسية بين الإيمان والاكتئاب، وتوجد تفسيرات متعددة لهذه النتائج. كما بين أولئك الباحثون أن الأمهات الملتزمات دينيا أقل عرضة للطلاق ويقل فيهن فقر الأداء الاجتماعي والذي يؤدي وجود أي منهما إلي إصابة الأطفال بالاكتئاب. كما أثبت تعليل آخر أقرته دراسة في كلية الطب بفرجينيا أن الدين يحمي الناس من الاكتئاب بتخفيف رزايا الحياة عنهم.
أظهرت دراسة أجريت بكلية طب دارتموث أن عدد الموتى من بين مرضى القلب الذين يجرون جراحة يزيد 14 ضعفا إن لم يشتركوا في أنشطة جماعية ولم يتلمسوا الراحة في الدين. فقد مات 21 مريضا خلال ستة أشهر بينما لم تمت أي حالة من بين 37 شخصًا آخرين قالوا جميعا إنهم ملتزمون دينيا.
أظهرت دراسة تمت في جامعة ييل على 2812 من كبار السن أن أولئك الذين لم يذهبوا إلى الكنيسة أو ذهبوا نادرا إليها كانت نسبة إصابتهم بالسكتة ضعف نسبة الإصابة بين الذين داوموا على الذهاب.

كما أظهر استطلاع تم توزيعه على 5286 مواطن بولاية كاليفورنيا أن معدلات الوفاة بين أعضاء الكنيسة أقل من معدلاتها بين غير الأعضاء بغض النظر عن عناصر الخطر مثل التدخين والشرب والسمنة وعدم النشاط.
تقل الأعراض وتحسن النتائج الصحية عند المرضى المتدينين بنسبة 7 من بين كل 8 مصابين بالسرطان، 4 من بين كل 5 مصابين بضغط الدم و 4 من بين كل 6 مصابين بأمراض القلب، و 4 من بين كل 5 مصابين بأمراض صحية عامة. وطبقا لأحد التحليلات البحثية فإن المرضى المتدينين أقل ميلا للاكتئاب والانتحار وشرب الخمر وغيرها من أنواع الإدمان.
هل تنفعنا صلاة الآخرين؟ في دراسة أجراها طبيب باطني يدعى راندولف بيرد عام 1988 تم تقسيم 393 من مرضى القلب بمركز المستشفى الطبي العام بسان فرانسيسكو إلى فريقين، صُلي من أجل الفريق الأول بينما لم يُصَلّ أحد من أجل الفريق الثاني ولم يَعرِف المرضى لأي جماعة ينتمون. وظهر أن المجموعة التي صُلي لها عانت من مضاعفات أقل، والتهاب رئوي أقل، وأزمات قلبية أقل، وكانت حاجتهم للمضادات الحيوية أقل.
قام باحثون بإجراء دراسة على عينة من السكان عددهم 2730 في مشروع دراسي بحثي طويل الأمد يعرف باسم دراسة ضاحية ألاميدا. وتبين لهؤلاء الباحثين أن الأفراد الذين يحضرون المراسم الدينية ويشاركون في الأنشطة الأخرى التي تتم من خلال مكان عبادتهم ينالون حماية من ضغوط الأعباء المالية والمسائل الصحية والمشاكل الأخرى.
وفي دراسة أجريت على 600 شخص من بين مرضى المستشفيات المختلفة تتراوح أعمارهم بين الخامسة والخمسين وما فوقها قاس الباحثون 47 طريقة للتوافق. وتبين لهم أن المرضى الذين التجأوا إلى الله وطلبوا العون الروحي من القس وأعضاء الكنيسة كانوا أقل عرضة للاكتئاب وعاشوا حياة أفضل حتى بعد أن أخذوا في الاعتبار شدة مرضهم؛ كما اتضح للباحثين أن المرضى الذين أعطوا دعما روحيا لغيرهم عن طريق الصلاة لهم أو تشجيع إيمانهم تحسنت أحوالهم.
وأظهرت دراسة حديثة أخرى تمت في جامعة ديوك نتائج مذهلة؛ ففي أول دراسة لاختبار دور الدين في علاج الاكتئاب تابع الباحثون 87 مريضا تزيد أعمارهم عن الستين، وشخصت حالتهم على أنها اضطراب اكتئابي بعد إدخالهم إلى المستشفى على إثر أمراض جسدية. واكتشف هؤلاء الباحثون أن الدين يمكن أن يساعد الناس على الشفاء من الاكتئاب بل إن الحقيقة أنه كلما ارتفعت إيمانيات المريض كلما زادت سرعة شفائه.
خاتمة
هل يمكن للإيمان حقا أن يشفي؟ بعض الباحثين يرون أن الإجابة بالطبع نعم؛ غير أن دراسة العلاقة بين الإيمان والشفاء الجسدي ما زالت ناشئة، لكن هناك علامات هامة أن للإيمان أثرا إيجابيا على الصحة تكمل أثر الدواء والجراحة. ويوما بعد يوم تتزايد نسبة المهتمين -في معاهد لها مكانتها- الذين يدرسون العلاقة بين الإيمان والشفاء بالطرق العلمية. تلك العلاقة التي اعتبرت دراستها أمرا مستهجنا في يوم من الأيام أصبحت تؤخذ اليوم مأخذ الجد في الدوائر العلمية. وبغض النظر عن النتائج فمجرد وجود هذه الجهود يبشر بتوسع احتمالات التعاون بين الإيمان والعلم ويؤدي إلى فهم أفضل للطبيعة البشرية.